شهدت الفترة الأخيرة نشاطاً إيرانياً متنامياً في دول أمريكا اللاتينية، حيث قام وزير الخارجية محمد جواد ظريف بزيارة إلى ست دول لاتينية، في نهاية أغسطس الماضي، شملت كلاً من (كوبا، ونيكارجوا، والإكوادور، وبوليفيا، وفنزويلا، وشيلي). كما قام الرئيس الإيراني حسن روحاني بعقد لقاءات قمة مع كل من الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو والإكوادورى رافائيل كوريا والبوليفى إيفو موراليس على هامش قمة عدم الانحياز، التي عُقدت في فنزويلا يومي 17 و18 سبتمبر الماضي. وأيضاً توجه روحاني إلى هافانا، بعد القمة، للقاء كل من الرئيس الكوبي الحالي راؤول كاسترو والسابق فيديل كاسترو.
ومن أهم ما لفت الانتباه في هذه الجولات والاجتماعات الإيرانية أنها استهدفت دول الكتلة الأكثر يسارية وراديكالية ومقاومة للهيمنة الأمريكية في منطقة دول أمريكا اللاتينية، فباستثناء شيلي يمكن اعتبارها زيارة لدول البديل البوليفاري (ALBA).
وعلى الرغم من أن بداية العام الحالي شهدت توقيع اتفاق تاريخي بين إيران ومجموعة (5+1) بشأن الملف النووي الإيراني، وما اشتمل عليه من تعهد غربي برفع العقوبات الدولية تدريجياً عن طهران، بيد أن التوتر الأمريكي - الإيراني أخذ يطفو على السطح مرة أخرى مؤخراً. ومن ثم، أصبح لدى طهران دافعاً كبيراً لاستئناف ضغوطاتها من خلال توجهها إلى البوابة الجنوبية للولايات المتحدة، والتأكيد على أنها لا تنوي الانسحاب من الساحة اللاتينية، بل ستظل من أهم مقاصد سياستها الخارجية، وستبني على رصيدها القوى المتراكم في هذه المنطقة.
مصالح إيرانية
في حقيقة الأمر، لم يختلف الهدف من الزيارتين الإيرانيتين الأخيرتين عن مجمل أهداف النشاط الإيراني في أمريكا اللاتينية، والذي يصب بالأساس في اتجاه تحقيق المصالح الإيرانية، والتي تتمثل أبرز محاورها في الآتي:
1- إيجاد حلفاء داعمين للمواقف الإيرانية إقليمياً ودولياً:
تعتبر طهران أن الحفاظ على الصداقة والتفاهم مع الدول اللاتينية بما تمثله من كتلة ذات وزن ليس بالهين في المجتمع الدولي، أمراً مهماً لدعم مواقف إيران، سواء إقليمياً في الشرق الأوسط أو على المستوى الدولي.
إقليمياً، تبنت كثير من الدول اللاتينية مواقف شبه مطابقة للسياسة الإيرانية فيما يخص أزمات الشرق الأوسط، خاصةً في سوريا. إذ يمكن القول إن مواقف الدول الرئيسية في أمريكا اللاتينية كانت تصب في صالح دعم نظام بشار الأسد، لكن تفصيلاً اختلفت درجة التأييد من جانب هذه القوى. وقد رفض بعضها الحراك الثوري في سوريا منذ بدايته، بل واتهم دولاً أخرى في الإقليم بالتسبب في ظهور الجماعات الإرهابية بالأراضي السورية من خلال دعمها السياسي والمالي للحركات والجماعات المناوئة لنظام الأسد.
ودولياً، كان التصويت اللاتيني في المحافل الدولية مسانداً لإيران في خلافها مع الولايات المتحدة حول ملفها النووي.
ومن ثم، سعى المسؤولون الإيرانيون، من خلال الزيارتين الأخيرتين، إلى الحفاظ على حلفائها الداعمين لمواقفها السياسية الراهنة والمستقبلية. وقد بدا هذا الأمر واضحاً في جولة ظريف، حيث تكررت عبارات من قبيل "مواجهة الهيمنة الغربية" و"الاقتصاد المقاوم" في التصريحات الرسمية الإيرانية واللاتينية.
2- التنسيق المشترك بشأن أزمة انخفاض أسعار النفط:
تشترك إيران مع بعض الدول اللاتينية، وفي مقدمتها فنزويلا، في التضرر من انخفاض أسعار النفط، لذا تسعى طهران إلى التنسيق مع الدول اللاتينية المنتجة للنفط بشأن سياسة تضمن رفع سعر البرميل، والتقليل من الخسائر الاقتصادية.
وقد تطرقت زيارة ظريف لمناقشة هذه القضية، وأكدت التصريحات الرسمية، خاصةً في كراكس، التوصل لتفاهم إيراني - فنزويلي يهدف لتبني موقف موحد في العامل مع أزمة النفط.
وفي لقاء القمة الإيراني - البوليفي الأخير بين روحاني وموراليس، أكد الرئيسان على بذل الجهود المشتركة من أجل استقرار أسعار النفط، والحفاظ على الأسعار العادلة والحصص المنصفة في اجتماع الدول المصدرة للنفط في الجزائر.
كذلك في لقاء الرئيس روحاني بنظيره الإكوادورى، اتفقا على دعوة الدول المعنية إلى الالتزام بالحصص الإنتاجية المقررة من النفط، وعدم التعدي على حقوق الآخرين.
3- انفتاح إيران اقتصادياً بعد الرفع التدريجي للعقوبات عنها:
بينما تستعد طهران للانفتاح الاقتصادي على العالم، تعاني عدم قدرتها على التعامل مع جوارها الإقليمي، إما بسبب المقاطعة كما هي الحال على الجانب الخليجي، أو بسبب الاضطرابات السياسية والأمنية في عدد من الدول العربية. ومن ثم، بدأت إيران في البحث عن فرص استثمارية جديدة لتعويض ما تكبدته من خسائر اقتصادية طيلة السنوات الماضية، حتى وإن كان في دول بعيدة جغرافياً.
وعلى الرغم من الرفع التدريجي للعقوبات الاقتصادية الدولية والحظر المفروض على طهران، فإن الأخيرة ما زالت تشكو غياب الاستثمارات الغربية بها، وإحجام البنوك الكبرى عن التعامل معها بسبب بيانات تحذيرية ترسلها الولايات المتحدة لهذه البنوك، ما يعني عدم تفعيل رفع العقوبات.
وفي سبيل التغلب على هذه العقبات، تسعى إيران إلى تطوير علاقاتها الاقتصادية والتجارية الخارجية. وفي هذا الإطار، كانت الزيارة اللاتينية لظريف مثمرة على المستوى الاقتصادي، خاصةً العلاقات المصرفية. فعلى سبيل المثال، وقع ظريف مذكرة تفاهم للعمل المصرفي المشترك مع الإكوادور، كما وقع على اتفاقية المدفوعات المصرفية بين البنكين المركزيين الإيراني والفنزويلي بهدف إيجاد آلية للدفع تسهل التبادل المصرفي والتجاري والاقتصادي بين البلدين.
وعقب عودته، أكد ظريف أن الجولة اللاتينية وفرت الفرصة لإقامة علاقات اقتصادية أوسع مع دول تمتلك طهران معها علاقات قوية مثل فنزويلا، أو تدشين علاقات مباشرة لأول مرة مع شيلي.
كما كان للقطاع الخاص نصيب من نجاح الأهداف الاقتصادية لهذه الزيارة، ففي أثناء لقاءه رئيس نيكارجوا دانيال أورتيجا، أعرب ظريف عن رغبته في أن يشارك القطاع الخاص الإيراني في مشروع قناة نيكارجوا الجديدة، وهي قناة مقترحة تربط المحيط الأطلسي مع المحيط الهادي، وسيبدأ العمل في حفرها نهاية العام الجاري على أن يتم إنجازها في عام 2020، وسيكون لها دور مهم في حركة التجارة العالمية ومنافساً قوياً لقناة بنما.
وفي الاتجاه ذاته، اشتملت لقاءات الرئيس روحاني في دول أمريكا اللاتينية على اتفاقيات اقتصادية ومصرفية. ففي اجتماعه مع الرئيس البوليفي، أكد روحاني استعداد بلاده لدعم المشاريع التنموية في بوليفيا على المستويين الحكومي، وعلى ضرورة التعاون المصرفي بين البلدين.
تحديات النفوذ الإيراني في أمريكا اللاتينية
ثمة تحديات تواجه إيران في سبيل تفعيل نفوذها في أمريكا اللاتينية، ولعل أبرزها ما يلي:
1- صعود حكومات اليمين:
كان صعود اليسار في دول أمريكا اللاتينية سبباً رئيسياً في التقارب الإيراني - اللاتيني خلال السنوات العشر الأخيرة. فمع الاعتراف بالدبلوماسية النشطة التي انتهجها الرئيس الأسبق أحمدي نجاد تجاه دول هذه المنطقة، إلا أن هذه السياسة لم يكن ليكتب لها النجاح في غياب حكومات هوجو شافيز ولولا دا سيلفا ودانيال أورتيجا ورافائيل كوريا وكاسترو وغيرهم من أبناء تيار اليسار. فقد كان القاسم المشترك بين طهران وحكومات اليسار اللاتيني هو مواجهة الهيمنة الأمريكية وانتقاد سياستها الخارجية بشكل عام، سواء في التدخل في شؤون جيرانها في امتدادها الجغرافي في أمريكا اللاتينية أو في قضايا الشرق الأوسط. والآن يمثل وصول اليمين إلى سدة الحكم في بعض الدول اللاتينية تحدياً كبيراً لمصالح إيران في المنطقة.
ولعل المثال الأوضح على ذلك، هو التحول الجذري في الموقف الأرجنتيني الرسمي تجاه طهران فيما يخص قضية تفجير الرابطة اليهودية (AMIA) في التسعينيات. إذ ألغى الرئيس الأرجنتيني موريسيو ماكري مذكرة التفاهم الأرجنتينية - الإيرانية حول هذه القضية، والتي كانت قد أُبرمت من طرف حكومة الرئيسة اليسارية السابقة كريستينا كريشنر في عام 2013، ونصت على عدم ملاحقة المتهمين الإيرانيين.
وما حدث في الأرجنتين ربما يكون مرشحاً لأن يتكرر في دول لاتينية أخرى مع تغير حكومتها من اليسار إلى اليمين.
2- تنامى النشاط الخليجي في أمريكا اللاتينية:
أبدت دول الخليج العربية، وبصفة خاصة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر، اهتماماً واضحاً بتوطيد العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية. واستضافت كل من قطر والسعودية قمتي أسبا (قمة الدول العربية وأمريكا الجنوبية) في عامي 2009 و2015.
كما زادت حركة التجارة والاستثمار بصورة ملحوظة بين دول الخليج العربية والدول اللاتينية، وأصبحت هناك خطوط طيران مباشرة بين المنطقتين. وبالتالي تعتبر دول الخليج منافساً قوياً لطهران في أمريكا اللاتينية.
3- عودة الولايات المتحدة للمشهد اللاتيني:
بعد أن غابت الولايات المتحدة خلال العقدين السابقين عن امتدادها الجغرافي الطبيعي في أمريكا اللاتينية وانشغالها بقضايا الصراع في الشرق الأوسط، عادت مرة أخرى ولكن بأدوات جديدة تناسب التعامل مع الأنظمة الحاكمة الجديدة في الدول اللاتينية. وأكبر مثال على ذلك، عودة العلاقات الأمريكية - الكوبية بعد خمسة عقود من الصراع والحصار، حيث فاجأ الرئيس الأمريكي باراك أوباما العالم بزيارته لكوبا في مارس 2016.
ومن ثم، فعلى الرغم من أنه تم نظرياً حل الخلاف الأمريكي - الإيراني فيما يخص قضية الملف النووي، فإن الولايات المتحدة تظل تحدياً قوياً للوجود الإيراني في أمريكا اللاتينية.
ختاماً، أكدت الزيارتان الأخيرتان لمسؤولين إيرانيين لبعض دول أمريكا اللاتينية، خلال شهري أغسطس وسبتمبر 2016، أن الدبلوماسية الإيرانية ما زالت تعمل بنشاط للحفاظ على مصالحها ووجودها الاقتصادي والثقافي والاستخباراتي في هذه المنطقة، وذلك لتظل إحدى أوراقها المهمة في علاقاتها الخارجية مع الولايات المتحدة. كما عكست هذه الجولات الإيرانية حرص طهران على مواجهة المنافسة الخليجية المتنامية لها في أمريكا اللاتينية.