عرض: وفاء الريحان
تاريخياً، قادت الصراعات الكبرى إلى دمار الحضارات المزدهرة، إلا أن هناك العديد من الأسباب وقفت وراء انهيار تلك الحضارات، حيث تفاعلت أزمات الداخل مع تهديدات الخارج لتقضي عليها، وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول: كيف ولماذا اختارت مجتمعات من اليونان القديمة إلى العصر الحديث تدمير أعدائها؟ وهل يمكن أن تحدث حروب إبادة مماثلة في عصرنا الحالي؟ وما الأخطاء التي ارتكبتها الحضارات المنهارة؟ وكيف أخفقت في قراءة نيات أعدائها؟ إلى غير ذلك من التساؤلات التي تنبع من التحليل التاريخي لسقوط الحضارات، في محاولة لاستخلاص الدروس المستفادة كي تتجنب المجتمعات المعاصرة ذات المصير.
وفي هذا السياق، يُحاول المؤرخ العسكري فيكتور ديفيس هانسون في كتابه "نهاية كل شيء: كيف تنحدر الحروب إلى الإبادة" الصادر في العام 2024 أن يتناول مسألة اندفاع الحروب نحو الإبادة التامة، ويستعرض كيف قادت صراعات كبرى إلى دمار حضارات كاملة عبر سلسلة من الحصارات وأعمال النهب التي امتدت من العصور القديمة إلى غزو العالم الجديد. ويعرض المبادئ الأساسية لفن الحرب، ويركز على الأخطاء التي ارتكبتها الحضارات المنهارة، وكيف أخفقت في قراءة نيات أعدائها. ويُحذر من مخاطر تجاهل دروس التاريخ، داعياً القادة والمجتمعات المعاصرة إلى التيقظ حتى لا يتكرر الخطأ مجدداً.
سقوط الحضارات والحروب:
يتطرق الكتاب إلى عِدة نماذج تاريخية شهيرة لسقوط حضارات كانت مزدهرة مثل سقوط طيبة تحت يد الإسكندر الأكبر، وتدمير قرطاج على يد الرومان، وسقوط القسطنطينية على يد العثمانيين، والإبادة الجماعية للأزتك في تينوتشتيتلان على يد الإسبان. ويبرز هانسون هذه الأحداث بوصفها رموزاً لانحدار المجتمعات إلى الوحشية عندما تكون الحرب خيارها الأخير، مشيراً إلى أن الحروب كثيراً ما تتجاوز مجرد الانتصار العسكري إلى تدمير حضارات بأكملها.
يرى هانسون أن الحضارات لا تنهار فجأة؛ بل تتآكل ببطء نتيجة لعوامل عدة. وتعمل هشاشة الحضارة؛ عندما تكون الأنظمة الاجتماعية والسياسية عرضة للفشل؛ مما يسرع تأثير تلك العوامل، حيث تكون الهشاشة موجودة لكنها غير مرئية حتى تحدث الأزمات. وعلى الرغم من التقدم التكنولوجي والهياكل الاجتماعية المعقدة للحضارات؛ فإنها تظل دائماً عُرضة لخطر الانهيار بسبب عوامل داخلية وخارجية؛ فعندما يتفشى بالداخل الفساد الحكومي، وعدم الاستقرار الاقتصادي، والتفكك الاجتماعي؛ تقوم القوى الخارجية باستغلال الضعف الداخلي وتُسرع عملية الانهيار عن طريق الغزوات أو الضغوط العسكرية.
واستعرض هانسون نماذج تاريخية لحضارات سقطت بفعل تلك الهشاشة، ومنها الإمبراطورية الرومانية التي أسهم الفساد والضعف السياسي في تآكل قوتها؛ مما أدى في النهاية إلى انهيارها. وحضارة المايا حيث أدت العوامل البيئية والاجتماعية إلى انهيارها. ويدعو هانسون القادة والمجتمعات إلى الوعي بالهشاشة التي تعاني منها الحضارات، ويشدد على أهمية تعزيز المؤسسات والتضامن الاجتماعي كوسيلة لتفادي الانهيار، وبما يُشكل نقطة انطلاق لفهم كيفية تجنب الأخطاء التي أدت إلى انهيارات تاريخية؛ مما يجعل الدروس المستفادة من التاريخ ذات قيمة كبيرة في سياق الحاضر.
عوامل الهشاشة:
يستعرض هانسون الأسباب التي أدت تاريخياً إلى انهيار الحضارات وكثير منها مستمر في الوقت الراهن، ويُحددها في التالي:
- التفكك الاجتماعي: حيث تؤدي الانقسامات الاجتماعية، سواء أكانت على أسس عرقية أم طبقية، إلى تفكك النسيج الاجتماعي؛ ومن ثم تُضعف قدرة المجتمع على الاستجابة للأزمات.
- العوامل الاقتصادية: يُحددها هانسون في تأثير الفجوة في الدخل بين الأغنياء والفقراء، والإهمال في إدارة الموارد الاقتصادية والسياسات المالية، والاعتماد على صناعات معينة، حيث تؤدي تلك السياقات إلى زعزعة استقرار المجتمعات، مؤكداً أهمية التنوع الاقتصادي؛ باعتبار أن الاقتصادات المتنوعة أكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات.
وقدَّم الكاتب أمثلة على أزمات اقتصادية تاريخية منها الانهيار الاقتصادي خلال الكساد العظيم ونهاية الاتحاد السوفيتي، موضحاً أنه لا بد من الانتباه للإشارات الاقتصادية التحذيرية التي تظهر قبل ذلك بسنوات مثل زيادة معدلات البطالة أو التباطؤ في النمو الاقتصادي، حيث يمكن أن تشير إلى مشكلات أكبر على المدى البعيد.
- التدهور البيئي: يربط الكاتب بين تأثير عوامل التدهور البيئي مثل إزالة الغابات، وتآكل التربة، ونفاد الموارد، وما أدى إليه ذلك من تدهور الزراعة واضطرابات اجتماعية عبر التاريخ أدت إلى انهيار الحضارات. تاريخياً؛ أدت إزالة الغابات إلى فقدان التنوع البيولوجي وتدهور التربة، وكان تآكل التربة سبباً رئيسياً في انخفاض الغلات الزراعية، كما تسبب نفاد الموارد الطبيعية مثل المياه والمعادن في توترات اجتماعية وصراعات على البقاء. واستعرض هانسون أمثلة تاريخية لانهيار حضارات بفعل الأزمات الزراعية الناتجة عن تدهور البيئة ومنها حضارة المايا.
- الإفراط العسكري: وعرفه الكاتب بأنه "الانغماس في الحروب المتواصلة ورفع مستوى الإنفاق العسكري بشكلٍ يتجاوز قدرة الدولة". ويُركز في هذا الجانب على تأثير الحملات الحربية المطولة ونفقات الدفاع غير المستدامة في انهيار الإمبراطوريات التاريخية. فقد أدَّت الحروب المستمرة التي خاضتها الإمبراطورية الرومانية ضد القبائل الجرمانية إلى استنزاف الموارد وخلق حالة من عدم الاستقرار داخلها. كما أسهمت الحربان العالميتان الأولى والثانية في استنزاف الإمبراطورية البريطانية؛ مما أدى إلى فقدان السيطرة على مستعمراتها.
كما تناول هانسون التأثير الناجم عن الإنفاق العسكري المرتفع، موضحاً أن تخصيص الموارد الكبيرة للجيش يمكن أن يُقوض الاستثمار في القطاعات الحيوية الأخرى. مُحذراً من أن القوى الكبرى الحديثة قد تواجه عواقب مماثلة؛ إذا فشلت في التوفيق بين الطموحات العسكرية والاستقرار الداخلي والرفاه الاقتصادي.
- انتشار الفساد: أشار الكاتب إلى أن الفساد يقوض الثقة العامة، ويضعف المؤسسات؛ ويمكن أن يؤدي إلى الفوضى والثورات في المجتمعات، ودلل على ذلك ببعض الأمثلة من اليونان القديمة والديمقراطيات الحديثة.
- التدهور الثقافي: حيث يرى أن المجتمعات عندما تفقد قيمها المشتركة، وعاداتها، وإحساسها بالهوية، تصبح أكثر عُرضة للتفكك والانهيار. وحذَّر هنا من مخاطر النسبية الأخلاقية؛ التي ينجم عنها عدم وجود معايير أخلاقية واضحة؛ ومن ثم شيوع الفوضى والارتباك. كما دعا إلى أهمية الحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي والتناغم الاجتماعي؛ لأن ذلك يُسهم في بناء هوية قوية ومستقرة.
- التطور التكنولوجي: قام الكاتب بتحليل كيف أدت التطورات التكنولوجية عبر التاريخ إلى حدوث اضطرابات اقتصادية واجتماعية مثل تأثير الثورة الصناعية في أسواق العمل. ويرى أن التكنولوجيا سلاح ذو حدين؛ فرغم أنها أسهمت في تحسين نوعية الحياة؛ فإنها أدت في بعض الحالات إلى حدوث انقسامات اقتصادية واجتماعية مثل ما أحدثته الثورة الصناعية من تأثير في القوى العاملة. ونادى هانسون بضرورة وجود سياسات تنظيمية تهدف إلى التأكد من أن فوائد التكنولوجيا تتوزع بشكل عادل على جميع أفراد المجتمع. كما لفت الانتباه إلى التحديات المستقبلية التي قد تنجم عن التقدم التكنولوجي مثل تأثير الذكاء الاصطناعي والأتمتة في القوى العاملة.
- القيادة غير الكفؤة: تحدث هانسون عن أهمية القيادة كعنصر رئيسي في بقاء وحيوية الحضارات. وسلط الضوء على نماذج لقادة تاريخيين كانت أفعالهم وسياساتهم إما منقذة أو مدمرة لمجتمعاتهم. وناقش المخاطر الناتجة عن القيادات غير الكفؤة أو الاستبدادية، حيث إن الافتقار إلى الرؤية يمكن أن يؤدي إلى سوء إدارة الأزمات ويعزز حالة الاضطراب.
- تعقيدات العولمة: حاول هانسون أن يستكشف تأثير العولمة في الثقافة الحديثة، وكيف أن الترابط المتزايد بين أجزاء العالم يخلق للدولة فرصاً ويعزز مرونتها بفعل التجارة والتعاون الدولي من ناحية، ويؤدي إلى هشاشتها ويجعلها أكثر عرضة للصدمات العالمية من ناحية أخرى، وضرب على ذلك مثلاً بالأزمات العالمية مثل الأوبئة والكوارث الطبيعية التي تنتشر بسرعة أكبر في العالم المترابط الأجزاء.
واستعرض هانسون أبرز الأزمات العالمية المعاصرة مثل جائحة كورونا؛ ليُظهر كيف أن القضايا المعاصرة أصبحت عابرة للحدود ومتجاوزة الأثر، مُشيراً إلى الكيفية التي تؤثر بها الأزمات الصحية في الاقتصاد والسياسة بجميع أنحاء العالم، وداعياً إلى ضرورة تطوير استراتيجيات استجابة عالمية فعالة لتحقيق التوازن بين استغلال الفرص التي توفرها العولمة ومواجهة المخاطر المرتبطة بها، مؤكداً أهمية التعاون بين الدول لتحقيق الأمن والاستقرار.
التعلم من التاريخ:
يلخص هانسون في الجزء الأخير من الكتاب الدروس المستفادة من هذا التحليل التاريخي لأسباب انهيار الحضارات، مؤكداً ضرورة التعلم من التاريخ لتجنب تكرار الأخطاء الماضية، وداعياً إلى اعتماد استراتيجية متوازنة مبنية على رؤية مستقبلية شاملة تشمل الحذر الاقتصادي، والمسؤولية تجاه البيئة، وضبط النفس العسكري، والمصداقية السياسية، والحفاظ على الثقافة، وإدارة التكنولوجيا، والقيادة الفعّالة.
ويختتم هانسون بتأكيد أن التعلم من التاريخ يمكن أن يساعد الحضارات الحديثة على تجنب الانهيار ويسهم في بناء مستقبل أكثر استدامة ومرونة. مؤكداً أن مثل هذه الحروب التي أدت إلى الإبادة الجماعية ليست مجرد أحداث من الماضي؛ إذ يمكن أن تعيد نفسها في الحاضر، ومحذراً من أن بعض القادة قد يستهدفون خصومهم بنفس الآليات مستغلين ذات العوامل التي حدثت بالماضي، معتبراً أن الحرب الروسية الأوكرانية يمكن أن تكون نموذجاً لتكرار سيناريوهات الماضي التي تحولت فيها الحروب إلى إبادة تامة. موضحاً كيف أن السذاجة السياسية والاستهانة بالأعداء كثيراً ما تؤدي إلى كوارث مدمرة، مشيراً إلى أن تجاهل إشارات العداء والتصعيد قد يكون خطراً.
ختاماً، يقر هانسون بالتحديات الكبيرة التي تواجه الحضارة الحديثة، لكنه يعتقد أنه من خلال التعلم من الماضي، يمكن للدول أن تتجنب الانهيار الكارثي. ويحذر من الفشل في مواجهة التحديات المعاصرة كتغير المناخ والتلوث، حيث يمكن أن يؤدي إلى نتائج وخيمة مشابهة لتلك التي شهدتها الحضارات السابقة. ويبرز أهمية العمل الجماعي، والقيادة المستنيرة، والالتزام بالاستدامة والمساواة لتجنب تكرار تجارب الماضي؛ مُطالباً المجتمعات المعاصرة عامة والولايات المتحدة خاصة باتخاذ تدابير استباقية لضمان بقائها وازدهارها.
المصدر:
Victor Davis Hanson, The End of Everything: How Wars Descend into Annihilation, (New York: Basic Books, 2024).