أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

حدود الجدوى:

هل يستطيع خط أنابيب "إيست ميد" بناء قاعدة واسعة من العملاء؟

14 يناير، 2020


تسعى قبرص واليونان وإسرائيل لإنشاء خط أنابيب "إيست ميد" بهدف نقل موارد الغاز من حوض شرق المتوسط إلى أوروبا، بما من شأنه أن يعمل على تأمين مصادر طاقة متنوعة لأوروبا، علاوة على تعزيز المكاسب الجيوسياسية والاقتصادية للدول المنتجة للغاز بالمنطقة. غير أن هناك العديد من التحديات التي تواجه المشروع، ومن بينها عدم الاستقرار الإقليمي بالمنطقة، علاوة على توقعات بارتفاع أسعار التسليم لغاز المتوسط مقارنة بنظيره الروسي، مما سيجعل من الصعب على الدول المشاركة في المشروع -حتى إن مضت في تنفيذه- إيجاد قاعدة واسعة من مشتري الغاز الأوروبيين من خلاله.

دعم أوروبي:

بدأت البلدان الثلاثة (قبرص، واليونان، وإسرائيل) مناقشات أولية حول تنفيذ خط أنابيب "إيست ميد" في عام 2012، غير أنه لم يتم توقيع الصيغة الرسمية للمشروع إلا بعد ذلك بثماني سنوات تقريبًا، وذلك عندما اجتمع رئيس الوزراء اليوناني "كيرياكوس ميتسوتاكيس" والرئيس القبرصي "نيكوس أناستاسيادس" ورئيس وزراء إسرائيل "بنيامين نتنياهو" في العاصمة اليونانية أثينا في 3 يناير 2020، وتم إبرام اتفاق أولي بينهم يقضي بالانتهاء من تنفيذه بحلول عام 2025.

وسبق هذا الاتفاق توقيع وزراء الطاقة بالبلدان الثلاثة السابقة في مارس 2017 ما يُعرف بــ"الإعلان المشترك" بشأن تنفيذ خط الأنابيب، وذلك تأكيدًا لدعمهم للمشروع، وكان ذلك بحضور وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" مما وجه رسالة قوية حينها بوجود دعم أمريكي واضح لتنفيذ المشروع، فضلًا عن دعم المفوضية الأوروبية له. ورغم ذلك، فإن شركة "آي جي آي بوسيديون" (IGI Poseidon)، مطور المشروع، وهي شركة مشتركة بين شركة الغاز اليونانية المملوكة للدولة "ديبا" وشركة إديسون الإيطالية للغاز، ستنتظر حتى عام 2022 لاتخاذ القرار النهائي بشأن المشروع للتأكد من اعتبارات الجدوى الاقتصادية والفنية له. 

وسوف يمتد خط أنابيب "إيست ميد" بطول 1900 كم، حيث من المقرر أن يربط بين حقول الغاز الطبيعي في قبرص وإسرائيل، مرورًا بجزيرة كريت اليونانية، وصولًا إلى شبه جزيرة بيلوبونيس في اليونان، حيث يلتقي بخط أنابيب "بوزيدون"، لينطلق من هناك إلى الحدود الإيطالية، وذلك بطاقة استيعابية مبدئية قدرها 10 مليارات متر مكعب سنويًّا. 

خط أنابيب "إيست ميد" بين قبرص وإسرائيل واليونان


Source: Gas infrastructures, Edison, accessible at: https://bit.ly/37GE6co 

ويُعد "ميد إيست" واحدًا من أكثر مشاريع خطوط الأنابيب العالمية تعقيدًا من حيث المواصفات الفنية، ففضلًا عن طوله الذي يبلغ نحو مرة ونصف خط أنابيب "نورد ستريم" الروسي، فمن المفترض أن يمر تحت أعماق مياه شرق المتوسط بمسافة تتجاوز 2000 متر، وهذا ما سوف يرفع كلفته إلى أكثر من 6 مليارات دولارات، والتي قد تزيد عند تنفيذه في المستقبل القريب. 

مكاسب متنوعة:

حققت الدول المشاركة في المشروع (مثل: قبرص، وإسرائيل) اكتشافات كبيرة من الغاز الطبيعي في السنوات الماضية من المتوقع ألا تُسهم فقط في تلبية احتياجات سوقها المحلية المحدودة، وإنما إمكانية تصدير فائض إنتاجها للأسواق الأوروبية المجاورة (مثل: اليونان، وإيطاليا) من خلال الربط معها بشبكة من خطوط أنابيب الغاز على غرار خط أنابيب "إيست ميد"، وهذا ما من شأنه أن يعمل على تعزيز أمن الطاقة بالقارة الأوروبية. 

وعلى جانب آخر، يعد توقيع اتفاق خط أنابيب "إيست ميد" في هذا التوقيت بمثابة رسالة تنبيه قوية لتركيا بأنها ماضية في تطوير مواردها من الغاز الطبيعي على الرغم من تحركات أنقرة لتقويض استقرار منطقة شرق المتوسط بالفترة الأخيرة. ومنذ تحقيق اكتشافات واعدة للغاز في قبرص، وفي مقدمتها حقل "أفروديت"، عملت تركيا على تعطيل أعمال التنقيب واستكشاف الغاز بالمنطقة الاقتصادية الخالصة لنيقوسيا بدعوى الحفاظ على الحقوق السيادية لقبرص الشمالية.

وفي الأشهر الماضية، أرسلت تركيا العديد من السفن للقيام بأعمال التنقيب والحفر في المنطقة الاقتصادية الخاصة بقبرص، كما اعترضت القوات البحرية التركية في فبراير 2018 سفينة تابعة لشركة "إيني الإيطالية" كانت في طريقها للقيام بأعمال في الرقعة 3 التابعة لقبرص. فضلًا عن ذلك، فقد وقّعت أنقرة في نهاية نوفمبر 2019 اتفاقية مع حكومة الوفاق الليبية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين من شأنها انتهاك الحقوق السيادية لليونان.

أما أوروبيًّا، فمن المتوقع أن يعمل انفتاح أوروبا على موارد الطاقة بشرق المتوسط من خلال خط أنابيب "إيست ميد" على تعزيز أمن وتنويع مصادر الطاقة بأسواقها. ففي عام 2018، استحوذ الغاز الروسي على نحو 35% من واردات الغاز الأوروبية، بما يقدر بـ200.6 مليار متر مكعب، وهو الوضع الذي تعتبره العديد من الدول الأوروبية مصدرًا لزيادة النفوذ الجيوسياسي لموسكو داخل القارة، وتسعى لتغييره من خلال استيراد الخام من أسواق جديدة في آسيا وإفريقيا بجانب الشرق الأوسط.

ولعل تقليص الاعتماد على الغاز الروسي داخل أوروبا أمر يحظى أيضًا بتشجيع من جانب الإدارة الأمريكية الحالية، حيث ترى الأخيرة أن موسكو وسعت من نفوذها الجيوسياسي في عدد من بلدان أوروبا بفضل اعتمادها المفرط على إمدادات الغاز الروسي، وهذا ما دفع واشنطن بنهاية ديسمبر 2019 لعرقلة تنفيذ مشروع خط أنابيب "نورد ستريم 2"، الذي من المقرر أن ينقل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا أسفل بحر البلطيق، من خلال فرض عقوبات اقتصادية على الشركات المشاركة في تنفيذه بنهاية ديسمبر 2019.

حدود المنافسة:

أثار خط أنابيب "إيست ميد" العديد من الشكوك حول الجدوى التجارية والاستثمارية له، وذلك على خلفية العديد من الاعتبارات، وأولها يتعلق بعدم الاستقرار الأمني بحوض شرق المتوسط، حيث قد تُثني التصرفات التركية العدوانية بالمنطقة بعض الشركات عن المشاركة في تطوير منظومة الغاز بالمنطقة بما في ذلك خط أنابيب "إيست ميد" الذي يتعيّن عليه المرور بالمنطقة الاقتصادية المزعومة لأنقرة بموجب الاتفاقية الموقّعة مع حكومة الوفاق الوطني بالعام الماضي. 

أما ثاني الاعتبارات فتنصرف إلى ضعف جاذبية أسعار غاز شرق المتوسط مقارنة بالأسعار العالمية. وطبقًا لبعض التقديرات، فقد تتراوح أسعار تسليم الغاز من خلال "إيست ميد" ما بين 6 دولارات إلى 8 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وهو أعلى بكثير من متوسط سعر توريد الغاز الروسي حاليًّا لأوروبا البالغ نحو 4.5 لكل مليون وحدة. ويعود ذلك إلى ارتفاع كلفة الإنتاج بالمنطقة، بجانب كبر حجم تكلفة المشروع البالغة 6 مليارات دولار.

ومن هنا يمكن القول، إن شركاء المشروع قد يجدون صعوبات بالغة في العثور على قاعدة واسعة من العملاء في ظل عدم جاذبية أسعار الغاز، في الوقت الذي تُصر فيه دول مثل ألمانيا -أكبر مستورد للغاز في أوروبا- ودول أخرى بشمال أوروبا، على مواصلة استيراد الغاز الرخيص من روسيا. إضافةً إلى أن هذا يتزامن مع وجود عدد واسع من مشاريع الغاز المسال الجديدة الناشئة في أمريكا الشمالية والشرق الأوسط وإفريقيا، والتي قد تضخ الغاز بأسعار تقل كثيرًا عن أسعار حوض المتوسط.

فيما ثالث الاعتبارات يتعلق بضعف فرص تمويل المشروع، حيث قد تحجم بعض الشركات أو البنوك الخاصة عن المشاركة في تمويله بسبب ضعف جدواه التجارية والاستثمارية، فضلًا عن ذلك، فقد لا يلقى دعمًا من مؤسسات التمويل الأوروبية التي امتنع بعضها مؤخرًا عن تمويل مشروعات الوقود الأحفوري بما فيها الغاز الطبيعي، وهذا ما سيضطر حكومات الدول الثلاث لتحمل أعباء تمويله بشكل مباشر، أو على أقل تقدير تقديم الضمانات الكافية للدائنين المحتملين للمشروع. 

وفي ضوء الاعتبارات السابقة، يمكن القول إن خط أنابيب "إيست ميد" سيواجه تحديات كثيرة في مراحل تنفيذه وتشغيله، بما يجعل من الصعب عليه المنافسة مع شبكة خطوط الأنابيب التي تربط بين منتجي الغاز الآخرين وبلدان القارة الأوروبية.