أخبار المركز

ردع الغرب:

هل تلجأ روسيا للخيار "النووي التكتيكي" في أوكرانيا؟

18 مايو، 2024


أصدر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 6 مايو 2024، تعليماته إلى هيئة الأركان العامة بالاستعداد لإجراء مناورات أسلحة نووية غير استراتيجية للتدريب على إعداد واستخدام الأسلحة النووية التكتيكية. وذكرت وزارة الدفاع الروسية أن هذه التدريبات ستشمل تشكيلات صاروخية من المنطقة العسكرية الجنوبية في البلاد، بالإضافة إلى القوات الجوية والبحرية الروسية.

وأشارت وزارتا الدفاع والخارجية الروسيتين إلى أن موسكو ستجري مناورات نووية رداً على "التصريحات والتهديدات الاستفزازية" التي أطلقها مسؤولون غربيون ضد روسيا، من دون تحديد موعد محدد لتلك المناورات، ولكن المسؤولين الروس قالوا إنها ستجري قرب الحدود الأوكرانية. وفي 7 مايو الجاري، أمر الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، بمشاركة القوات البيلاروسية والروسية في تفتيش مشترك لحاملات الأسلحة النووية التكتيكية غير الاستراتيجية.

دوافع موسكو:

جاءت ردود فعل روسيا المتكررة بشأن الأسلحة النووية التكتيكية في سياق عدة تطورات، أبرزها ما يلي:

1- تلويح دول أوروبية بنشر قوات في أوكرانيا، ومنها الآتي:

أ- فرنسا: من المُرجح أن رد فعل موسكو يأتي نتيجة التصريحات والتهديدات الصادرة عن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وقادة الجيش الفرنسي، وآخرها كانت تصريحات ماكرون، التي نُشرت على موقع مجلة "الإيكونيميست" يوم 2 مايو الجاري، وقال فيها إنه لم يعد ممكناً استبعاد مبدأ نشر قوات فرنسية في أوكرانيا، وحدد شرطين لإرسالها هما: تحقيق روسيا لاختراق الخطوط الدفاعية الأوكرانية (أي انهيار الدفاعات)، وقيام كييف بطلب ذلك رسمياً.

ولم يكن هذا التصريح الفرنسي الأول من نوعه، ولكنه الأكثر دقة وتحديداً، فالرئيس ماكرون لوّح قبل ذلك بعدة أسابيع بالفكرة، في تصريحات نُشرت في الصحافة الفرنسية، منها على سبيل المثال، إشارته إلى أنه سيضطر غالباً إلى إرسال قوات إلى أوديسا العام الحالي. كذلك نُشرت تحليلات لخبراء عسكريين فرنسيين تنطوي على التفكير في تولي قوات فرنسية حراسة الحدود الأوكرانية مع بيلاروسيا، لتتمكن القوات الأوكرانية من التفرغ للجبهة، أو احتمال إرسال خبراء لتدريب هذه القوات. 

وفي السياق ذاته، قال قائد القوات البرية الفرنسية، بيير شيل، في مقال نشرته صحيفة "لوموند" الفرنسية، في مارس الماضي، إن جيش بلاده جاهز ويستطيع إرسال فرقة (20 ألف فرد) إلى أوكرانيا خلال 30 يوماً. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فرنسا تمتلك السلاح النووي، ولا تحتاج إلى مفاتيح أو أكواد أو موافقة أمريكية لإطلاقه، وخلال شهر إبريل الماضي ضم الأسطول الفرنسي غواصة نووية هجومية جديدة.

لكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن بداية إطلاق هذه التصريحات من باريس تعود إلى مرحلة تعطل المساعدات الأمريكية لكييف، وما ترتب عليها من تدهور حاد على الجبهة الأوكرانية. واللافت أن إعلان واشنطن عن مساعدات عسكرية لكييف مؤخراً لم يغير التوجهات الفرنسية، وبدت دوافع ماكرون متعددة، منها -على سبيل المثال- الخوف من هجوم روسي كبير من الوارد أن يحدث في نهاية مايو الجاري أو في النصف الأول من يونيو المقبل، إضافة إلى المخاوف من نجاح موسكو في الاستيلاء على ميناء أوديسا، فضلاً عن محاولة توثيق العلاقات وبناء الثقة مع دول أوروبا الشرقية التي طالما نددت بتجاهل فرنسا لهمومها وأولوياتها، وإظهار باريس على أنها أجدر بالثقة من ألمانيا المترددة جداً والرافضة لمد كييف بصواريخ "تاوروس".

وفي المقابل، يُعتقد أن الجيش الفرنسي قد يواجه تحدي خوض حرب طويلة مع روسيا، كما أن انتشاره في أوكرانيا –حتى لو كان بعيداً عن الجبهة– ستعتبره موسكو تهديداً نووياً غير مباشر لها؛ لأن باريس ستلجأ لعملية تأمين قوية للمواقع التي ستنتشر فيها قواتها. وهناك مشكلة أخرى تتمثل في عدم جاهزية جيوش أغلب دول أوروبا الغربية لهذا التطور، فضلاً عن قلقها من المبادرات المتكررة لباريس في سياق التصعيد.

ب- بريطانيا: أعلن وزير الخارجية البريطاني، ديفيد كاميرون، في 2 مايو الجاري، أنه يترك لكييف تحديد أوجه استخدام الأسلحة البريطانية التي تصل إليها، واستخدام الصواريخ في ضرب روسيا. وفسّر محللون روس هذا الموقف على أنه يشكل دافعاً لدى موسكو لإبداء رد فعل قاسٍ؛ خاصةً وأن أوكرانيا استخدمت في السابق صواريخ بريطانية. 

ج- ليتوانيا: صرحت رئيسة وزراء ليتوانيا، إنغريدا سيمونيتي، في مقابلة مع صحيفة "فايننشال تايمز"، يوم 8 مايو الجاري، بأن بلادها مستعدة لنشر قوات في أوكرانيا كجزء من مهمة تدريبية، مشيرة إلى موافقة برلمان ليتوانيا على ذلك. وشددت سيمونيتي على أن فيلنيوس تريد مساعدة كييف لكي تضمن "امتلاكها القدرة على تجديد قواتها المسلحة". 

2- دخول مقاتلات (أف 16) ساحة الحرب: يشير "معهد دراسات الحرب الأمريكي" (ISW) إلى أن وزارة الخارجية الروسية لطالما صرحت بأن بلادها تعتبر أن تسلم كييف المرتقب لطائرات (أف 16) الأمريكية يُعد تهديداً لأمنها القومي. وفي هذا السياق، قال عضو البرلمان الأوكراني، أليكسي غونتشارينكو، في 7 مايو الجاري، إن أولى هذه المقاتلات الأمريكية قد تظهر في وقت مبكر من يوليو المقبل. 

ومن جانبها، أكدت الخارجية الروسية، في بيان لها، يوم 6 مايو الجاري، أنه من المتوقع أن تظهر طائرات (أف 16) متعددة المهام في مسرح العمليات الأوكراني، وأشار الجانب الروسي مراراً إلى أنه لا يمكنه تجاهل حقيقة أن هذه الطائرات تنتمي إلى منصات مزدوجة التجهيز نووية وغير نووية. واعتبر البيان أن الخطوات المتهورة التي تتخذها أوكرانيا والدول الغربية تجعل الوضع أقرب إلى تراكم "كرة حرجة" قابلة للانفجار.

خطوات متدرجة:

بالإضافة إلى المناورات العسكرية الخاصة بالأسلحة النووية التكتيكية، قامت روسيا بعدد من الخطوات المتعاقبة فيما يتعلق بهذه الأسلحة، يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي: 

1- نقلت روسيا أسلحة نووية تكتيكية إلى بيلاروسيا، ففي مايو 2023 أعلن الرئيس لوكاشينكو أن موسكو باشرت –في ذلك الوقت- عملية نقل أسلحة نووية تكتيكية إلى بلاده، وذلك بعد شهرين من إعلان بوتين عن هذا الأمر؛ إذ تضمن إعلانه حينها تجهيز عشر طائرات في بيلاروسيا لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية، وأن مستودعاً خاصاً تم إنشاؤه لهذا الغرض. 

2- انسحبت روسيا من معاهدة حظر التجارب النووية (CTBTO) في 10 أكتوبر 2023؛ وهو ما يُعد انتكاسة أخرى لضبط التسلح النووي. وسبق ذلك الانسحاب تعليق موسكو مشاركتها في معاهدة "نيو ستارت" في فبراير 2023. 

3- أثارت موسكو بين حين وآخر المخاوف بشأن سلامة مفاعل زاباروجيا النووي، وبصفة عامة، فإن التلويح باستخدام النووي بات متكرراً في الخطاب الإعلامي الروسي، ولاسيما في تصريحات نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري ميدفيديف.

خيار مُحتمل: 

وفقاً للتطورات الراهنة، ولاسيما موقف القوى الغربية من الدعم العسكري لأوكرانيا أو إبداء الاستعداد لنشر قوات لأهداف متعددة؛ لا تستبعد روسيا خيار المبادرة باللجوء إلى النووي التكتيكي، وطبقاً للعقيدة النووية الاستراتيجية المعدلة لعام 2020، يمكن لموسكو القيام بالضربة الأولى الاستباقية.

وكشفت صحيفة "فايننشال تايمز"، في تقرير لها أواخر شهر فبراير 2024، أن مصادر غربية سمحت لها بالاطلاع على وثائق سرية روسية، توضح أن عتبة استخدام الأسلحة النووية التكتيكية أقل مما اعترفت به موسكو علناً. وهذه الوثائق عبارة عن 29 ملفاً عسكرياً روسياً سرياً تم إعدادها بين عامي 2008 و2014، منها ما يناقش مبادئ استخدام الأسلحة النووية. ووفقاً للتقرير، تتراوح مسببات الرد النووي المُحتمل من توغل العدو في الأراضي الروسية إلى محفزات أكثر تحديداً، مثل تدمير 20% من غواصات الصواريخ البالستية الاستراتيجية الروسية، وهذه العتبة أقل بكثير من تهديد لكيان الدولة.

كما أشار تقرير آخر لصحيفة "لوفيغارو" الفرنسية إلى أن المناورات الروسية الكبرى التي تُسمى "زاباد" (الغرب)، والتي تجري كل أربع سنوات، تشهد منذ 1999 تدريباً على استخدام النووي التكتيكي. وتم دمج هذا السيناريو في جميع المناورات السنوية الكبرى للجيش الروسي ابتداءً من عام 2013، كما جرى تطوير الأسلحة الناتجة عن النهضة التكنولوجية والصناعية الروسية خلال العقدين الماضيين، ولاسيما الصواريخ البالستية قصيرة المدى من طراز "إسكندر- إم" ونسختها المحمولة جواً "كينجال" القادرة على حمل شحنات نووية تكتيكية. 

سيناريوهات مستقبلية:

يمكن القول إن قرار الرئيس بوتين الخاص بالمناورات النووية التكتيكية؛ هو تكثيف لحملة تسعى إلى السيطرة على ردود الفعل الغربية بالتأثير في وعي أصحاب القرار والرأي العام، ليسلكوا مسلكاً لا يضر بالخطط الروسية. وهذه الحملة كُللت بنجاح كبير في الماضي، صحيح أن الدعم الغربي أبقى أوكرانيا على قيد الحياة ومنع سقوطها في أيدي روسيا، وكبّد موسكو خسائر هائلة، لكنه اتسم بالبطء الشديد، ووضع كثيراً من القيود على استخدام الأسلحة.

ولا يوجد حتى الآن أي مؤشر قوي يُوحي بأن روسيا ترغب في صدام نووي، ولا أنها في حاجة إليه. كما لا يوجد ما يشير إلى رغبة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في التصعيد في عام انتخابي. كذلك فإن المستشار الألماني، أولاف شولتس، لا يبدو مستعداً للتخلي عن حرصه ورغبته في العودة إلى عالم ما قبل 2022. أما الرئيس الفرنسي، ماكرون، فلا يمكن توقع سلوكه. باختصار؛ ما لم تنهر الجبهة الأوكرانية، لا يوجد ما يدعو إلى توقع تغيير في سلوك الفاعلين.

ومن المتوقع أن تحقق موسكو تقدماً محدوداً في أوكرانيا العام الجاري، ومن الصعوبة بمكان التنبؤ باحتمال انهيار الجبهة الأوكرانية، لكن لا يستطيع الغرب تحمل تبعات هزيمة مدوية في ظل تأثيرها في مصداقيته وقدرته على الردع، ولا يمكن له تحمل تبعات سيطرة روسيا على البحر الأسود. بيد أن القيادات الغربية أحياناً تصدر خطاباً، إما غير واقعي أو مستفز لروسيا مثل الإشارات المتكررة في الخطاب الأوروبي، والتي تميل إلى أن "روسيا رجل مريض وقزم اقتصادي ونصرها لن يمنع تقزيمها وليس نهاية القصة". 

ولا يمكن التوقع بدقة كيف ستؤثر الحسابات الانتخابية في سلوك القادة. فعلى سبيل المثال، هل سينجح بايدن في نسب هزيمة أوكرانيا إلى سلوك الجمهوريين في الكونغرس؟ وكيف سيقرأ ماكرون المشهد؟ وهل يستطيع التدخل في أوكرانيا بالرغم من اعتراض الحلفاء؟ ولا يمكن استبعاد أزمات اجتماعية كبرى في أوروبا، ولاسيما أن روسيا تسعى إلى تعميق الاستقطاب بحملات إعلامية لا تخلو من ذكاء. 

ولا يمكن تحديد بدقة موقف الجيش الروسي، فقد نجح في تحقيق مكاسب ولكنه لم يخترق الجبهة الأوكرانية. وليس واضحاً إن كان من مصلحة موسكو السعي إلى حسم المعركة خلال العام الجاري أم انتظار نتيجة الانتخابات الأمريكية، لكن المؤكد أنها لا تزال قادرة على مواصلة الحرب لعامين أو ثلاثة مقبلة، فيما تبدو قدرة أوكرانيا على الصمود غير مؤكدة.