أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

انتخابات 2015:

السودان بين مراوحة الأزمة أو اغتنام الفرصة

28 أبريل، 2015


شهد السودان خلال الفترة من 13 إلى 16 أبريل الجاري، أول انتخابات عامة تُجرى بعد استقلال الجنوب في استفتاء عام 2011 الشهير، وهو الاستفتاء الذي شطر السودان الأم، وحرمه من نحو ربع مساحته الجغرافية ومعظم ثرواته النفطية، وأورثه "فيروس" الانقسام الذي بات يهدد أطرافه الحيوية وأمنه القومي في كردفان ودارفور والنيل الأزرق وغيرها.

ومع ذلك، فإن الانتخابات الحالية التي أسفرت عن فوز الرئيس "عمر البشير" وحزبه الحاكم، لم تشهد أي نوع من المفاجآت لا في مقدماتها ولا في نتائجها ولا في أُطرها العملياتية والإجرائية، حيث جرت في مناخ يشبه - إلى حد كبير - سيناريو انتخابات 2010 التي سبقت انفصال الجنوب بأشهر قليلة، وإن كان ثمة فارق بسيط يتعلق بموقف قوى المعارضة التي قاطعت الانتخابات الحالية منذ بدايتها بحجة أن الظروف غير مناسبة لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة. وكانت المعارضة قد شاركت في انتخابات 2010 حتى مراحل متقدمة من السباق الانتخابي، قبل أن تعلن أيضاً مقاطعتها في النهاية لوجود خروقات في العملية الانتخابية، من وجهة نظرها، تؤثر على النتائج النهائية للتصويت.

انتخابات مركبة ونتائج محسومة سلفاً

بين وجهتي نظر متباينتين بشأن جدواها السياسية ودلالات توقيتها وتأثيرها على مُجمل التحديات والإشكاليات المؤسسية التي تكاد تعصف بمستقبل البلاد، أُجريت الانتخابات العامة السودانية 2015 على ثلاثة مستويات تصويتية مركبة؛ شملت المستوى الرئاسي، والبرلماني (القومي)، والولائي (المحلي)، حيث أصر نظام الرئيس "عمر البشير" على إجراء الانتخابات الشاملة في ذلك التوقيت الحاسم بدعوى أن عدم إجرائها في ذلك الموعد، وفقاً لمقتضيات دستورية، من شأنه أن يخلق أزمة فراغ في السلطة قد تهدد النظام بسلب شرعيته.

أما قوى المعارضة الرئيسية فكانت تأمل أن يتم تأجيل أي استحقاقات انتخابية لما بعد الحوار الوطني الجامع لكافة مكونات الخريطة السياسية، كدلالة رمزية بالغة على قبول النظام لخارطة طريق تكون الانتخابات إحدى آلياتها، وليست غايتها الوحيدة، لبلوغ شرعية يتفق عليها الجميع لتحقيق سلام دائم واستقرار بنَّاء.

إذن، كانت المقاطعة هي سلاح قوى المعارضة الفاعلة في السودان، في حين كان المُضي قدماً في إجراء الانتخابات، أياً كانت الظروف، هدفاً استراتيجياً لنظام "البشير"، يؤدي إلى تمديد شرعية سلطته الحاكمة التي تستمر منذ أكثر من ربع قرن، بشكل دستوري، وفرض وجهة نظره على أي مسار حواري محتمل بعد ذلك مع القوى السياسية المعارضة.

وبالتالي أضحى مستقبل الاستقرار في السودان كأنه عالق بين رؤية الرئيس "عمر البشير" لإجراء الانتخابات العامة بالتوازي مع الحوار الوطني، وبين رؤية جامدة ومتشددة لقوى المعارضة بفصائلها، السلمية والمسلحة، بتأجيلها لحين التوصل إلى اتفاق سياسي بين الفرقاء، يقود إلى فترة انتقالية مؤقتة تهيئ الأجواء، سياسياً وقانونياً، لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتخرج البلاد من إشكاليات صراعية محتومة.

وعلى الرغم من مقاطعة قوى المعارضة الرئيسية، فقد تنافس نحو 45 حزباً سياسياً في الانتخابات التشريعية والولائية، في حين تنافس 15 مرشحاً، بخلاف "البشير"، على الفوز بمقعد الرئيس، غالبيتهم من المستقلين، ومن بينهم امرأة،. وقد استبقت القوى المقاطعة للفعاليات التصويتية نتيجة الانتخابات، بإعلان أنها لن تعترف بنتيجتها، أياً كانت، ومن ثم فلن تعترف بالحكومة التي ستتشكل بناءً على هذه النتائج.

وقد اتضح منذ اليوم الأول للعملية التصويتية ضعف المشاركة من قِبل الناخبين الذين بدا أن لهم رأي آخر باعتبار أن نتيجة الانتخابات باتت محسومة سلفاً، ومن ثم فإن الانصراف إلى شؤونهم الخاصة ومشاكلهم الحياتية هو الأولى، من وجهة نظرهم، تاركين الصراع السياسي بين النخب الفاعلة، مواليها ومعارضها، وراءهم ظهرياً، بحسبانها ترفاً لا طائل من وراءه.

ومن جانبها، استبقت الحكومة السودانية ضعف الكثافة التصويتية بتمديد الانتخابات ليوم إضافي لتصبع أربعة أيام بدلاً من ثلاثة أيام كما كان مقرراً، لتستمر من 13 إلى 16 أبريل 2015.

وأعلنت مفوضية الانتخابات في السودان برئاسة "مختار الأصم"، في 27 أبريل 2015، أن نسبة التصويت في الانتخابات بلغت نحو 46% من إجمالي الناخبين، بما يقدر بنحو 5 ملايين و600 ألف ناخب تقريباً، علماً بأن عدد من يحق لهم التصويت يبلغ 13 مليوناً و642 ناخباً مقيدين بالسجل الانتخابي، وموزعين على المراكز الانتخابية المنتشرة بمختلف الولايات.

كما أظهرت النتائج النهائية، وفقًا لمفوضية الانتخابات، فوز الرئيس "عمر البشير" بمنصب رئيس الجمهورية، للمرة الخامسة، بحصوله على نحو 5 ملايين و252 ألف صوت، بنسبة بلغت 94.5% من جملة الأصوات الصحيحة، وبفارق كبير جداً عن أقرب منافسيه "فضل السيد شعيب"، رئيس حزب الحقيقة، والذي حصل على نحو 1.43% فقط من أصوات الناخبين، في حين فاز المؤتمر الوطني الحاكم، بغالبية المقاعد على مستوى الانتخابات التشريعية والولائية.

ما بعد الانتخابات.. فرصة أم أزمة؟

إذا كان الحال كذلك، فإن الانتخابات قد أجريت ونتيجتها كانت محسومة سلفاً، وبعيداً عن التراشق المعتاد في مثل هذه المواقف الحدية بين نظام يحكم على مدى يقترب من ثلاثة عقود، وقوى معارضة تشتبك مكوناتها، منذ عقود أيضاً، في معارك جانبية تجعل الجميع يخرج منها خالي الوفاض، فإن السؤال الآن: وماذا بعد الانتخابات؟ هل ثمة فرصة أم تكريس للأزمة؟.

اكتسب النظام السوداني عبر هذه الانتخابات شرعية دستورية تمثل له شريان حياة لاستمرار نهجه في الحكم، خاصةً أنه لا يثق في الحوارات الوطنية ولا في مخرجاتها، بل ولا في أطرافها، ويعتبر غاية المراد منها إجراء موائمات وتغييرات شكلية في أطراف السلطة لا في جوهرها، بما يمكنه من امتصاص فعاليات المعارضة واحتواء رموزها وصولاً إلى استقطابهم.

أما المعارضة التي تجهر منذ فترة بالدعوة إلى إسقاط نظام "البشير"، فلم تبادر إلى تقديم أي رؤية استشرافية لما بعد إسقاط هذا النظام، كما أن رموز تلك المعارضة التي تعلن عدائها الشديد للنظام الحاكم لا يتورعون عن عقد لقاءات خفية، وراء الكواليس، مع قادة الحزب الحاكم لإجراء تفاهمات ما تتعلق بمصالحهم الخاصة؛ الأمر الذي قلل من مصداقيتهم لدى قطاعات كبيرة من الشعب السوداني، لاسيما فئة الشباب التي ترى أن تلك المعارضة لن تكون أحسن حالاً من النظام الحالي إذا ما وصلت إلى سدة الحكم، كما ترى أن جل مواقفهم تنطوي على مواءمات سياسية تفرغ محتوى معارضتهم المزعومة من مضمونها لإجراء تغيير حقيقي لنمط مستقبل الحكم في السودان.

وربما تكون الانتخابات السودانية مجرد تأكيد على أمر قائم بالفعل، "النظام يحكم والمعارضة تأن وتجأر بالشكوى"، والحال هو الحال، وتبقى الأزمة مستمرة، في ظل خبرة النظام السوداني الذي استطاع بمهارة أن يتجاوز كل المآزق في طريقه، إذ على الرغم من هشاشته التي قد يعتقدها البعض، فإنه نجح في البقاء لعقود، في حين عصفت الاضطرابات السياسية بدول إقليمية وتساقطت الأنظمة السياسية في دول أخرى، ربما كان ينظر إليها باعتبارها أكثر استقراراً وأبعد عن السقوط أو التغيير.

ولعل حرية الحركة التي تمتع بها النظام السوداني بعد إفلاته ببراعة من دعوات الملاحقة الجنائية الدولية، ونجاته بحنكة من تجنب سيناريو الثورات العربية التي عصف بنظم الحكم في مصر وليبيا واليمن، وربما سوريا، ترجح هذا السيناريو (تكريس الأزمة مع المعارضة)، حيث وطد "البشير" علاقاته بالنظام المصري الجديد، بعد الإطاحة بالإخوان "حلفائه الأيديولوجيين" من سدة الحكم في مصر.

كما استطاع "البشير" أن يكسب ود العاهل السعودي الملك سالمان بن عبد العزيز والحكام الخليجيين، بدعمه ومشاركته في عملية "عاصفة الحزم" في اليمن، على الرغم من علاقاته المتجذرة بطهران، الداعم الرئيسي للحوثيين في اليمن والشريك التجاري والاقتصادي المهم للخرطوم؛ وهو ما يعني بالأساس مزيداً من الدعم العربي للسودان، بما يُقلل من حدة الأزمة الاقتصادية التي تحيط به، لاسيما بعد انفصال الجنوب وخسارة الشمال لموارده النفطية الرئيسية.

كذلك، نجح "البشير" في أن يخرج ببراعة من مستنقع أزمة سد النهضة مع جارته إثيوبيا، بما يقلل من احتمالية اتخاذ المعارضة السودانية المسلحة لأديس أبابا منطلقاً لتهديد النظام الحاكم في الخرطوم.

وعلى خلاف ما سبق، ربما تكون الانتخابات السودانية "فرصة" أمام الرئيس "البشير" للتحرر من حلفائه "الصقور" داخل أروقة الحكومة والحزب، الذين يعلون من منطق المواجهة والتهميش للمعارضة، بما يُمكَّنه من التقارب الحذر من معارضيه الذين دعوا لحكومة انتقالية يترأسها للإشراف على خارطة طريق لمستقبل الحكم في السودان، لاسيما مع تحرره من ضغوط المحكمة الجنائية الدولية في ظل التغيرات الإقليمية والدولية الراهنة التي لا تجعل من ملاحقته أولوية، ومع التداعيات الشعبوية للثورات العربية التي جعلت من خيار التغيير الثوري الجذري لأنظمة الحكم خياراً صعباً، فقد توافرت للرئيس "البشير" فرصة مواتية للتفكير بنهج مختلف يجعله أكثر استجابة للتحديات التي يواجهها السودان، بما يجعله أكثر قبولاً للانفتاح على مبادرات أكثر جدية للدخول في عملية تسوية سياسية شاملة لحلحلة الأزمة السودانية، وهو سياق من شأنه أن يشجع قوى المعارضة الأقل راديكالية للتقارب من النظام الحاكم، خصوصاً في ظل إدراكها لمحدودية قدرتها على تغيير خريطة موازين القوى السياسية الراهنة في الداخل السوداني.

الخلاصة، أنه أياً كان المسار الذي قد تسلكه القوى الفاعلة في السودان "حكومة ومعارضة"، فإن استمرار الأزمة كخيار للجمود ومراوحة المكان، أو اغتنام الفرصة كخيار للصعود والتقدم نحو المستقبل بأمان، لا يعني استبعاد الأسوء وهو "الانزلاق" عبر الأفق المسدود وانعدام فرص الحل السياسي، إلى مستنقع حرب الكل ضد الكل، من خلال عسكرة العملية السياسية في السودان، والدخول بالبلاد في دوامة حرب استنزاف طويلة الأمد يكون مآلها تفكك الدولة السودانية، التي تحمل بين طياتها بذور الانقسام وجيناته، لاسيما بعد انفصال الجنوب قبل أربع سنوات، وهو سيناريو غير مستبعد في ظل سياقات إقليمية ودولية مضطربة، قد لا تستطيع كبح جماح الحرب أو فرض تسوية سلمية مقبولة على جميع الأطراف.

وثمة خطوط عريضة يجب أن تسود جميع الفعاليات السياسية في السودان ما بعد الانتخابات الأخيرة، لعل أهمها؛ أن مستقبل السودان أمر يخص جميع السودانيين، ومن ثم فإن الجميع مدعو لتجاوز خلافاتهم السياسية والأيديولوجية لصالح مستقبل هذا البلد. والبداية يجب أن تكون من نقاط التماس الساخنة في السودان، من دارفور إلى جنوب كردفان إلى النيل الأزرق، وغيرها، لتعزيز فرص السلام، وتوفير بيئة ملائمة لبناء التعايش السلمي المشترك بين كافة الأطياف، كمنطلق للنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة.

ومن ثم، فإن خيار الاندماج الوطني وبناء الأمة السودانية الجامعة، يجب أن يكون أولوية السياسات العامة في الخرطوم، وهذا لا يغفل البعد الاقتصادي في أزمات السودان الذي لابد له أن يسير جنباً إلى جنب مع السياق السياسي، لخلق واقع اقتصادي جديد يمكّن الشباب، ويقلل من معدلات البطالة الخانقة، ويُقلص من الفجوات الهيكلية الكبيرة بين ولايات السودان، من خلال الاستثمار في التعليم والتدريب والبنية التحتية.

ولن يتم هذا كله إلا بالتوازي مع الانفتاح على العالم الخارجي وتحسين علاقات الخرطوم مع المجتمع الدولي، ومع جيرانها الإقليميين وشركائها الاستراتيجيين، لتحسين قدرة السودان على المشاركة بصورة فعَّالة في الاقتصاد العالمي، بما يخلق فرصاً واعدة وجاذبة للاستثمارات الأجنبية، ويساهم في بناء سودان جديد، يتجاوز التحديات الإثنية والعرقية والسياسية والاقتصادية التي وسمته لعقود طويلة.