أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

"الوطنية الحديثة":

بناء الهوية في المجتمعات التكنولوجية.. سنغافورة نموذجًا

16 يناير، 2017


بالرغم مما تشير إليه الأدبيات العلمية من دور بارز لأدوات التكنولوجيا الكلاسيكية (مثل: الكتابة، والطباعة) في بناء وترسيخ الهويات الوطنية التقليدية للدول عبر التاريخ، فإن التطورات التكنولوجية التي يشهدها العالم (مثل: الأنترنت، الهواتف الذكية، وغيرها) تعد بمثابة تحد لهذه الهويات، خاصة في الدول حديثة النشأة. فهناك الكثير من الأسئلة حول مدى قدرة تلك الهويات الوطنية التقليدية على الصمود في مواجهة تأثيرات التكنولوجيا والتي دفعت الأفراد إلى تأسيس مجتمعات افتراضية وهويات بديلة. في المقابل، فثمة رؤى أخرى ترى أن لدى مجتمعات التكنولوجيا فرصًا كبيرة في الحفاظ على هويتها الوطنية لما تلبيه وتشبعه التقنية الحديثة لأفراد الوطن من حاجات ورفاهية وإنجاز وشعور بالفخر والتقدم.

التكنولوجيا وتحديات الهوية:

في أحد تعريفاتها، تعني الهوية الوطنية ذلك الشعور العام بالتجانس عبر العادات، والثقافة، واللغة، والسياسة، والذي يقدم إجابة لدى أفراد المجتمع السياسي ذات المعالم والحدود الجغرافية المرسومة على سؤال: "من نحن؟"، بما تحمله الإجابة من إدراك للأصل المشترك، أو الثقافة، أو الدين، أو الإثنية، أو الخبرات، أو تشارك الخصائص الأخرى مع أفراد المجتمع الآخرين من جانب، ووعي بالاختلاف عن المجتمعات الأخرى عبر الإجابة على سؤال "من هم؟" من جانب آخر.

إذن. فلا يمكن الحديث عن الهوية الوطنية دون الحديث عن البعد الإدراكي والشعوري بالمشترك لدى الفرد داخل المجتمع الوطني، وإدراكه كذلك للوطن وفق عوامل عدة، من بينها: الجغرافيا، ومنظومة القيم التي يتشاركها الأفراد داخل المجتمع، وشعور المواطن بالفاعلية والدور في تأسيس أو الإبقاء على هذا المشترك.

ومن ثمَّ، فإن الحديث عما تمثله التكنولوجيا من تحدٍّ للهويات الوطنية التقليدية داخل المجتمعات الحديثة التي تعتمد التقنية بشكل كبير يرتبط بعناصر عدة، أبرزها ما يلي:

 1- تعزيز المشترك الخارجي مقابل الداخلي: وفق "بندكت أندرسون" في كتابه الشهير "المجتمعات المتخيلة"، تلعب وسائل التكنولوجيا دورًا هامًّا في تأسيس الشعور بالمشترك لدى أفراد المجتمع عبر التأثير على الجانب الإدراكي الشخصي لما هو مشترك. ففي مقابل الشعور بالداخلي (الوطني) المشترك لدى أفراد المجتمعات (مثل: اللغة، أو الدين، أو الأصل، أو الحدود، أو غيره، بما يعزز من بناء وترسيخ الهوية الوطنية)، فإن تكنولوجيا الاتصالات والإنترنت بشكل خاص تُسهِّل خلق عملية عكسية؛ حيث تعزيز الشعور بالخارجي المشترك في مقابل الداخلي (الوطني). هذا الشعور يتم عبر عملية مدركة من قبل أفراد المجتمعات الوطنية، أي باختيار واعٍ من قبل هؤلاء وفق منطق المصلحة أو المنفعة التي قد لا يجدها الفرد في المجتمع الوطني، أو عبر عملية غير واعية تُعد تتويجًا لعمليات متتالية ومتكررة من التعبير عما يريد الفرد أن يكون عليه أو يراه الأفراد عليه وليس ما هو عليه في الواقع، حيث تُكوِّن انطباعات أعضاء الوسط الاجتماعي -مثل الإنترنت- دورًا هامًّا في تشكيل هويتنا الاجتماعية التي تعد الهوية الوطنية جزءًا منها ومثالا لها.

2- إنتاج هوية غير مقيدة بالحيز الجغرافي: تبدو أبرز تأثيرات صعود تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، فيما أشارت إليه نظريات "رأس المال المعلوماتي" من انحسار تأثير الحدود والسمات والروابط الجغرافية وما ألمحت إليه من أزمات جذرية في خبرات الشعور بالمكان والتاريخ لدى أفراد المجتمعات التكنولوجية قادرة على فصل المكان عن الهوية، وإنتاج هوية غير مقيدة بالحيز المكاني. 

هنا -على سبيل المثال- يكشف "ديفيد هولمز" في كتابه "السياسة الافتراضية" كيف أن الثقافة العابرة للجغرافيا وسهولة وحرية تدفق المعلومات التي لا ترتبط بحدود أدت إلى ظهور بيئات إلكترونية محاكية للواقع بالنسبة للبعض، أو مقابلة أو مكملة له بالنسبة للبعض الآخر. وقد أزالت هذه البيئات الحدود الجغرافية والمكانية للمجتمعات، ومركزية المكان في العلاقة ما بين الأفراد داخل المجتمعات. وهكذا يبدو الرباط الجغرافي الذي يُعد مكوِّنًا هامًّا للهوية الوطنية داخل بعض المجتمعات التقليدية مقطوعًا أو مهددًا بالانقطاع في مجتمعات أخرى، ويطرح الكثير من الأسئلة حول مدى قدرة الهويات الوطنية على الصمود في مواجهة "المجتمعات الافتراضية" أو "المجتمعات السيبرية" كنماذج لما أسماه "هولمز" بالمجتمعات المقتطعة أو المنفصلة "Abstracted communities" عن المجتمعات الأصلية الوطنية.

3- الفاعلية البديلة للفرد: في مواجهة الأوطان التي قد لا تُتيح بالضرورة لأفرادها الفاعلية أو الدور في الحاضر، أو في تأسيس المستقبل عبر تحديد ما هو مشترك، فإن المجتمعات التكنولوجية البديلة تُتيح دورًا كبيرًا للمشاركين داخلها. فالفرد داخل هذه المجتمعات المقتطعة أو الافتراضية ليس مجرد مستقبِل يتعرض لمضمون رسالة النخبة مثلما تكون حالته في المجتمعات الوطنية التقليدية، بل أصبح بإمكانه تبادل الأدوار مع المرسِل. والقيام بدور نشيط وبنّاء جزء هام من مضمون الرسالة ذاتها.

4- قيم العولمة في مواجهة القيم الوطنية: لما كانت وسائلُ التكنولوجيا تلعب مجموعةً من الأدوار المتداخلة في حياة الأفراد في المجتمعات، خاصة مع ما يتيحه الإنترنت اليوم من القيام بوظائف إخبارية، وتعليمية، وتنموية، وترفيهية، عبر سمات تفاعلية لا تزامنية (إمكانية الوصول إليها في أي وقت مناسب لكل مستخدم)، والقابلية الحركية (القابلية للحمل والتنقل بها)، والفورية؛ فإن هذا النفاذ اليومي في حياة الأفراد داخل المجتمعات الوطنية يُتيح نفاذًا آخر لقيم جديدة لدى الأفراد قد تكون مختلفة عن القيم الأصلية التي تحملها مجتمعاتهم. ويحمل رمزيات جديدة في مقابل الرمزيات الوطنية التي تُقدِّرها وتحتفي بها المجتمعات كأداة لترسيخ الشعور بالهوية.

فالذكرى لم تعد بالنسبة لكثيرٍ من الأفراد هي مناسبة وطنية تقوم بإحيائها الدول أو الحكومات بشكل رسمي أو يحتفي بها أفراد المجتمع الوطني، بل قد تكون في هذا العصر ما يذكرنا به محرك جوجل في افتتاحيته اليومية على سبيل المثال، أو ما يحتفل به الأفراد من مناسبات عالمية عبر وسائط التواصل الاجتماعي، مثل: فيسبوك، وتويتر، بمشاركة شعارات أو رموز أو حالات Statuses مشتركة عابرة للوطنية.

رؤية عكسية لتعزيز الهوية:

على الرغم مما يراه البعض من دور سلبي للتكنولوجيا في تأثيرها على الهويات الوطنية وفق ما سبق، إلا أن مقاربة أخرى يمكن من خلالها الحصول على رؤية عكسية لتأثير التكنولوجيا على عملية تعزيز بناء الهوية الوطنية في المجتمعات. فالتكنولوجيا مثلما تشكل تهديدًا للعناصر التقليدية في بناء الهوية، فإنها قد تُمثِّل دعمًا وتقوية لشعور الأفراد بالانتماء الوطني إلى مجتمع حديث ومتطور، كون هذا المجتمع قادر على توفير متطلبات الأفراد، وتيسير سبل الحياة ووسائل الراحة لهم، وحصولهم على الخدمات الضرورية بوسائل تكنولوجية عدة وبأقل مجهود. هذا بالإضافة إلى قدرة مجتمعات التكنولوجيا على إشباع حاجات أفرادها المعرفية والترفيهية بشكل آنيٍّ، وهو ما قد لا يجده الفرد في مجتمع آخر أقل اعتمادًا على التكنولوجيا، وبالتالي يُعزز احتياج الفرد إلى هذا المجتمع التكنولوجي عبر عملية إدراكية ترتبط بحسبة المصلحة.

وتنبع تلك المقاربة مما خلُص إليه عالم الأنثربولوجيا "كليفورد جيرتز" من أن الانتماء إلى هوية بعينها هو قائم على إدراك لبعدين؛ بعد أصلي أو طبيعي متعلق بالجزء المعنوي لدى الفرد، وبعد آخر يشبع مصلحته بشكل براجماتي في المقام الأول. فبخلاف رابط الهوية الأساسي (primordial) وفق كليفورد جيرتز، كرابط موروث وحصري معبر عن تشارك أفراد المجتمع رابطة الدم أو/و العرق أو/و الأرض أو/و الدين أو/و العادات أو/و التقاليد، فهناك "الرباط الآلي" Instrumental؛ حيث يكون ارتباط الأفراد وانتماؤهم للمجتمعات التي تفيدهم أو تحقق لهم المكاسب العملية، وهي مكاسب تكون في الأغلب اقتصادية أو سياسية.

وتستند عملية الارتباط بالهوية الوطنية في الحالة الثانية بالوعي العقلي، حيث الحاجة إلى حماية المصالح في المقام الأول وليس على درجة القرب الأصلية أو التاريخية أو العواطف، وهكذا يكون انتماء الأفراد إلى مجتمعات وطنية -في كثيرٍ من الأحيان- عبر علاقات رسمية ذات نوايا أو دوافع مسبقة. فعلى سبيل المثال، قد يملك شخص ما طلاقة استخدام أكثر من لغة، لكن قراره بالبقاء في مجتمعه أو اختيار مجتمع آخر يعتمد هنا بالأساس على رؤيته للمكان الذي يشبع ويحقق مصالحه وطموحه، ويُضفي على حياته معنى باختيار حر وواعٍ منه وفق ما يراه مصلحته.

وعلى الرغم من أن البعض يرى في بُعدَي الانتماء الأساسي والآلي تضادًّا، إلا أن العمل على بناء ما يمكن وصفه بـ"الوطنية الحديثة" قد يكون صهرًا للبعدين في بوتقة واحدة. إنه مزيج الإدراك الفردي للمعنى وللمصلحة في علاقة تفاعلية ما بين البعدين. كما ذهب المؤرخ "إرنست رينان" في كتابه الشهير "الوطن والرواية" والذي يشير إلى أهمية مزج القديم والحديث، المعنوي والمادي، عند الحديث عن بناء الأوطان القوية.

بناء "الوطنية الحديثة" من أعلى 

ويُشتق مصطلح "الوطنية الحديثة" من مقاربات "الوطنية الليبرالية" و"الوطنية المدنية" التي طرحها منظِّرون أمثال "جون ستيوارت ميل" و"إرنست رينان" وغيرهما من الكتاب المعاصرين، وهي تلك التصورات التي تضفي أهمية على شقين للمفهوم:

- الوطنية: حيث أهمية وجود هوية وطنية للأفراد داخل المجتمعات، ومن ثم الحاجة إلى دور للدولة في تغذية الثقافة والقيم الوطنية المشتركة التي تجمع أفراد المجتمعات متماسكة ومستقلة عن محاولات تهديد هذا الاستقلال.

- التمدين: حيث الإيمان بأهمية أن تقوم المجتمعات على الاستيعاب، وقبول التنوع الثقافي، والتسامح، والمساواة، واحترام القانون، والديمقراطية، والبحث عن الريادة والتطور، والقدرة على المنافسة، كبعد أساسي ضروري لبقاء المجتمعات وتطورها.

إن صيغة الوطنية الحديثة تجمع ما بين الروابط الأصيلة القديمة داخل المجتمعات التي تعزز الشعور الوطني بالحديث المتمدين الذي يحقق المصلحة والحلم بالتفوق والريادة، واستيعاب الاختلاف كأحد نواتج التحديث. وتستند تلك المقاربة إلى قناعة لدى أصحابها بأن المحافظة على الروابط القديمة فقط في المجتمعات قد تعزز التناحر والنزاع داخلها، أو تدفعها نحو الماضي، بما قد يحول أو يعطل من عملية تقدمها. وأن تعزيز الروابط الحديثة في المجتمعات فقط -بمنطق المصلحة والعبور الثقافي- قد يؤدي إلى التأثير على الروابط القديمة، بما يجعل من استقلالية المجتمعات تحت التهديد، ويعزز من الحالة الفردانية أو المادية أو حالة بناء الهويات المقابلة أو البديلة. 

وإن كانت الهوية الوطنية التقليدية عادةً ما ترتبط بما راكمه الماضي، فإن الوطنية الحديثة قد تكون خيارًا طوعيًّا يبحث عنه الأفراد، سواء كان الباحثون عن المصلحة أو الحداثة، أو غيرهم من الباحثين عن الأصالة والشعور بالانتماء والرباط العاطفي وفق العوامل الأصلية المشكِّلة للهويات. وهكذا تشبع الهوية الوطنية الحديثة تفضيل كل فرد من أبناء المجتمع، وتضع التفضيلات المختلفة في قالب توافقي يسع الجميع، لا في حالة تضاد أو تنافر، ولكن في حالة انسجام واستيعاب، عنوانه التقدم والتفوق والريادة والمنافسة، ويجمع في طياته الحفاظ على الكثير من الخصائص الأصلية للمجتمعات الوطنية التقليدية، ويتيح لأفراد تلك المجتمعات تحقيق مصالحهم وإشباع حاجاتهم المادية والمعنوية.

وبينما يتم بناء الهوية الوطنية عبر عوامل اجتماعية وتاريخية مثل اللغة والدين والإثنية والجغرافيا ونمط الحياة والتاريخ والقيم والعادات، وكذلك إدراك الأفراد للطابع الوطني لتلك العوامل، بما يجعلها رباطًا بين أفراد المجتمع السياسي؛ فإن الهوية الوطنية الحديثة يمكن بناؤها وترسيخها من أعلى عبر النخبة الحاكمة من خلال ما أسماه المؤرخ "إريك هوبسباوم" بعملية "اختراع التقاليد" التي تعبر عن تحكيم مجموعة من الممارسات والعادات والطقوس والرمزية المقبولة علنًا أو ضمنيًّا سعيًا لغرس بعض القيم وقواعد السلوك عن طريق التكرار بما يُتيح إنتاج ثقافة مشتركة داعمة لفكرة أو لحالةٍ ما.

وتتجلى قابلية فكرة الهوية الوطنية الحديثة للتطبيق من أعلى عبر النخبة في كونها تخاطب "محفزات بناء الهوية" لدى أفراد المجتمعات، بما تحمله من بعد مادي وآخر معنوي. فالبشر قد يتم تحفيزهم لبناء هوية مشتركة عبر مخاطبة مجموعة من المشاعر والنوازع لديهم، أبرزها: الفخر بالذات، والاستمرارية، والتميز والتفرد، والانتماء، والفاعلية (عبر التنافس والقيام بدور)، وإضفاء المعنى لحياتهم عبر وجود هدف لها. وبتعبير آخر، كما تعد فكرة الهوية الوطنية الحديثة قادرة على مخاطبة المكونات المعنوية التقليدية للهوية الوطنية، مثل الانتماء والفخر الوطني بما هو مشترك؛ فإن الفكرة نفسها قادرة على أن تخاطب المكونات المادية المحفزة لدى الأفراد، حيث الرغبة في التميز والتفرد والتنافس، وهي مكونات ترتبط في جوهرها بفكرة التحديث والتطور التكنولوجي إذا تحدثنا عن عالم اليوم.

النموذج السنغافوري:

تُعد سنغافورة نموذجًا جديرًا بالدراسة والملاحظة فيما يتعلق ببناء الهوية الوطنية الحديثة من قبل النخبة الحاكمة، ومدى نجاح تلك المقاربة في جعل سنغافورة بلدًا حديثًا يعتمد على التكنولوجيا ومقاربة الانفتاح على العالم، لكنه -في الوقت نفسه- يحافظ لنفسه على هوية وملامح ثقافية ورمزية وطنية تستوعب التنوع العرقي والثقافي في البلاد، وتأثير التكنولوجيا، وازدهار التجارة والشركات العابرة للقارات، وتحفظ للبلاد استقرارها وتماسكها الداخلي. وكل هذا تحت شعار التحديث والريادة والرغبة في الازدهار.

ونجحت عملية بناء الهوية الوطنية الحديثة تلك عبر توجيه من أعلى إلى أسفل (عبر النخبة الحاكمة) اتسم بمخاطبة محفزات بناء الهوية الوطنية لدى المواطنين، مثل: الفخر بالذات، والتميز، والتفرد بالانتماء إلى سنغافورة المتطورة والحديثة والمتعددة ثقافيًّا والمتوحدة، والفاعلية عبر التواصل مع صانع القرار، وإضفاء المعنى لحياة المواطن السنغافوري عبر وجود هدف يجمع الخاص بالعام وهو تحقيق التنمية والازدهار.

وبقراءة لتاريخ سنغافورة يُمكن إدراك أن عملية بناء الهوية الوطنية تمت على مرحلتين زمنيتين مختلفتين؛ مرحلة أولى منذ الستينيات إلى منتصف الثمانينيات حيث كانت إجراءات تأسيس تلك الهوية الوطنية الحديثة قائمة دون أن يكون مشروع بناء الهوية بمثابة أولوية، ومرحلة ثانية منذ الثمانينيات من القرن العشرين حيث مهمة تأسيس الهوية الوطنية الحديثة كمشروع حكومي يُعد على قمة الأولويات، وتقوم عليه هيئات بعينها. ويمكن تفصيل ذلك على النحو التالي:

 المرحلة الأولى (من 1965 إلى 1980): منذ منتصف الستينيات وفور حيازة سنغافورة لاستقلالها، أولت الحكومة اهتمامها الرئيسي بعملية النمو الاقتصادي والتحديث والانفتاح على التكنولوجيا وما هو حديث. وهي عملية ارتكزت بشكل براجماتي بحت على قيم التحديث دون اهتمام رئيسي بالبعد الثقافي الذي ربما رآه بعض التنمويين عائقًا أمام عملية التنمية. وإن كانت السلطة السياسية في البلاد لم تجعل من عملية بناء الهوية الوطنية أولوية في تلك المرحلة، إلا أن الحكومة سعت إلى اتخاذ إجراءات لدعم الشعور بالهوية الوطنية كمحفز لتحقيق النمو الاقتصادي والتحديث التكنولوجي. 

وقد صاغت الحكومة شعارات وأفكارًا عن المجتمع المتجانس الذي يعمل من أجل تحقيق الرخاء للسنغافوريين ككل. هذه الفكرة التي احتلت الكثير من المطبوعات الحكومية، مثل تلك الخاصة بمشاريع الإسكان واستراتيجيات الدفاع، هذا بالتوازي مع سعي الحكومة لدعم رمزيات الهوية الوطنية (متمثلة في: العَلَم، والنشيد، والقسم الوطني، والاحتفال بالعيد الوطني السنوي)، وإيلاء الاهتمام بالإعلام ووسائطه المختلفة كأداة رئيسية لتعزيز الهوية الوطنية وقيم سنغافورة الثقافية التي تم الاهتمام بنشرها من خلال المدارس والجامعات كذلك. وقد كان كل هذا مرتبطًا بتعزيز حافز الأزمة وعقيدة البقاء لبلد صغير حديث الاستقلال يشعر بالخطر.

وقد سعت الحكومة إلى بناء رمز للبلد متجسد في تمثال المدينة (الأسد) الذي تم تشييده عام 1964 كوسيلة لربط ماضي سنغافورة بحاضرها ومستقبلها. وفي مقابل تهديد الاختلاف الإثني والعرقي سعت سنغافورة إلى تقديم رسالة للداخل بأنها أرض للتنوع الإثني والجنسياتي، في مواجهة تهديد محتمل من التوتر بين الإثنيات المختلفة في البلاد، وسعت لاجتذاب الشركات متعددة الجنسيات إلى البلاد.

المرحلة الثانية: ما بعد 1980 (مأسسة بناء الهوية الوطنية الحديثة): مع حلول الثمانينيات بدا أن سنغافورة نجحت في تحقيق تحديث واسع في البلاد على صعيد النمو الاقتصادي وقطاع التكنولوجيا. غير أن عملية التحديث تلك وبالنسبة لقادة البلاد كانت مصحوبةً بتأثير واسع لسلبيات العولمة والتغريب التي تجسدت في زيادة النزعات الفردية داخل المجتمع، وصعود القيم المادية، والمخاوف من التفكك الأسري. وهكذا بدا أن سنغافورة التي حققت نموًّا اقتصاديًّا وتحديثًا واسعًا صارت تحتاج أكثر من هذا وذاك. إنه ما يُبقي على هذا المجتمع متجانسًا ومتماسكًا. وهكذا سعت الحكومة إلى ابتكار ما أسمته "الأيديولوجيا الوطنية" تحت شعار الـ"قيم المشتركة"، والتي سعت إلى مأسسة "الهوية الآسيوية" داخل المجتمع بجعلها جزءًا من الهوية الوطنية السنغافورية. 

مأسسة الهوية الوطنية 

منذ تسعينيات القرن العشرين، أعادت حكومة سنغافورة النظر في آلياتها السابقة، وسعت إلى إيلاء اهتمام رئيسي لعملية بناء الهوية الوطنية الحديثة عبر مشروع متكامل له طبيعة مؤسسية، حيث الحديث عن "الانتماء إلى مجتمع وطني والشعور بالوحدة" لم يكن كافيًا. ولذا، أسست الحكومة السنغافورية ما عُرف وقتها "بلجنة الـ21" التي أصدرت تقريرها الأول في عام 1997، ثم أُعيد تشكيل اللجنة وأصدرت تقريرها الثاني في عام 2003، وقد حدد التقرير الأخير آلية منهجية لتعزيز بناء الهوية الوطنية كان أبرز ما فيه ما يلي:

1- الاهتمام بالرمزيات الوطنية كوسيلة لخلق ارتباط داخل المجتمع بما هو أصيل (العيد الوطني، النشيد، القسم، إحياء ذكرى المناسبات الوطنية باحتفالات جماعية، المتاحف ومؤسسات التراث).

2- تسويق ووسم branding لإنجازات سنغافورة في الاقتصاد، والتكنولوجيا، والفن، والرياضة، كآلية لتعزيز الفخر والانتماء إلى وطن حديث ومتطور ذي إنجازات في كل المجالات.

3- وضع منهج لتعزيز التفاهم الوطني الإثني والثقافي، والعمل على بناء ذاكرة مشتركة تاريخية للبلاد، والاحتفاء بها، وربط الدعوة إلى الوحدة بدعم القيادة الاحترافية الحديثة.

4- وضع آلية لتقوية العلاقة مع المهاجرين والوافدين الجدد إلى البلاد من جنسيات أخرى.

5- صياغة شعارات تُعزز الانتماء للوطن الحديث بوحدة مواطنيه وفاعليتهم مثل: "سنغافورة وطن لكل السنغافوريين".. "وطن مملوك لمواطنيه".. "وطن يُعتَز به". وقد كانت تلك الشعارات كاشفة عن احتياج لتوسيع حالة المشاركة. وقد اقترحت اللجنة ما أسمته بالـ"الطريق إلى الأمام" بإعطاء مساحات حرية أوسع للمواطنين، والدعوة إلى إيجاد قنوات اتصال بين الحكومة والمواطنين، وإلى تعاون وعملية بناء للثقة، وخلق قنوات اتصال عدة بين الطرفين. 

6- تسويق فكرة الدين المتمدين، الذي يعزز بناء القيم الوطنية، والقائم على مبادئ الحب، والانتماء، والفخر الوطني، والتفوق، والوحدة، والالتزام نحو سنغافورة، والإنتاج، والعمل الدؤوب وروح الفريق. 

اليوم يبدو ملفتًا للنظر مجتمع مثل سنغافورة، فهو مجتمع شديد الانفتاح على التكنولوجيا، وصُنِّف كأكثر المجتمعات كفاءة واحترافية في استخدامها في عام 2005 (75 بالمئة من سكانه زاروا متاحفه الوطنية ومؤسساته التراثية في عام 2015)، ويبلغ معدل التطوع فيه اليوم ما يقترب من ثلث السكان. أما المشاركة الشبابية داخل مجموعاته الاجتماعية المختلفة فتقترب من 65 بالمئة. وهي كلها مؤشرات تعبر عن الانتماء لهذا المجتمع الوطني الذي جعل من الوطنية الحديثة بوتقة جامعة لمواطنيه، وطريقًا للتقدم والريادة.