أخبار المركز
  • مركز المستقبل يتيح العدد الثالث من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (الخروج الثاني: عواقب أجندة ترامب في مناهضة المناخ على إفريقيا)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"

الابتكار الدفاعي:

كيف يشكل البنتاغون ووادي السيليكون مستقبل الحروب الحديثة؟

31 ديسمبر، 2024


عرض: بسنت عادل

في عالم تحولت فيه المعارك إلى رقمية، حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والخيال، تخوض البشرية حرباً جديدة ليست بالمدافع والبنادق فحسب؛ بل بأسلحة من نوع آخر مثل: الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيرة، والفضاء السيبراني. وفي قلب هذه المعركة، تجتمع قوتان عظيمتان هما: عملاق التقنية "وادي السيليكون"، والعملاق العسكري "البنتاغون" حيث تتخذ الطائرات قراراتها بنفسها، وترصد الأقمار الاصطناعية كل تحرك على الأرض. 

هذا العالم ليس خيالاً علمياً؛ بل هو مُعاش، ففي عام 2016، أطلقت الولايات المتحدة مشروعاً طموحاً أطلق عليه اسم "الوحدة X" تكليلاً لجهود رائدين في مجال الابتكار التكنولوجي والدفاع هما: راج إم. شاه وكريستوفر كيرشوف. وكان الهدف من هذه الوحدة تسخير روح الابتكار في وادي السيليكون لمعالجة التحديات المعقدة التي تواجه الجيش الأمريكي، وتجاوز البيروقراطية العسكرية التقليدية.

وفي هذا الإطار يسلط كتاب: "الوحدة إكس: كيف يعيد البنتاغون ووادي السيليكون رسم مستقبل الحرب؟" الصادر في العام 2024، لكل من شاه وكيرشوف، الضوء على تحول هذه الفكرة الطموحة إلى واقع ملموس، من خلال مبادرات مبتكرة، مثل: تطوير تطبيق لمركز العمليات الجوية المشتركة، واستخدام أساطيل من الأقمار الاصطناعية الصغيرة لمراقبة الأنشطة العسكرية، حيث نجحت الوحدة في إحداث تغييرات جذرية في الطريقة التي يفكر ويقاتل بها الجيش الأمريكي.

ومع ذلك، لم تكن هذه الرحلة خالية من التحديات، حيث واجهت الوحدة مقاومة شديدة من داخل البنتاغون؛ مما يسلط الضوء على الصراع بين الابتكار والحفاظ على الوضع الراهن، كما يكشف الكتاب عن التحديات والفرص التي تواجه المؤسسات العسكرية في عصر التكنولوجيا المتسارعة، وكيف يمكن للابتكار أن يكون محركاً للتغيير، حتى في أكثر المؤسسات تقليدية.

ثورة التكنولوجيا العسكرية: 

عبر التاريخ، شكلت العلاقة بين القوة العسكرية والابتكار التكنولوجي محوراً أساسياً في تحديد موازين القوى العالمية، فمنذ براعة الإمبراطورية الرومانية في الهندسة العسكرية إلى ثورة مشروع مانهاتن النووي، ظل التفوق التكنولوجي عاملاً حاسماً في تشكيل نتائج الصراعات، وفي هذا الكتاب يقدم المؤلفان تحليلاً عميقاً لما قد يكون أهم تحول عسكري تكنولوجي منذ العصر النووي؛ وهو الاندماج الثوري بين القدرة الابتكارية لوادي السيليكون والقوة العسكرية للبنتاغون.

بدأت الأحداث في عام 2016، عندما أدركت وزارة الدفاع الأمريكية أن نهجها التقليدي في اقتناء التكنولوجيا العسكرية قد أصبح متقادماً بشكل خطر، فكان تعيين راج. شاه، بخلفيته الفريدة كطيار مقاتل ورجل أعمال، إلى جانب كريستوفر كيرشوف، الاستراتيجي التكنولوجي، بمثابة خطوة جريئة لردم الهوة بين عالمين متباينين، فلم تكن مهمتهما في قيادة وحدة الابتكار الدفاعي (DIU) مجرد إعادة تنظيم إداري؛ بل كانت إعادة تصور جذرية لكيفية تطوير التكنولوجيا العسكرية ونشرها في العصر الحديث.

 إذ قدمت وحدة الابتكار الدفاعي نموذجاً ثورياً يمثل قطيعة جذرية مع نظام المشتريات العسكرية التقليدي، فبدلاً من العقود التي كانت تستغرق سنوات، طورت الوحدة آليات تعاقدات مبتكرة يمكن إنجازها في أسابيع أو أشهر، ونجحت الوحدة في خلق جسور تواصل فعالة بين القطاعين العسكري والتقني، وتطوير بروتوكولات أمنية جديدة تحقق التوازن المطلوب.

وفي ظل التحول العسكري الذي تشهده طبيعة الحروب المستقبلية، واتجاه المواجهات العسكرية نحو عصر رقمي جديد يعتمد على التكنولوجيا المتقدمة والأنظمة الذكية، يبرز هذا التحول من خلال التكامل المتزايد بين الذكاء الاصطناعي والروبوتات المستقلة في العمليات العسكرية، حيث تقوم هذه الأنظمة بتحليل ساحة المعركة واتخاذ القرارات التكتيكية بدقة وكفاءة عالية. وفي هذا الإطار، تؤدي الأنظمة السيبرانية المتطورة دوراً محورياً في هذا التحول؛ إذ تمتد ساحة المعركة لتشمل الفضاء الإلكتروني، مع تطور أساليب الهجوم والدفاع السيبراني، وقد أدى هذا إلى ظهور شبكات اتصال عسكرية فائقة السرعة والأمان، تدعم تبادل المعلومات وتنسيق العمليات في الوقت الفعلي.

ومع تزايد الاعتماد على التقنيات الحديثة، تتطور التكتيكات العسكرية لتواكب هذه التغيرات، حيث يتم تطوير استراتيجيات جديدة تدمج القدرات التقليدية مع التقنيات المتقدمة، وتشمل هذه التطورات استخدام الطائرات المسيرة الذاتية والروبوتات المتخصصة في المهام الخطرة؛ مما يقلل من المخاطر على القوات البشرية ويزيد من كفاءة العمليات العسكرية.

 ويتطلب هذا التحول الشامل استعداداً مستمراً وتطويراً للقدرات العسكرية، مع التركيز على تدريب وتأهيل القادة والجنود للتعامل مع هذه التقنيات المتقدمة، كما يفرض تحديات جديدة في مجال الأمن السيبراني وحماية البنية التحتية العسكرية الرقمية؛ مما يجعل المعركة المستقبلية أكثر تعقيداً وتطوراً من أي وقت مضى.

جسر بين عالمين:

يكشف الكتاب عن التحدي الأكبر الذي واجهته وحدة الابتكار الدفاعي المتمثل في التوفيق بين ثقافتين متناقضتين تماماً، حيث تتميز ثقافة وادي السيليكون بالتركيز على التكرار السريع في إطار التجريب والابتكار المستمر وقبول الفشل كجزء طبيعي من عملية التطوير، بينما في المقابل تتسم ثقافة البنتاغون بالتركيز على الموثوقية والأمان وعمليات صنع القرار المتحفظة تجاه المخاطر.

وقد نجح المؤلفان في توثيق قدرة وحدة الابتكار الدفاعي على خلق ثقافة مختلطة تجمع أفضل ما في العالمين، من خلال تطوير آليات عمل مشتركة واحترام قيود وأولويات كل قطاع، فعلى سبيل المثال، قامت بإنشاء فرق عمل متعددة التخصصات تضم خبراء من البنتاغون وشركات التكنولوجيا، وكان على هذه الفرق تطوير حلول تلبي المتطلبات الأمنية للجيش مع الحفاظ على المرونة والسرعة التي تتسم بها الشركات الناشئة، كما طورت الوحدة بروتوكولات أمنية مبتكرة تمكّن من الحفاظ على سرية المعلومات الحساسة أثناء التعامل المباشر مع الشركات التقنية؛ وبذلك نجحت في التوفيق بين ثقافة الابتكار والمخاطرة في وادي السيليكون وثقافة الأمان والموثوقية في البنتاغون، كما تم إحداث تحول رقمي في ساحة المعركة من خلال تطوير أنظمة دعم القرار المعتمدة على الذكاء الاصطناعي.

لقد أثبتت هذه النجاحات أن التعاون بين القطاعين العسكري والتقني يمكن أن يؤدي إلى نتائج استثنائية عندما يتم تنظيمه بشكل صحيح حيث استطاعت وحدة الابتكار الدفاعي تحقيق توازن دقيق بين سرعة الابتكار التي يتميز بها وادي السيليكون والمعايير الصارمة للأمن والموثوقية التي يتطلبها القطاع العسكري، هذا النجاح لم يكن وليد الصدفة؛ بل نتيجة لجهود متواصلة في بناء الثقة وتطوير آليات عمل مشتركة تحترم احتياجات وقيود كلا الطرفين.

تحديات وآفاق الحرب:

يضع الكتاب هذه التطورات في المجال العسكري التقني في سياق المنافسة الاستراتيجية العالمية، خاصة مع الصين، حيث يقدم المؤلفان تحليلاً معمقاً لكيف أن استراتيجية الدمج العسكري المدني الصينية تمثل تحدياً مباشراً للتفوق التكنولوجي الأمريكي، هذا التحدي يجعل من الضروري تسريع وتيرة الابتكار العسكري الأمريكي وتعزيز الشراكات مع القطاع الخاص.

 ويستخدم المؤلفان الصراع في أوكرانيا كدراسة حالة قوية لتوضيح كيف تعيد التكنولوجيا التجارية تشكيل طبيعة الحرب الحديثة، فقد أظهر هذا الصراع كيف يمكن استخدام صور الأقمار الاصطناعية التجارية للحصول على معلومات استخباراتية استراتيجية، وكيف يمكن تكييف الطائرات من دون طيار لأغراض عسكرية، كما أبرز الصراع الدور المحوري لوسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات التجارية في تشكيل الوعي بساحة المعركة.

ويتطرق الكتاب أيضاً إلى التحديات والفرص المستقبلية في مجال التكنولوجيا العسكرية حيث يناقش المؤلفان التأثيرات المحتملة للتطبيقات العسكرية المحتملة للتكنولوجيا الحيوية، وكيف يمكن للمواد المتقدمة أن تغير طبيعة المعدات والأسلحة العسكرية، ورغم النظرة الإيجابية التي يقدمها الكتاب لإنجازات وحدة الابتكار الدفاعي؛ فإنه لا يتجاهل التحديات المهمة التي تواجه هذا النموذج الجديد، وتشمل الاعتبارات الأخلاقية المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي في صنع القرار العسكري، فمع تزايد اعتماد القوات المسلحة على أنظمة دعم القرار القائمة على الذكاء الاصطناعي، هناك مخاوف بشأن الشفافية والمساءلة في عملية اتخاذ القرارات الحاسمة، وكذلك المخاطر الأمنية المرتبطة بتكييف التكنولوجيا التجارية للاستخدام العسكري، والآثار الاقتصادية طويلة المدى لهذا النموذج الجديد من التعاون.

ومن ثم فإن الكتاب يقدم رؤية شاملة لمستقبل الحرب في عصر التحول الرقمي؛ ليقدم بذلك خارطة طريق لفهم كيف ستتشكل القوة العسكرية في القرن الحادي والعشرين؛ إذ يوضح أن نجاح القوات المسلحة في المستقبل سيعتمد بشكل متزايد على قدرتها على الاستفادة من الابتكارات التكنولوجية التجارية وتكييفها بسرعة للاستخدام العسكري؛ هذا التحول الجذري في طبيعة الابتكار العسكري سيكون له تأثير عميق في مستقبل الحرب والسلام في عالمنا المعاصر.

ختاماً، إن النظرة المتعمقة في تجربة وحدة الابتكار الدفاعي (DIU) أو ما يُعرف بوحدة "إكس" تكشف عن تحول جذري في مستقبل الحروب؛ وهو تحول يضاهي في أهميته اختراع البارود أو ظهور العصر النووي، فقد نجحت هذه الوحدة في تحقيق ما بدا مستحيلاً: بناء جسر متين بين البنتاغون ووادي السيليكون، محولة العلاقة تاريخياً بينهما إلى شراكة استراتيجية فعالة.

 وشكل نموذج عمل تلك الوحدة، الذي منح قادتها مثل شاه وكيرشوف صلاحيات واسعة تتجاوز البيروقراطية التقليدية، نقلة نوعية في كيفية تطوير القدرات العسكرية، فبدلاً من الاعتماد الحصري على شركات الدفاع العملاقة التقليدية فتحت الوحدة الباب أمام الشركات الناشئة المبتكرة؛ مما أدى إلى تسريع وتيرة التطور التكنولوجي العسكري بشكل غير مسبوق؛ مما أسفر عن مجموعة مذهلة من الابتكارات مثل: السيارات الطائرة القادرة على الهبوط كالمروحيات، والطائرات المسيّرة المزودة بالذكاء الاصطناعي التي تستطيع استكشاف المباني داخلياً، وصولاً إلى الأقمار الاصطناعية المصغرة التي تخترق السحب لرصد المواقع الاستراتيجية. كل هذه الإنجازات وغيرها أصبحت جزءاً من الترسانة العسكرية الأمريكية، بفضل جهود وحدة الابتكار الدفاعي.

وفي ظل عالم تسعى فيه الصين -المنافس الرئيسي للولايات المتحدة- إلى تسخير كل قدراتها التكنولوجية التجارية لخدمة أهدافها العسكرية، لم تعد العلاقة الوثيقة بين واشنطن ووادي السيليكون مجرد خيار مستحسن؛ بل أضحت ضرورة استراتيجية ملحة، وتقف تجربة وحدة الابتكار الدفاعي شاهداً على أن الابتكار التكنولوجي، مدعوماً بالتعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص؛ هو السبيل الوحيد للحفاظ على التفوق العسكري في عالم يتسم بالتغير المتسارع والتحديات الجيوسياسية المتزايدة.

المصدر:

Raj M. Shah & Christopher Kirchhoff, Unit X: How the Pentagon and Silicon Valley Are Transforming the Future of War, Scribner, 2024.