على الرغم من محورية الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سوريا، في 7 يناير الجاري، والتي وجهت العديد من الرسائل المباشرة والضمنية حول تطورات الصراع السوري، إلا أن عدم اقتصارها على الأخيرة، لتشمل بعدها تركيا التي تنخرط في الملف السوري وبعض الملفات الإقليمية الأخرى حالياً، يلقي بمزيد من الضوء على الأهداف التي تسعى موسكو إلى تحقيقها من خلال التحركات التي تقوم بها في الفترة الأخيرة، والتي تأتي في ظل تشابك الملفات الإقليمية التي تحظى باهتمام خاص من جانبها، وفي ظل التصعيد الأمريكي – الإيراني المتواصل في العراق، حيث تلت الضربة الأمريكية التي أدت إلى مقتل قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني ومرافقيه في 3 يناير الجاري، وسبقت الهجمات الصاروخية التي شنتها إيران داخل العراق واستهدفت قوات أمريكية في قاعدتين عسكريتين في 8 من الشهر نفسه.
رسائل متعددة:
يتمثل أهم الأهداف التي سعت موسكو إلى تحقيقها من الزيارة في تقييم المسارات التي اتجهت إليها العمليات العسكرية التي تقوم بها قواتها في سوريا، والتي وصفها بوتين، وفقاً للناطق باسم الكرملين ديمترى بيسكوف بأنها "حققت تقدماً هائلاً"، مشيراً إلى أنه "يمكن القول بيقين إنه تم اجتياز طريق هائل نحو إعادة ترسيخ الدولة السورية ووحدة أراضيها"، حيث تخوض القوات الروسية والسورية في الوقت الحالي معركتها العسكرية في إدلب، التي يبدو أنها ستكون آخر المعارك العسكرية الفاصلة في الصراع السوري.
وفي هذا الصدد، رصدت تقارير محلية تفاصيل الزيارة التي لم تتضمن القصر الرئاسي السوري، على نحو يطرح دلالة أخرى تتعلق بأن موسكو تسعى إلى الإيحاء بأن القيادة العسكرية الروسية هى مركز إدارة المواجهات المسلحة في سوريا.
ومن الناحية الشكلية، تضمنت الزيارة أيضاً قيام الرئيس الروسي بجولة في شوارع دمشق، حيث تفقد أهم معالمها الدينية، وزار المسجد الأموي الكبير وضريح النبى يحيى والكاتدرائية المريمية بمناسبة عيد الميلاد المجيد، على نحو حاولت عبره موسكو توجيه رسالة مفادها أن سوريا مقبلة على مرحلة جديدة بعد انتهاء القسم الأكبر من المواجهات العسكرية، وهو ما عبر عنه بيسكوف بقوله: "كان يمكن أن نرى بالعين المجردة عودة الحياة بسلام الى شوارع دمشق".
لكن الأمر لا يبدو أنه يقتصر على هذا البعد، حيث أن ثمة أبعاداً تاريخية ودينية لتلك الزيارة تضيف، إلى جانب ما ذكره بيسكوف وما أراد أن يؤكده بوتين، أن هناك عودة إلى ما كانت عليه سوريا قبل الحرب، وأن النظام السوري سيبقى جزءاً من هذا التاريخ الذي أصبح من الصعب تغييره في ظل الدور الروسي على المستويات المختلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية.
لكن رغم ذلك، فإن روسيا ما زالت مستمرة في مساعيها لإعادة صياغة الترتيبات الأمنية في سوريا، خلال المرحلة القادمة، حيث كان لافتاً أنه بينما كان الرئيس السوري بشار الأسد يتابع مع الرئيس بوتين مسار العمليات العسكرية من مقر تجمع القوات الروسية في دمشق، كان الطراد الصاروخي "مارشال أوستينوف" يعبر مضيق البوسفور والدردنيل في طريقه إلى سوريا، في خطوة مفاجئة لم يسبق التخطيط لها، فسرتها تقارير عديدة على أنها تأتي في إطار التوترات التي تشهدها المنطقة، حيث أنها ستعزز المجموعة الروسية في قاعدة طرطوس لمراقبة التطورات في شرق المتوسط، فضلاً عن الارتدادات المحتملة للتصعيد العسكري بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
تباينات محتملة:
أما بالنسبة لزيارة بوتين إلى تركيا، فقد تضمنت بدورها رسائل عديدة لا تقل أهمية عن ما جرى في سوريا. فموسكو، وإن اشتبكت مع أنقرة حول ما يدور فى سوريا، خاصة إدلب، حيث تدور المواجهة الحالية هناك، وسط استمرار الخلافات حول نقاط التواجد العسكري التركي التي أصبحت في مرمى أهداف القوات السورية تحديداً، كانت حريصة على توجيه إشارات بأن هناك ملفات أخرى قد تشهد بدورها تباينات بين الطرفين، خاصة في ليبيا، إذ تشير تقديرات عديدة إلى أنهما على جبهتين مختلفتين، وهو ما قد ينعكس على العلاقة فيما بينهما مستقبلاً حال تصاعد حدة التوتر في الأزمة الليبية.
ورغم أن حرص الرئيس الروسي بوتين على المشاركة في إطلاق خط غاز "السيل التركي" يوحي بأن هناك مساراً يبدو محل اتفاق بين الطرفين، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة مسارات أخرى تحاول أنقرة فرضها قد لا تتوافق مع حسابات موسكو، حيث أثار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على سبيل المثال، الحديث عن المهمة التي تقوم بها، حسب مزاعمه، مجموعة "فاجنر" الروسية في ليبيا، قبل أن تبدأ أنقرة، حسب تقارير عديدة، في الإعلان عن إرسال قوات إلى ليبيا، ومن ثم فإن مخرجات تلك الزيارة ستكون كاشفة، إلى حد ما، لمسارات الحركة التي سيتجه إليها الطرفان مستقبلاً.
في الأخير، يمكن القول إن الرئيس بوتين سعى عبر تلك الزيارة إلى توجيه رسائل عديدة في اتجاهات مختلفة، ترتبط بالرؤية التي تتبناها موسكو إزاء التطورات التي طرأت على الملفات الإقليمية المختلفة التي تحظى باهتمام خاص من جانبها، وهو ما يتوازى مع ظهور اتجاهات عديدة ترى أن موسكو تعمل على الترويج إلى أن وجودها في المنطقة قد لا يكون مقتصراً على سوريا وإنما ربما يمتد إلى ملفات أخرى، دون أن ينفي ذلك أنها تضع في اعتبارها التأني قبل الإقدام على اتخاذ خطوة جديدة في الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع العسكري في سوريا.