أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

فاعلية محدودة:

هل تُنهي "العقوبات الانتقائية" لواشنطن الصراع السوداني؟

31 مايو، 2023


أعاد قرار للرئيس الأمريكي، جو بايدن، يسمح للولايات المتحدة بفرض "عقوبات على شخصيات تزعزع استقرار السودان"، الجدل حول فاعلية آلية العقوبات الدولية وجدواها في تحقيق أهداف السياسة الخارجية. وأوضح بايدن، في رسالة إلى رئيس مجلس النواب، وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكيين، أنه يرى الوضع في السودان تهديداً غير اعتيادي للأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية، داعياً إلى وقف دائم لإطلاق النار بين الأطراف المتحاربة. ويبدو أن الأمر التنفيذي الجديد يأتي في إطار إظهار واشنطن رفضها للحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ورغبتها في حمل الأطراف المتصارعة على نبذ القتال، والجلوس إلى مائدة المفاوضات.

توظيف متنامٍ: 

تُعد العقوبات الدولية إحدى أدوات السياسة الخارجية القسرية التي تنطوي على التهديد بإلحاق الضرر بحكومة دولة أخرى، مُستهدفة أو جماعة معينة داخل هذه الدولة؛ بهدف إحداث تغيير في سلوك الدولة المُستهدَفة. وشهدت العقود القليلة الماضية، وتحديداً منذ انتهاء الحرب الباردة، تنامياً ملحوظاً في توظيف هذه الأداة، لدرجة حدت ببعض الدارسين إلى تسمية عقد التسعينيات من القرن العشرين بـ"عقد العقوبات". وأعقب هذا التحول الكمي تحول نوعي طرأ على طبيعة العقوبات، حيث أظهرت الكارثة الإنسانية الفادحة التي نجمت عن فرض نظام العقوبات الشاملة على العراق الحاجة إلى تسليط الضوء على معضلة التبعات غير المقصودة للعقوبات الشاملة.

وأوضحت بعض التقديرات الدولية أن العقوبات الغربية، التي قادت الولايات المتحدة فرضها وتطبيقها على العراق، قد أسفرت عن وفاة ما يزيد على 100 ألف طفل في الفترة من 1991- 1998، فضلاً عن عدم فاعلية تلك العقوبات، إذ أخفقت في إحداث تغيير ملموس في النظام الحاكم أو توجهاته الرئيسية. وأنتجت الخبرة الغربية في العراق مطالبات فكرية بضرورة إحداث تحول ملموس في طبيعة العقوبات الدولية، حيث جرى اقتراح "العقوبات الانتقائية" أو "الذكية" بدلاً من "العقوبات الشاملة"؛ بهدف تجنب الشلل الكامل الذي يصيب الاقتصاد القومي، من خلال الاقتصار على استهداف قطاعات أو فئات محددة، ومن ثم تجنب التداعيات الإنسانية السلبية للعقوبات الشاملة.

عوامل الفاعلية:

ترتبط فاعلية العقوبات الدولية بقدرتها على إحداث تغيير ملموس في سلوك الدولة المُستهدَفة، بما يتوافق مع أغراض الدولة أو الدول التي فرضت العقوبات. ويمكن القول، من الناحية النظرية، إن العقوبات الدولية تكون أكثر فاعلية إذا جرى توظيفها في إطار تحرك جماعي ضد الدولة المُستهدَفة. أي أن العقوبات الدولية التي تتم تحت رعاية مؤسسة دولية تتمتع، بصفة عامة، بفاعلية تفوق تلك التي تُفرض من جانب دولة واحدة أو عدد محدود من الدول؛ لأن جماعية التحرك تضعف من قدرة الدولة المُستهدَفة على إيجاد بدائل للصمود في وجه العقوبات.

 وتوضح حالة العقوبات الأمريكية المفروضة على كوبا خلال الحرب الباردة هذا الأمر بوضوح، حيث استطاعت كوبا التغلب على الحصار الأمريكي بدرجة كبيرة من خلال اللجوء إلى الاتحاد السوفيتي السابق. ومن الناحية القانونية، يتمتع مجلس الأمن الدولي وحده بحق فرض عقوبات ملزمة على الدول كافة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وبالإضافة إلى ذلك، توضح أدبيات العلاقات الدولية أن فاعلية تلك الأداة القسرية ترتبط بوجود علاقات تعاونية قوية بين الجهة التي تفرض العقوبات والدولة المُستهدَفة؛ لأن الاعتماد الاقتصادي للدولة المُستهدَفة على الجهة التي تفرض العقوبات يزيد من الضرر الواقع عليها جراء إعاقة العلاقات الاقتصادية التعاونية.

وفضلاً عما سبق، يمكن القول إن فاعلية العقوبات الدولية تعتمد على امتلاك آليات لمراقبة تنفيذ نظام العقوبات. كما يمكن النظر إلى العقوبات الدولية كإحدى الأدوات التي يتم توظيفها بالتزامن مع غيرها من أدوات السياسة الخارجية الأخرى، وهكذا تتضاءل فرص نجاح العقوبات الدولية إذا طُبقت بمفردها، ولاسيما إذا ارتبطت غاية تلك العقوبات بأهداف كبرى مثل تغيير النظام الحاكم في الدولة المُستهدَفة.

تأثير محدود:

يشير استقراء سجل القوى الغربية في توظيف العقوبات بعد الحرب الباردة، إلى تنوع هائل في الأغراض التي وُظفت من أجلها، مثل مكافحة الإرهاب، ومنع الصراع، وتعزيز السلام، وتوفير الحماية للمدنيين، بالإضافة إلى الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل. ويرجع اللجوء إلى آلية العقوبات إلى أنها أقل تكلفة من الخيار العسكري، كما أنها تعطي رسالة للرأي العام الداخلي بأن الإدارة المعنية تفعل شيئاً بخصوص الدولة المُستهدَفة. لكن الملاحظ أن هذا التوظيف المتزايد لتلك الآلية لم يصاحبه تحقيق لأهداف العديد من نظم العقوبات التي فرضتها القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

لقد أخفقت العقوبات الغربية ضد كوريا الشمالية وفنزويلا والعراق، وعلى الرغم من أن كوبا تواجه سلسلة متعاقبة من العقوبات الأمريكية منذ عقد الستينيات، فإن النظام الشيوعي ما زال يحكم البلاد. وفي سوريا، واجه نظام الرئيس بشار الأسد العديد من العقوبات الدولية، بيد أنها باءت بالفشل في إخضاع هذا النظام. كما أخفقت العقوبات الغربية التي فُرضت أخيراً على روسيا في إقناعها بإنهاء الحرب ضد أوكرانيا. وربما تمثل حالة العقوبات الدولية التي فُرضت على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا استثناءً من هذا الاتجاه العام، وهي حالة فريدة لها خصوصيتها بالنظر إلى تبلور إجماع دولي قلما يتكرر بضرورة إنهاء التفرقة العنصرية الصارخة في هذا البلد.

ولعل المعضلة الأكبر التي تُثار عند فرض العقوبات تتعلق عادةً بوجود استثناءات أو فجوات في التطبيق. فتطبيق العقوبات الدولية، حتى وإن صدرت عن مجلس الأمن الدولي وتمتعت من الناحية النظرية بإلزام قانوني، هو أمر متروك لكل دولة على حدة، تحدده حسب مصلحتها الوطنية. كما أن الأطراف المُستهدَفة بالعقوبات قد تستطيع بمرور الوقت التكيف معها، والبحث عن مصادر أخرى للتمويل. وهكذا تمكنت حركة الشباب الصومالية من الصمود في وجه العقوبات الأممية الصارمة، بفضل قدرتها على التكيف مع العقوبات والبحث عن مصادر بديلة لتمويل عملياتها العسكرية.

وتُسلط حالة حركة الشباب في الصومال الضوء على حدود فاعلية العقوبات الدولية، حيث يصعب من الناحية الواقعية منع كل التدفقات الاقتصادية للأطراف المتحاربة، وحمل كل الدول، بما فيها تلك الراعية لأطراف القتال، على دعم نظام العقوبات. وواجهت العديد من العقوبات الأممية تحديات التنفيذ، وغياب الإرادة السياسية لدى بعض القوى الكبرى. وفي هذا السياق، سعى السودان ونجح في الحصول على أسلحة من الصين وروسيا، بالمخالفة لقرار حظر الأسلحة المفروض من جانب مجلس الأمن. أما العقوبات الأقل خطورة مثل المنع من السفر أو تجميد أرصدة بعض القيادات، فيصعب تصور قدرتها على إحداث تغيير فعلي في سلوك الدولة المُستهدَفة. وبالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي العقوبات إلى تقوية النظام المُستهدَف وزيادة إحكام قبضته على السلطة؛ من خلال قيامه باستغلال فكرة "العدو الخارجي" لحشد التأييد والدعم اللازمين لسياساته، وفي هذه الحالة تكون العقوبات الدولية قد أدت إلى نتائج عكسية.

وتوضح حالة إيران النتائج العكسية للعقوبات الغربية، والتي فُرضت عليها في سياق خطاب رسمي غربي يتهمها بدعم الإرهاب ومحاولة تطوير برنامج نووي يهدد السلم والأمن الدوليين. وبدلاً من تسهيل حل الصراع مع الغرب وإضعاف قبضة النظام الإيراني، ربما أدت العقوبات إلى تصعيد الصراع وتقوية قبضة النظام الحاكم على السلطة. وقد صورت الإدارات الأمريكية المتعاقبة العقوبات على إيران كجزء من مقاربة دبلوماسية تتوخى تجنب المواجهة العسكرية المباشرة، لكن الملاحظ أن تلك العقوبات قادت طهران إلى مزيد من التشدد، حيث رأت إيران العقوبات ضغطاً غير مشروع يجب مقاومته، وترافق تصاعد العقوبات الغربية ضد طهران مع ميل الأخيرة للتصعيد بخصوص برنامجها النووي.

وبالإضافة إلى ما سبق، احتفظت إيران بسياستها الخارجية المألوفة المناوئة للولايات المتحدة، سواءً من خلال استمرار دعم حزب الله في لبنان أو نظام بشار الأسد في سوريا، أو سياساتها في العراق. وعلاوة على ذلك، تشير التقديرات إلى أن العقوبات الغربية قد أفضت إلى تقوية التوافق بين النخبة الحاكمة في إيران بخصوص قضايا السياسة الخارجية الرئيسية. إذ استغلت هذه النخبة العقوبات لتأكيد خطاب رسمي يصف الغرب "بالتوحش والافتقار للأخلاق والسعي الدائم إلى جعل إيران دولة متخلفة وتابعة". ومن الواضح أن استمرار هذا الخطاب الرسمي ووجود ما يبرره، يخدم هدف حشد التأييد الشعبي للنظام الحاكم، بما يعزز هدف صموده.

حالة السودان:

يمكن التأريخ للعقوبات الأمريكية على السودان بقرار وزارة الخارجية الأمريكية الصادر في أغسطس 1993، بإدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وقد أعقب هذا القرار أمر تنفيذي أصدره الرئيس الأسبق، بيل كلينتون، بتجميد الأصول المالية السودانية في البنوك الأمريكية، وحظر تصدير التكنولوجيا الأمريكية له، وإلزام الشركات الأمريكية بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع السودان. وفي عام 2002، صدر قانون "سلام السودان" الذي ربط رفع العقوبات على البلاد بالتقدم في المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير جنوب السوان. كما فرض الكونغرس، في عام 2006، عقوبات ضد المتهمين بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور، وفي العام نفسه أصدر الرئيس الأسبق بوش الابن قراراً بالحجز على أموال 133 شركة وشخصية سودانية.

لقد نتج عن تلك العقوبات، بحسب تصريحات العديد من المسؤولين السودانيين، إلحاق خسائر كبيرة بالاقتصاد السوادني، بسبب عدم رغبة الشركات الأجنبية الكبرى في الاستثمار داخل السودان، وحرمانه من الحصول على مساعدات غير إنسانية، ومنع معظم المعاملات التجارية مع واشنطن، وتوقف بعض المصانع بشكل كامل بسبب عجزها عن استيراد المواد الخام، وحرمان السودان من استيراد التكنولوجيا الغربية. وجدير بالذكر أنه منذ عام 2017، حدثت انفراجه في العلاقات الأمريكية السودانية، سمحت برفع جزئي للعقوبات، إلا أن مجلس الأمن مدد العقوبات الدولية المفروضة على الخرطوم لمدة عام واحد في مارس 2023، في ظل امتناع روسيا والصين عن التصويت. ومن ثم يمكن القول إن قرار الرئيس بايدن، الصادر في 4 مايو 2023، بفرض عقوبات على بعض الأشخاص الذين يهددون استقرار السودان، يأتي في إطار الانحياز لنموذج "العقوبات الانتقائية"، بعد أن فُرضت على السودان في الماضي سلسلة متتالية من "العقوبات الشاملة". 

ومن الصعب التنبؤ في الوقت الحالي بتبعات ذلك القرار الأمريكي، في ضوء حداثته وعدم اتضاح الأشخاص المُستهدَفين به، لكن السجل المتواضع للعقوبات الدولية عموماً في إحداث تغيير جذري في سلوك الدول، فضلاً عن وجود قوى كبرى تتطلع إلى أداء دور أكبر في السودان مثل الصين وروسيا، يجعل استنتاج ألا تؤدي هذه العقوبات إلى إنهاء الصراع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أقرب إلى الصحة، يما يوضح الحاجة إلى وجود حلول خلاقة لمعالجة جذور الصراع الداخلي في السودان.