لم يعد الدور العسكري الذي تقوم به فرنسا داخل سوريا مقتصرًا على المشاركة في توجيه ضربات ضد النظام السوري بعد اتهامه باستخدام الأسلحة الكيماوية في الهجوم على دوما أو تعقب عناصر "داعش"، حيث بدأت باريس في توسيع نطاق وجودها العسكري نسبيًا، لا سيما في مواقع انتشار ميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) المدعومة أمريكيًا، وقامت القوات الفرنسية بنشر 6 بطاريات مدفعية قرب قرية "باغوز" التابعة لمحافظة دير الزور شرقى سوريا، بالتوازي مع ظهور تقارير كشفت عن تمدد لقوات فرنسية– أمريكية مشتركة في الحسكة والرقة وعين العرب وعلى طول نقاط التماس مع تركيا، وفي عمق منبج التي كانت الأخيرة بصدد الانتقال إليها كمحطة تالية لمواجهة "قسد" بعد عفرين، وهو ما كان سببًا في اندلاع اشتباك سياسي حاد بين أنقرة وباريس وصل إلى حد تهديد الأولى باستهداف تلك القوات.
ورغم تزايد الحديث عن تمدد وتنامي الوجود الفرنسي في سوريا، إلا إنه يظل في سياق حجم محدود بالنظر إلى ما يمكن التعويل عليه من مهام، لكن يمكن القول إن التقديرات الفرنسية في هذا الصدد لا تعتمد على الحسابات الكمية بقدر ما ترتبط بمتغيرات أخرى خاصة بالأهداف والدلالات التي لا تنفصل عن رؤية باريس لتطورات الأزمة السورية وتأثيراتها سواء على توازنات القوى أو على مصالح الأطراف المعنية باتجاهاتها.
مناطق متعددة:
تشير تقديرات عديدة إلى أن قوام القوة الفرنسية في سوريا ما زال في حدود 70 عنصرًا من القوات الخاصة، أضيف إليهم لاحقًا 30 من المظليين من فوج المشاة البحري الأول وقوة المغاوير الجوية رقم 10، ومع الإشارة الأخيرة إلى أن هناك قوة مدفعية في دير الزور، فمن المرجح أن تلك القوة قد زادت، لكنها لا تتجاوز 200 عسكري فرنسي، أى نحو 10% من حجم الوجود الأمريكي في سوريا.
وتنتشر تلك القوات في 3 نوعيات من المناطق: الأولى، هى المناطق التي تسيطر عليها قوات "قسد"، حيث أعلنت باريس رسميًا أن هدفها هو الحيلوية دون حدوث توغل تركي في منبج أو شن هجوم على "قسد". والثانية، هى المناطق التي تتواجد بها مصالح فرنسية أو فرنسية- أمريكية، ومنها مصنع لافارج الفرنسي للإسمنت، والذي أشارت تقارير فرنسية سابقة إلى أن مالكيه اضطروا في السابق الى دفع نحو 50 مليون دولار لتأمينه في ظل وجود تنظيم "داعش" على مدار أربعة أعوام، إلى جانب حقل العمر النفطي في دير الزور، وهو الأكبر في سوريا، والذي تنتشر قوة المدفعية الجديدة حوله. والثالثة، هى المواقع القريبة من الحدود العراقية– السورية، والتي يحاول بعض عناصر "داعش" التسلل منها إلى داخل الدولتين.
أهداف مختلفة:
تسعى فرنسا من خلال تعزيز وجودها العسكري داخل سوريا إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- دعم فرص البقاء الأمريكي في سوريا: وهو هدف يكتسب أهمية خاصة لدى باريس، على نحو انعكس في تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لدى زيارته الأخيرة لواشنطن في 24 إبريل الفائت، والتي قال فيها أنه عمل على إقناع نظيره الأمريكي دونالد ترامب بالبقاء في سوريا باعتبار أن المهمة لم تنته بعد. ورغم أن بعض المسئولين الأمريكيين ما زالوا يؤكدون على أن خروج القوات الأمريكية من سوريا يظل مسألة وقت، إلا أن فرنسا ما زالت تبدي طموحات في أن تحافظ الولايات المتحدة على وجود عسكري ما في سوريا يدعم المصالح الأوروبية ويساعد في مواجهة التهديدات القائمة، خاصة فيما يتعلق بتسلل بعض عناصر "داعش" إلى أوروبا.
2- وقف تمدد العمليات العسكرية التركية: يعكس الوجود العسكري الفرنسي، إلى جانب الاشتباك مع تركيا حول شكله، أزمة ثقة بين دولتين أعضاء في حلف الناتو، كما يوضح مستوى التصدع الذي وصلت إليه العلاقة بين الدولتين، فقد كان لافتًا أن وسائل إعلام تركية نشرت خريطة تفصيلية لمواقع الانتشار الفرنسي في سوريا، الأمر الذى اعتبرته باريس محاولة للإضرار بقواتها، باعتبار أن رصد مواقعها يعرضها للخطر.
ويبدو أن عمق الأزمة السياسية المتصاعدة على الجانبين لا ينفصل عن تقارير فرنسية تشير إلى أن تركيا هى أحد المدخل الرئيسية التي يتسلل عبرها بعض عناصر "داعش" إلى أوروبا، كما أنه يرتبط باستياء باريس إزاء قيام أنقرة بدعم مجموعات مسلحة لاستهداف "قسد" على النحو الذى كانت عليه الأوضاع في معارك كوبانى والباب وغيرها في عام 2014، والتي تمكنت فيها "قسد" من تحريرها من "داعش".
3- توسيع حدود الدور الفرنسي ذاته: بحيث لا يقتصر على التحرك الدبلوماسي، على النحو السابق الذي كانت فيه فرنسا ترى أن المشكلة تنحصر في وجود الرئيس بشار الأسد في السلطة. ويبدو أنها قامت بتغيير قراءتها للأزمة السورية، في ظل التطورات المتسارعة التي شهدتها، بشكل دفعها إلى اعتبار أن الآلية الدبلوماسية قد لا تكون كافية في هذا الصدد، وربما يعزز ذلك البيان الذي صدر عن المكتب الرئاسي في باريس، وأشار إلى "التعزيز المُخطط"، وهو المصطلح الذى استخدمته الدوائر الدبلوماسية الفرنسية لدى تناولها لعملية توسيع مستوى الوجود العسكري في سوريا، كما أكد على أن "الانتشار يساعد فى استقرار المنطقة الأمنية في شمال شرق سوريا كجزء من نظام من الحوكمة الشاملة والمتوازنة لمنع أى عودة من جانب "داعش" إلى جانب دعم فرص الوصول إلى حل سياسي للنزاع السوري".
اتجاه مرجح:
وفي النهاية، يشير هذا الاتجاه الفرنسي الجديد إلى تحول ما في رؤية باريس تجاه التطورات التي تشهدها الأزمة السورية، على ضوء التغيرات الأخيرة في توازنات القوى، إذ أن الحديث في بداية الأمر حول الوجود العسكري المحدود كان يرتبط بهدف سد الثغرات في الإطار المعلوماتي حول تحركات "داعش" ما بعد الرقة. لكن التطور الأخير الخاص بنشر قوة مدفعية يعنى أن هناك مواقع عسكرية أو مصالح تقتضى تأمينها بشكل أوسع، وهو ما يزيد من احتمال تزايد الوجود العسكري الغربي، خلال المرحلة القادمة، في شرق الفرات وشمال البلاد، على نحو سوف تكون لها ارتدادات مباشرة على العلاقات بين الدول الغربية وتركيا بشكل عام، أو على موقع الأولى من المواجهات الفرعية التي قد تشهدها تلك المناطق في مرحلة لاحقة، بسبب تباين مصالح القوى المعنية بتطورات الأزمة السورية.