اتخذ مجلس الشيوخ البرازيلي، في الثاني عشر من مايو الجاري، قراراً بعزل الرئيسة اليسارية "ديلما روسيف" من منصبها لمدة 180 يوماً، تمهيداً لمحاكمتها بتهمة التلاعب في حسابات مالية لإخفاء عجز حكومي متزايد قبل إعادة انتخابها في عام 2014، وعدم مصارحة البرلمان بهذه الحقائق المالية. وقد صوت 55 عضواً بالموافقة على قرار العزل، من إجمالي 81 عضواً.
وعلى الفور، تسلم نائب الرئيسة "ميشال تامر" مسؤولية رئاسة البلاد بصورة مؤقتة، لحين الانتهاء من محاكمة "روسيف"، وقام بدوره بتشكيل حكومته الجديدة. وبذلك انتقل حكم البرازيل من حزب العمال اليساري، الذي تولى السلطة منذ عام 2003 مع انتخاب الرئيس "لولا دا سيلفا"، إلى حزب الحركة الديمقراطي يمين الوسط، والذي يمثل أحد أهم أقطاب المعركة ضد "روسيف" وحزبها.
ويعد عزل "روسيف" هزيمة لحزب العمال في إحدى جولات معركة سياسية شرسة بين الحزب اليساري من جانب، وقوى اليمين من جانب آخر. كما يثير عزل رئيسة البرازيل عدة تساؤلات حول طبيعة ما حدث، وهل هو تفعيل للقانون وآليات الديمقراطية وقيام مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية بمساءلة ومحاسبة السلطة التنفيذية في البلاد؟ أم أن ما يدور خلف هذا الستار القانوني والدستوري يتعدى ذلك بكثير؟
واجهة قانونية لصراع سياسي
منذ مارس الماضي والرئيسة المعزولة "روسيف"، التي تولت منصبها في يناير 2011 قبل أن تبدأ ولايتها الثانية في الرئاسة عام 2015، تردد هي وأنصارها وصف "انقلاب" على الخطوات التي تم اتخاذها ضدها من قِبل الكونجرس البرازيلي بغرفتيه النواب والشيوخ. وقد بدت كل هذه الخطوات قانونية وملتزمة بالدستور إلى حد كبير حتى يوم 23 من شهر مايو الجاري، عندما نشرت صحيفة "فولها دي ساوبولو" نص محادثة هاتفية بين رئيس حزب الحركة الديمقراطي ووزير التخطيط في حكومة تامر المؤقتة "روميرو جوكا"، ورئيس إحدى شركات النفط الحكومية سابقاً "سيرجيو ماتشادو"، وكلاهما تدور حوله الشبهات في قضية الفساد الكبيرة الخاصة بشركة البترول الحكومية "بتروبراس"، والمعروفة إعلامياً باسم "لافا جاتو" أو "غسيل السيارات". وجاء في المحادثة، التي استمرت نحو 75 دقيقة بين الرجلين في شهر مارس 2016، على لسان "جوكا" أن المخرج الوحيد من قضية غسيل السيارات هو مخرج سياسي، قائلاً: "علينا تغيير الحكومة ليكون في استطاعتنا إيقاف هذا النزيف"، وعقَّب ماتشادو بالقول إن "الحل الأسهل هو وصول تامر للحكم".
ونُسب إلى "جوكا" أنه تحدث إلى قُضاة المحكمة العليا، وأكدوا له أن هذا الهراء لن يتوقف طالما بقيت "روسيف" في السلطة، كما قال إنه حصل على ضمانة من قيادات عسكرية بأنهم قادرون على مواجهة الجماعات اليسارية الراديكالية.
واعترف "جوكا" بصحة ما نُسب له، لكنه أكد أن الحديث اُقتطع من سياقه، وأنه لم يكن يتحدث عن قضية "غسيل السيارات"، بل عن الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد.
ويبدو من تطور الأحداث أن عزل البرلمان الرئيسة "روسيف" ليس سوى واجهة قانونية لصراع سياسي بين حزب العمال اليساري، الذي حكم لمدة 13 عاماً، وقوى اليمين. واختلط هذا الصراع بظروف الكشف عن قضية فساد شركة "بتروبراس". وبالتالي فقد دار ذلك الصراع على ثلاثة مستويات، هي:
1- الشارع: شهدت البرازيل، في العامين الماضيين، موجات من التظاهرات الضخمة ضد الرئيسة المعزولة "ديلما روسيف"، احتجاجاً على الركود الاقتصادي. وفي عام 2014 ومنذ بداية التحقيقات في قضية "غسيل السيارات"، رفع المتظاهرون شعارات تنادي بوجوب محاسبة "روسيف" و"لولا" على تهم الفساد. وعلى الرغم من أن "روسيف" لم تُوجه لها أي اتهامات من قِبل المحققين في هذه القضية، فإن إقالتها كانت أهم مطالب التظاهرات المنددة بالفساد.
2- القضاء: فجر القضاء الفيدرالي في البرازيل فضيحة مدوية في عام 2014، عندما أعلن أن المقاولين في البرازيل شكلوا تحالفاً للمزايدة على مشاريع تابعة لشركة "بتروبراس"، وقدموا رشى للسياسيين والمديرين التنفيذيين في الشركة. وقد طالت الاتهامات سياسيين بارزين في الحكومة والبرلمان والأحزاب الحاكمة والمعارضة على حد سواء. وفي خضم هذه القضية، لمع نجم القاضي الشاب "سيرجيو مورو"، حيث أصبح رمزاً للتظاهرات ضد حكومة" روسيف". وتمكن" مورو" من سجن وإيقاف سياسيين ومديرين سابقين في أكبر الشركات البرازيلية ممن كانوا على صلة بتلك الفضيحة، وكان آخرهم "إدواردو كونا" رئيس مجلس النواب والذي قررت المحكمة العليا، في مايو الجاري، إيقافه بناءً على طلب من النائب العام، لاتهامه بمحاولة عرقلة سير تحقيقات متعلقة بالفساد ضده وضد أعضاء في المجلس. واتُهم "كونا" من قبل بتلقي رشى، وغسيل الأموال في عملية "غسيل السيارات".
3- البرلمان: انتقل الصراع بعد ذلك إلى أروقة البرلمان بغرفتيه، فبعد أن قضت محكمة التدقيق الاتحادية بأن الحكومة البرازيلية تلاعبت في الحسابات لإخفاء عجز ضخم، بدأ رئيس مجلس النواب "كونا" (قبل إيقافه) بتحريك الحملة المطالبة بإقالة "روسيف". ومع تزايد الاحتجاجات في الشارع وتصاعد وتيرة التحقيقات في قضية "غسيل السيارات"، أصبحت الظروف سانحة لانسحاب نائب الرئيسة وعضو حزب الحركة الديمقراطي "ميشال تامر" من التحالف الحكومي في مارس الماضي. ومن ثم بدأ تحالف جديد بين المعارضة اليمينية وحزب الحركة الديمقراطي، وقد ظهر هذا التحالف في تصويت نواب هذه الأحزاب لصالح قرار عزل "روسيف"، وتولي "تامر" رئاسة الدولة ولو بصورة مؤقتة لمدة ستة أشهر على أقل تقدير، وقد تطول حتى نهاية فترة رئاسة "روسيف" في عام 2018 إذا ما تمت إدانتها بشكل نهائي.
وفي هذا الشأن، يفضل نحو 62٪ من البرازيليين الإسراع في تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة لاستبدال كل من "روسيف" و"تامر" معاً، وفقاً لاستطلاع رأي تم إجراؤه مؤخراً، وتبين منه أيضاً أن 8٪ فقط من العينة توافق على أن يستكمل "تامر" الفترة المتبقية من ولاية "روسيف".
تحولات إقليمية
تؤشر الأحداث التي شهدتها البرازيل إلى تحولات راهنة في قارة أمريكا اللاتينية، حيث شهدت دول الجوار سوابق ربما تكون شبيهة بما حدث مؤخراً في البرازيل. ففي يونيو 2012 صوت الكونجرس في باراجواي بأغلبية ساحقة على عزل الرئيس اليساري المنتخب ديمقراطياً "فرناندو لوجو"، بحجة أنه أخفق في القيام بواجباته للحفاظ على التوافق الاجتماعي، حيث تمت إدانته من قِبل البرلمان بسوء إدارة اشتباكات مسلحة وقعت بشأن إخلاء قطعة أرض، قُتل فيها 17 شرطياً وفلاحاً في عام 2012.
وقد رفضت الدول اللاتينية عزل الرؤساء، واعتبرته عملاً مناهضاً للديمقراطية. فبعد يومين من عزل رئيس باراجواي، اعتبرت الأرجنتين، في عهد الرئيسة اليسارية "كريستينا كريشنر"، أن هذا "انقلاب" وانتهاك للديمقراطية، ومن ثم سحبت سفيرها لدى باراجواي. فيما استدعت البرازيل سفيرها هناك للتشاور، وشددت البرازيل حينها على أن الحفاظ على الديمقراطية قضية محورية في التكامل الإقليمي، وتم تعليق عضوية باراجواي في تجمع السوق المشتركة لدول أمريكا الجنوبية "ميركوسور".
كما ظهر هذا الموقف الإقليمي المساند لشرعية الرؤساء المنتخبين في الاحتجاجات التي اندلعت منذ العام الماضي في فنزويلا من قِبل المعارضة للمطالبة بالإطاحة بالرئيس اليساري "مادورو"، حيث قام وزراء خارجية البرازيل والأرجنتين وشيلي بزيارات مكوكية إلى كراكس بهدف عقد جلسات حوار بين المعارضة والنظام، انتهت بتهدئة الأوضاع إلى حد ما، والحفاظ على الديمقراطية.
وكانت كل من شيلي والأكوادور قد أعربتا فقط عن قلقهما لعزل "روسيف"، في حين كانت الحكومة اليسارية في فنزويلا الأكثر اعتراضاً، حيث وصفت ما حدث في البرازيل بأنه "انقلاب"، وقامت بسحب سفيرها، وكذلك فعلت السلفادور.
أما الأمر اللافت للنظر فهو الموقف الأرجنتيني، فقد قام وزير الخارجية البرازيلي في الحكومة المؤقتة الجديدة "خوسيه سيرا" بأولى رحلاته الخارجية إلى بيونس آيريس، يوم 23 مايو، وسط تظاهرات في الأرجنتين رافضة له وللرئيس الجديد "تامر". وناقش "سيرا"، خلال لقائه مع الرئيس الأرجنتيني اليميني الجديد "ماكري"، التدخل لحل الأزمة الاقتصادية التي تتعرض لها فنزويلا، وهو أمر يثير شكوكاً كبيرة حول نية الحكومتين اليمينيتين في أكبر دولتين بأمريكا اللاتينية تجاه حكومة "مادورو"، كما اتفقا على العمل التجاري الثنائي خارج إطار "الميركوسور"، وهو ما يعد مؤشراً خطيراً على توجه جديد غير متحمس للتحالفات والتكتلات الإقليمية التي ازدهرت في عهد المد اليساري في القارة خلال العقد الماضي.
ما بعد عزل "روسيف"
تمر البرازيل حالياً بفترة استقطاب حاد بين مؤيدي الرئيسة المعزولة "ديلما روسيف" ومعارضيها، إذ يرى داعموها أن عزلها على الرغم من أنه حدث بطريقة دستورية، فإنه ينطوي على تآمر بين رموز في مؤسسات الدولة (البرلمان، القضاء، والجيش) في تحالف يميني ضد حزب العمال.
ومن وجهة نظر هؤلاء أيضاً، فإن الهدف الحقيقي من عزل "روسيف" هو تقديمها كبش فداء في قضية الفساد الكبرى "غسيل السيارات" لتهدئة الشارع، وإغلاق هذه القضية التي قد تطول رموزاً كثيرة، فضلاً عن كون ذلك فرصة لاتخاذ قرارات اقتصادية رأسمالية توقفت كثيراً بسبب وجود حزب العمال في الحكم طوال 13 عاماً ماضية. وهو ما بدأ يظهر بالفعل من سياسات الحكومة الجديدة التي تسعى إلى بيع شركات وأصول حكومية.
على الجانب الآخر، يرى فريق المناهضين لـ"روسيف" وحزب العمال أن ما تمر به البرازيل حالياً هو معركة ضد الفساد والسياسات الاقتصادية الخاطئة التي أدت إلى الركود المتزايد منذ عام 2014.
ختاماً، يمكن القول إن ظاهرة وصول اليسار إلى الحكم في كثير من الدول اللاتينية خلال العقدين الماضيين، ظلت متعلقة بشعبية هذا التيار بين الفقراء، والذين تتمثل قوتهم في أعدادهم الكبيرة ووزنهم التصويتي في الانتخابات. لكن في حقيقة الأمر، ظلت مؤسسات هذه الدول مرتبطة إلى حد كبير بمصالح الطبقة الغنية. وقد أثبتت العديد من الأحداث في القارة أنه في اللحظة التي تتراجع فيها شعبية الحكومة اليسارية بين المواطنين، تكون هي الفرصة المناسبة أمام مؤسسات الدولة للتدخل من أجل إنهاء هذه الحكومات التي غالباً ما تمثل عائقاً أمام مصالحها. وهذا ما كان يحدث في سبعينيات القرن الماضي في صورة "انقلابات عسكرية دموية"، وأصبح يحدث الآن في صورة ما يسميه البعض "انقلابات دستورية".