أخبار المركز
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)
  • محمود قاسم يكتب: (الاستدارة السريعة: ملامح المشهد القادم من التحولات السياسية الدرامية في كوريا الجنوبية)
  • السيد صدقي عابدين يكتب: (الصدامات المقبلة: مستقبل العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في كوريا الجنوبية)
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)

خليفة "بوتين":

العوامل المؤثرة في عملية تداول السلطة في روسيا

02 سبتمبر، 2020


عرض: د. إسراء إسماعيل - خبير في الشؤون السياسية والأمنية

عمل الرئيس "فلاديمير بوتين" منذ صعوده إلى السلطة على تقوية سلطاته من خلال ترسيخ دعائم السلطة المركزية، غير أن هذا النموذج بات يعاني اليوم من مأزق بسبب عدد من الأزمات المتلاحقة، آخرها جائحة كورونا وما لها من تداعيات اقتصادية أثّرت بالسلب على الاقتصاد الروسي الذي يعاني بالفعل من جراء تراجع أسعار النفط العالمي، والعقوبات المفروضة على موسكو.

وفي هذا الإطار، أصدرت مؤسسة راند في يوليو الماضي تقريرًا حول العوامل المؤثرة في عملية تداول السلطة في روسيا، وخلافة الرئيس "فلاديمير بوتين"، أعده "جون تيفت"، وسلط الضوء فيه على العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الرئيسية التي ستؤثر على اختيار خليفة "بوتين".

مسار "بوتين" للسيطرة على الحكم

وافق الرئيس "بوتين" في العاشر من مارس 2020 على اقتراح تم طرحه في مجلس الدوما لإجراء تعديل دستوري من شأنه إعادة تحديد مدة الدورة الرئاسية، بحيث يسمح له بإعادة انتخابه فترتين إضافيتين لمدة ست سنوات بعد انتهاء فترته الحالية في عام 2024، بما يعني تمديد فترة رئاسته حتى عام 2036. ويفتح هذا التعديل العديد من الخيارات أمام "بوتين"، وربما الأهم من ذلك، أنه يؤجل ما كان يخشاه من وقوع تنافس وصراع بين النخب الروسية لتحديد من يخلفه، وبالتالي فقد أتاحت له التعديلات إمكانية استمرار سياساته وإرثه.

يشير التقرير إلى أن روسيا كانت أقوى وأكثر تأثيرًا في الشؤون الدولية مما كانت عليه بعدما أصبح رئيسًا؛ حيث حدَّت بعض قراراته المحلية والدولية من نمو البلاد ونفوذها، فضلًا عن إحجامه عن تبني الإصلاحات الاقتصادية اللازمة. كما كان لقراره بالاستيلاء على شبه جزيرة القرم، والسيطرة على دونباس الأوكرانية، عواقب سلبية، فضلًا عن الهجمات الإلكترونية الروسية ومحاولات التأثير على الانتخابات في الولايات المتحدة وأوروبا، مما أدى إلى فرض عقوبات غربية على موسكو، والتي تسببت بدورها في عزلة جزئية لروسيا عن الغرب.

العوامل الرئيسية في تداول السلطة

قدم التقرير طرحًا تحليليًّا لتوضيح العوامل المؤثرة في عملية تداول السلطة في روسيا، ارتكز على 4 محاور رئيسية، هي على النحو التالي:

أولًا- التوترات والتنافس بين النخب الروسية: يعتمد استقرار روسيا وشرعيتها بشكل كبير على إجماع النخبة على دعم "بوتين" والرضوخ العام له، وليس على المؤسسات، وكان أحد إنجازات "بوتين" كرئيس هو إدارة النخب الروسية وتحقيق التوازن بين الجماعات المتنافسة. ويأمل الرئيس الروسي في أن يؤدي تمديد فترة رئاسته إلى تحجيم الصراعات والتنافس، ويواصل الاعتماد على ولاء ودعم النخبة السياسية في مدينته ليننجراد، كما أنه لا يزال متحالفًا بشكل وثيق مع زملائه السابقين في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، الذين يواصلون شغل مناصب رئيسية في الكرملين والأجهزة الأمنية. ومع ذلك، تظهر خلافات بين أعضاء تلك النخبة، مثل تلك التي تركز على "دميتري ميدفيديف"، وهم مرتبطون في أذهان الكثيرين بتوجه أكثر موالاة للغرب، والذي أصبح غير مفضل بشكل متزايد.

ثانيًا- دور "سيلوفيكي" والحرس الوطني: اعتمد "بوتين" في تثبيت أركان حكمه على مجموعة من رجال الدولة المنتمين إلى المؤسسات الأمنية عرفت باسم "سيلوفيكي"، وتعني الرجال الأقوياء ذوي الخلفيات الأمنية والاستخباراتية. ومن الناحية التاريخية، لم تكن هناك صراعات أكثر حدة من تلك التي نشبت بين عناصر مختلفة من السيلوفيكي. وفي أبريل 2016، أعلن "بوتين" تشكيل حرس وطني يضم نحو 340.000 من رجال الشرطة، وهذه القوات مسؤولة بشكل مباشر أمامه، ومستقلة عن أجهزة المخابرات والجيش الروسي، ويرى العديد من المحللين أن الرئيس الروسي يحاول إنشاء شبكة أمنية تستطيع أن تنافس الشبكة التي يديرها جهاز الأمن الفيدرالي، ومن الواضح أن لديها القدرة على لعب دور رئيسي في تحديد من يخلف "بوتين".

ثالثًا- التحدي الاقتصادي: عانت روسيا من ركود اقتصادي نسبي منذ الأزمة المالية العالمية في 2008-2009، ويرجع ذلك إلى الافتقار إلى إصلاحات اقتصادية هيكلية، والتوترات الجيوسياسية مع الغرب التي تسببت في فرض عقوبات، واستمرار الفساد، مما أضر بمناخ الاستثمار. وقد شهدت روسيا انخفاضًا بنسبة 2.8% تقريبًا في الناتج المحلي الإجمالي بعد غزو أوكرانيا، ومن المرجح أن تؤدي جائحة كورونا إلى تراجع في النمو بنسبة 5-10%. وعلى مدى عقود، اعتمدت موسكو على احتياطياتها الغنية من النفط والغاز والذهب والماس، لكن أسعار هذه الموارد تراجعت، ولم تتمكن روسيا من تطوير قاعدة صناعية قادرة على المنافسة في الأسواق الدولية، مما يثير التساؤلات حول سبب ادعائها أنها قوة عظمى قادرة على منافسة الولايات المتحدة والصين على الرغم من أن اقتصادها يحتل المرتبة 11 أو 12 فقط على مستوى العالم.

رابعًا- عدم الرضا العام: كتب العديد من المحللين عن العقد الاجتماعي غير الرسمي بين "بوتين" والشعب الروسي، والذي تمثل في عدم التدخل في السياسة مقابل الاستقرار وتحسين الوضع الاقتصادي. وفي عام 2008، هزت الأزمة المالية العالم، وانخفض سعر النفط، ولأكثر من عقد عانت روسيا من نكسات اقتصادية متتالية، وبالتالي ارتفعت مستويات عدم الرضا العام؛ حيث تعكس استطلاعات الرأي انخفاض شعبية "بوتين" من 84% بعد غزو القرم عام 2014 إلى أقل من 60% في الوقت الراهن. ويتجلى الغضب الشعبي بشأن القضايا الاجتماعية والسياسية في المظاهرات التي زاد عددها عام 2019، وركزت على مجموعة من القضايا، من أبرزها: رفع سن التقاعد، وانغلاق قنوات المشاركة السياسية. 

وإلى جانب العوامل السابقة توجد محددات أخرى والتي من شأنها التأثير أيضًا على ديناميكيات تداول السلطة وخلافة "بوتين"، ومن أبرزها:

1- التحديات الديموجرافية والصحية: في خطابه عن "حالة الأمة" في يناير الماضي، لفت "بوتين" إلى خطورة انخفاض عدد السكان في البلاد؛ ففي أوائل التسعينيات، كان عدد سكان روسيا حوالي 148 مليون نسمة، أما اليوم فالعدد يقرب من 143 مليونًا (لا تشمل القرم)، وفي عام 2018، توقعت الأمم المتحدة أن ينخفض عدد سكان روسيا إلى 132 مليونًا بحلول عام 2050، ويمكن أن يكون لذلك تأثير خطير على سوق العمل، وعلى أعداد الشباب المجند في الجيش الروسي.

2- القوميات المتنافسة: كانت إحدى القضايا الجوهرية التي ظهرت خلال ولايتي "بوتين" الثالثة والرابعة، تصادم القوميات المتنافسة في روسيا والدول المجاورة، وربما يكون ضم شبه جزيرة القرم والقتال في دونباس أفضل الأمثلة على الصراع بين رغبة روسيا في استعادة مجال نفوذها، وارتفاع روح القومية الروسية من ناحية، وبين محاولة تأكيد الذات لدى الدول الواقعة على أطراف روسيا من ناحية أخرى. وبالنسبة لبوتين فقد زادت شعبيته بنسبة كبيرة بعد غزو القرم، وساعد الانخراط العسكري الروسي في سوريا في تعزيز سمعته كقائد مستعد لإعادة تأكيد دور موسكو كقوة عظمى في العالم. ولكن في ضوء التكلفة الاقتصادية للانخراط العسكري الخارجي، والعقوبات الغربية بسبب أوكرانيا، وتداعيات ذلك على الاقتصاد الروسي؛ فقد تراجعت جاذبية الأفكار القومية إلى حدٍّ ما.

ديناميكيات أصحاب المصلحة

يتطلب تحليل الديناميكيات المرتبطة بمستقبل تداول السلطة في روسيا النظر في العديد من الكيانات المؤثرة التي تمثل أصحاب المصالح، ومن أبرزها:

1- الأقلية النخبويّة (الأوليجاركية): تمكن الرئيس "بوتين" من فرض سيطرته على الأقلية النخبوية الحاكمة، بعد أن اكتسبت هذه النخبة نفوذًا اقتصاديًّا وسياسيًّا هائلًا خلال فترة حكم الرئيس "بوريس يلتسين"، وقد أعرب عدد منهم عن استيائه من سياسة "بوتين" الاقتصادية. وتجدر الإشارة إلى أن العديد منهم لديه مصالح تجارية كبيرة خارج روسيا. ويؤكد التقرير أن طبقة الأوليجاركية الروسية ستفضل سياسة اقتصادية أكثر انفتاحًا تجاه الغرب، لكن ليس من الواضح إذا ما كان لديها استعداد لممارسة الضغط لدعم التقارب مع الغرب أم لا.

2- الجيش: أيًّا كان من سيخلف "بوتين"، فسيتعين عليه الاحتفاظ بولاء الجيش الروسي، حيث تظل القوات المسلحة الروسية المؤسسة الأكثر شعبية في البلاد، وبالتالي فإن ولاءها سيكون حاسمًا في عملية انتقال السلطة، ويبدو من المستبعد أن يتدخل الجيش بشكل مباشر كما حدث خلال انقلاب أغسطس 1991 ضد "ميخائيل جورباتشوف"، ولكن يمكن استدعاء القوات المسلحة لممارسة نفوذها لدعم مرشح معين لخلافة "بوتين"، وذلك مقابل التزام الرئيس الجديد بمواصلة تخصيص ميزانية مرتفعة لوزارة الدفاع.

3- المعارضة: طوال فترة ولايته الرابعة، سعى "بوتين" ومساعدوه باستمرار إلى تقويض المعارضين، وقمع المظاهرات العامة، وتم إلقاء القبض على زعيم المعارضة "أليكسي نافالني" بشكل متكرر، كما تجدر الإشارة إلى أن "نافالني" سعى إلى الترشح في الانتخابات الرئاسية عام 2018، لكن لجنة الانتخابات المركزية حكمت بأنه غير مؤهل بسبب إدانة جنائية سابقة، وقد قررت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن حقوقه قد انتُهكت، وخلُص التقرير النهائي للمراقبين الخبراء من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) إلى أن القيود المفروضة على الحريات، وكذلك على تسجيل المرشحين، حدَّت من مساحة المشاركة السياسية، وأدت إلى عدم وجود منافسة حقيقية.

4- وسائل الإعلام: كان لسيطرة "بوتين" على وسائل الإعلام دور فعال في الحفاظ على هيمنته السياسية على مفاصل الحكم في روسيا، ولا يزال التلفزيون يعد مصدر المعلومات الأساسي للمواطنين الروس، ومع ذلك فقد تزايد مؤخرًا الاعتماد على الإنترنت، خاصة بين الشباب. وفي المقابل، أصدرت الحكومة قوانين تمنح السلطات دورًا أكبر في السيطرة على الإنترنت، ففي الأول من مايو 2019، وقَّع "بوتين" قانونًا يمنح الحكومة سلطة التحكم في الإنترنت وإنشاء نظام بديل، ودخل "قانون الإنترنت السيادي" حيز التنفيذ، مما يمنح الحكومة أداة مهمة للسيطرة على تدفق المعلومات، والمساعدة في توجيه الدعم الشعبي والنخبوي للزعيم الروسي الجديد الذي سيخلف "بوتين".

كيف سينتهي عصر "بوتين"؟

يؤكد التقرير أنه من المستحيل التنبؤ بما إذا كان سينتهي حكم "بوتين" بطريقة منظمة أو كجزء من معركة أوسع على السلطة السياسية. وفي هذا الإطار، قدم عددًا من السيناريوهات المحتملة:

أولًا- سيناريوهات البقاء في السلطة: من خلال الموافقة على التعديلات الدستورية لعام 2020، يمكن لبوتين ببساطة الاستمرار في منصب الرئيس، والترشح مرة أخرى في عام 2024 وربما في عام 2030. كما يوجد أمامه عدد من الخيارات الأخرى، حيث يتوقع البعض أن يقوم بدور "أب للأمة" على غرار "نزار باييف" الذي اختار "قاسم جومارت توكاييف" خلفًا له مع الاحتفاظ بالسلطة كرئيس لمجلس الأمن في كازاخستان وكقائد للحزب الحاكم.

وفي حالة ما إذا تم دمج بيلاروسيا في اتحاد روسي أكبر وفقًا لمعاهدة عام 1999 بشأن إنشاء دولة اتحادية بين روسيا وبيلاروسيا، يمكن أن يصبح "بوتين" الرئيس العام أو الزعيم الفعلي لكلا البلدين.

ومن خلال زيادة سلطة مجلس الدولة الروسي، وهو هيئة استشارية أنشأها "بوتين" في عام 2000، يمكن له الحكم من أعلى، مع تفويض المسؤوليات اليومية إلى هيئة جديدة.

وعلى الرغم من أنه يبدو الآن مستبعدًا، فقد يعود "بوتين" إلى الحيلة التي ابتكرها في عام 2007، حيث قد يسمح لمخائيل ميشوستين (أو أي مرشح آخر) بأن يصبح رئيسًا، ويتولى مرة أخرى منصب رئيس الوزراء.

هناك احتمال آخر غير مرجح، من شأنه أن يجعل روسيا تتحرك أكثر في اتجاه تطبيق النظام البرلماني، وتم اقتراحه من قبل رئيس مجلس الدوما، وهذا النظام إذا طُبق سيمنح رئيس الوزراء سلطة كاسحة، ومن المفترض أن يجعل منصب الرئيس صوريًّا.

ثانيًا- سيناريوهات التخلي عن السلطة: هناك العديد من الاحتمالات، وإن كانت غير مرجحة، في حالة قرر "بوتين" ترك السلطة، إذ يُمكن له ببساطة أن يعيّن خليفته الذي سيرشح نفسه للرئاسة في انتخابات جديدة تكون نتيجتها مقدرة، ومن المفترض أن يتوصل الرئيس الجديد إلى تفاهمات معينة حول حماية أمن "بوتين" وعائلته وثروته.

السيناريو المستبعد -إلى حدٍّ كبير- سيكون إجراء انتخابات حرة إلى حد ما، حيث يُسمح لمرشحين متعددين بالتنافس، وسيناريو آخر مستبعد حدوثه أيضًا يتمثل في تقاسم فعلي للسلطة بين مجموعة من القادة الذين يسيطرون على مراكز القوة المختلفة في روسيا.

إذا توفي "بوتين" فجأة أو استقال، فإن الدستور الروسي يدعو رئيس الوزراء لأن يصبح رئيسًا بالوكالة لمدة 90 يومًا، بينما يتم تنظيم انتخابات جديدة لرئيس جديد. وهذا من شأنه أن يمنح "ميشوستين" (أو أي شخص يشغل المنصب في ذلك الوقت) فرصة لخلافة "بوتين".

وأخيرًا، هناك دائمًا إمكانية لعزل "بوتين" بالقوة أو الضغط واستبداله بزعيم جديد، خاصة وأن سيناريو الانقلابات له جذور في التاريخ الروسي، لكنه يبدو غير مرجح اليوم، بالنظر إلى قوة "بوتين".

وختامًا، أكد التقرير أنه بغض النظر عن إدارة "بوتين" وروسيا لعملية تداول السلطة وانتقالها لرئيس جديد، ستظل روسيا تواجه الأسئلة الأساسية التي واجهتها منذ عام 1991، وهي: هل تستطيع بناء دولة قومية حديثة ناجحة؟ هل يمكن أن تصبح شريكًا دوليًّا أكثر تعاونًا؟. وفي هذا الإطار، قد يواجه الرئيس الجديد مجموعة من الخيارات والتحديات أكثر صعوبة، وبالمثل فإن التحديات التي ستواجه الولايات المتحدة وأوروبا خلال المرحلة التالية من التحول الروسي ستكون على الأرجح بدرجة الصعوبة نفسها، ولا يمكن استبعاد المزيد مما حدث خلال حكم "بوتين".

المصدر 

John Tefft, Understanding the Factors That Will Impact the Succession to Vladimir Putin as Russian President, RAND Corporation, July 2020.