تأثر الاقتصاد الصيني سلباً مع ارتفاع أعداد المصابين بفيروس كوفيد – 19 في عام 2022، وقيام الحكومة بإغلاق عدد من المدن، وعلى رأسها مدينة شنغهاي، مما أضعف معدلات الإنتاج والاستهلاك، ومن ثم تراجع النمو الاقتصادي. وعلى الرغم من تخلي الحكومة الصينية عن تطبيق سياسة "صفر كوفيد" مؤخراً، فإنه من غير المستبعد أن يشهد الاقتصاد الصيني انتعاشاً سريعاً، حيث سيستمر تراجع الأداء الاقتصادي خاصة خلال الربع الأول من عام 2023، قبل أن يتحسن في الربع الثاني منه.
تذبذب الأداء:
شهدت الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2022 تذبذباً في أداء العديد من مؤشرات الاقتصاد الصيني لتعكس بشكل أساسي السياسات التي انتهجتها الحكومة الصينية في التعامل مع كوفيد – 19، سواء بإغلاق المدن وفرض القيود على التنقل، أو التخلي عن بعض القيود والفتح الجزئي للاقتصاد لاحقاً، وذلك كما يلي:
1- تباطؤ النمو الاقتصادي: تباطأ معدل نمو الاقتصاد الصيني على أساس سنوي إلى 0.4% في الربع الثاني من عام 2022، نتيجة لفرض قيود الإغلاق لمكافحة كوفيد – 19. ومع رفع بعض القيود نسبياً نما الاقتصاد إلى حوالي 3.9% خلال الربع الثالث من عام 2022.
2- تباين مستويات الاستثمار: تباينت مستويات الاستثمار في القطاعات الاقتصادية، ففي حين تأثرت العديد من القطاعات سلباً نتيجة لقيود الإغلاق، ظل الاستثمار في البنية التحتية مستقراً، وحقق معدل نمو بنسبة 8.9% على أساس سنوي خلال الفترة من يناير وحتى نوفمبر 2022. ويأتي ذلك في ظل إصدار السندات التي تمول الحكومات المحلية من خلالها مشاريع البنية التحتية. أما القطاع العقاري المتأزم، فقد شهد تراجعاً في الاستثمارات بنسبة 9.8% خلال الـ 11 شهراً الأولى من عام 2022.
3- انخفاض الاستهلاك: شهد الإنفاق الاستهلاكي في الصين انتعاشاً تزامناً مع رفع قيود الإغلاق في شنغهاي، وفقاً لتقديرات مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس"، ولكنه ظل ضعيفاً مقارنة بالمستويات السابقة، على الرغم من محاولات الحكومات المحلية لتعزيز الاستهلاك من خلال توزيع بعض القسائم الشرائية على المواطنين. وبحسب نتائج المسح الذي أجرته شركة "مورنينج كونلست"، كان المستهلكين في الصين أكثر تشاؤماً بشأن أوضاعهم المالية الحالية والمستقبلية، كما تراجعت معنوياتهم في نوفمبر 2022 إلى أدنى مستوى لها منذ أوائل عام 2020.
4- تراجع مبيعات التجزئة: تراجعت مبيعات التجزئة في أبريل 2022 بحوالي 11.1% على أساس سنوي، وذلك تأثراً بعمليات الإغلاق، وهو الشهر الأسوأ أداءً خلال عام 2022، ثم بدأت في تحقيق معدلات نمو إيجابية وصلت إلى 5.4% في أغسطس 2022، ثم عادت مرة أخرى إلى التراجع بنحو 0.5% و5.9% في شهري أكتوبر ونوفمبر 2022 على التوالي.
5- انكماش النشاط الصناعي: تشير نتائج مؤشر مديري المشتريات الصيني إلى انكماش قطاع الصناعات التحويلية في الصين خلال الأشهر الأخيرة مسجلاً قراءات أقل من 50 نقطة، حيث بلغ 47 نقطة في ديسمبر 2022. ومن الجدير بالذكر أن الإنتاج الصناعي في الصين قد نما بحوالي 7.5% خلال الفترة يناير – فبراير 2022. ومع فرض قيود الإغلاق، انخفض إلى 2.9% في أبريل 2022.
وقد بدأ هذا القطاع في التعافي بشكل أسرع من قطاع التجزئة، حيث سُمِح لبعض المصانع بإعادة التشغيل خلال عمليات الإغلاق مع الالتزام بالإجراءات الوقائية، ليعود الإنتاج الصناعي للنمو بحوالي 6.3% في سبتمبر 2022، لكن النمو تباطأ إلى 2.2% في نوفمبر 2022.
6- تراجع التجارة الخارجية: تباطأ معدل نمو التجارة الخارجية الصينية إلى 7.9% على أساس سنوي، وذلك خلال الفترة من يناير وحتى أبريل 2022، وذلك نتيجة لتأثره بالإغلاق، ثم تعافت التجارة الخارجية إلى حد ما خلال الربع الثالث، لتصل الصادرات إلى 323 مليار دولار والواردات لحوالي 238 مليار دولار في سبتمبر 2022، ثم بدأت التجارة الخارجية في التراجع لتصل الصادرات والواردات إلى 296 مليار دولار، و226 مليار دولار على التوالي خلال نوفمبر 2022.
7- ارتفاع عجز الموازنة العامة: ارتفع عجز الموازنة العامة في الصين إلى مستويات قياسية بلغت 7.75 تريليون يوان (حوالي 1.1 تريليون دولار)، وذلك خلال الفترة من يناير وحتى نوفمبر 2022. ويعتبر هذا المستوى هو ضعف المستوى المُسجل خلال الفترة نفسها من عام 2021.
عوامل سلبية:
في ظل التأثير السلبي للإغلاق على الأداء الاقتصادي، وبالنظر إلى الاحتجاجات التي قام بها الصينيون، تخلت الحكومة الصينية عن سياسة "صفر كوفيد"، وبدأت في رفع القيود، بيد أن تلك القيود ليست سوى واحدة من عدة عوامل مثبطة لنمو الاقتصاد الصيني، خاصةً على المدى القصير، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- التوقعات بتراجع الصادرات الصينية: تشير التقديرات إلى أن النمو السريع الذي شهدته الصادرات الصينية عام 2021، من غير المتوقع أن يتكرر خلال عام 2022 وما بعدها، ليس فقط بسبب قيود الإغلاق التي تم فرضها، لكن أيضاً بسبب معاناة معظم الأسواق الخارجية من ارتفاع معدلات التضخم واحتمالات الدخول في حالة الركود؛ مما يؤثر سلباً على معدلات الاستهلاك في تلك الأسواق، ومن ثم على الصادرات الصينية، والتي من المتوقع أن تشهد تباطؤ خلال الأشهر المقبلة.
2- ركود القطاع العقاري: واجه العديد من مطوري العقارات في الصين قيوداً في الحصول على السيولة، وذلك بعد أزمة شركة إيفرجراند الصينية خلال العام الماضي، خاصة مع انخفاض أسعار المساكن، وتراجع مبيعات العقارات السكنية بأكثر من 26% خلال الفترة من يناير وحتى نوفمبر 2022.
والجدير بالذكر أن تراجع القطاع العقاري يؤثر بالتبعية على مستويات الطلب في العديد من القطاعات الاقتصادية الأخرى. وبالتالي، من المتوقع أن يظل ركود قطاع العقارات أحد العوائق الهيكلية لنمو الاقتصاد الصيني على المدى القصير.
3- تراجع مستويات الاستثمار: من المتوقع أن تشهد الاستثمارات تراجعاً خاصةً في ظل ضعف الصادرات، وقد أوضحت وكالة "ستاندرد آند بورز" للتصنيف الائتماني أن الشركات العاملة في الصين قامت بتأجيل بعض القرارات الاستثمارية، فيما تسعى بعض الشركات الأجنبية لنقل إنتاجها أو توسيعها في أسواق أخرى بخلاف الصين. كما تتعرض الحكومات المحلية لضغوط مالية مما يؤثر على حجم الاستثمارات في البنية التحتية؛ نتيجة انخفاض الإيرادات الضرائب والرسوم ومبيعات الأراضي.
4- موجات جديدة من كوفيد – 19: ثمة مخاوف من ارتفاع أعداد المصابين بفيروس كورونا تزامناً مع رفع القيود، وزيادة عمليات التنقل قبل العام القمري الجديد، ومن ثم تتوقع مؤسسة كابيتال إيكونوميكس أن تصل أعداد المصابين إلى ذروتها خلال الفترة القادمة، مما ينذر بتراجع الأداء الاقتصادي.
5- استجابة ضعيفة: على الرغم من أن الصين قد عززت من تحفيزها للاقتصاد الوطني عن طريق ضخ تمويل إضافي قيمته تريليون يوان، فإن بعض التقديرات تشير إلى أن استجابة الحكومة الصينية للأزمة لا تزال ضعيفة، وليست كافية لمواجهة الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الإغلاق، وركود سوق العقارات، كما أنها لن تكون كافية لرفع معدلات النمو خلال العام الجاري فوق المستويات المتوقعة عند 3% تقريباً، وفقاً لبنك جولدمان ساكس. ومن ناحية أخرى، فإن السياسات النقدية التوسعية التي اتبعتها الصين من خلال خفض أسعار الفائدة لم يُظهر تأثيراً إيجابياً على معدلات إنفاق الأسر أو قطاع الأعمال.
6- تراجع معدلات الاستهلاك: من المتوقع أن يستمر تراجع الاستهلاك الأسرى خلال الفترة المقبلة حتى مع رفع القيود الخاصة بكوفيد – 19، حيث توجد بعض العوامل التي تعزز من التوقعات بعدم زيادة الإنفاق الاستهلاكي على المدى القصير، ومنها استثمار العديد من الأسر ثرواتها في قطاع العقارات المتأزم، فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة، والتي وصلت إلى 5.7% في نوفمبر 2022، وهو أعلى مستوى خلال ستة أشهر. وتجدر الإشارة إلى أن الإنفاق الحكومي، حتى وإن قامت الحكومة بزيادته، لا يمكنه تعويض تأثير التراجع في الاستهلاك الخاص على الاقتصاد الصيني.
آفاق النمو:
بالنظر إلى العوامل سالفة الذكر، من المتوقع أن يستمر الأداء المتراجع للاقتصاد الصيني خلال الربع الأول من عام 2023 على الأقل، ثم يبدأ الانتعاش خلال الربع الثاني، وتشير توقعات المؤسسات الدولية والبنوك الاستثمارية الكبرى إلى الآتي:
1- نمو محدود خلال الربع الرابع: توقع بنك جي بي مورجان تراجع النمو خلال الربع الرابع إلى 2.7%. فيما خفضت العديد من المؤسسات من توقعاتها لمعدل نمو الاقتصاد الصيني خلال عام 2022 بأكمله، لتتراوح بين مستويات 2.7% وحتى 3.2% مقارنة بحوالي 8.4% عام 2021، ومن ثم فإن ذلك يعتبر أقل معدل نمو منذ سبعينيات القرن الماضي باستثناء عام 2020.
2- انكماش بالربع الأول من 2023: توقع محللو كابيتال إيكونوميكس أن يسجل الاقتصاد الصيني انكماشاً بحوالي 0.8% خلال الربع الأول من عام 2023، على أن يشهد انتعاشاً خلال الربع الثاني. كما يتوقع الاقتصاديون في بنك اتش اس بي سي أن ينكمش الاقتصاد الصيني بحوالي 0.5% خلال الربع الأول أيضاً، فيما يرجح صندوق النقد الدولي أن يؤدي تخفيف القيود الخاصة باحتواء الفيروس، إلى حدوث طفرة في الإصابات، مما يؤدي إلى تراجع أعداد العمالة وتضرر النشاط الاقتصادي، على أن يبدأ تحسن الأداء خلال الربع الثاني من 2023.
3- تحسن الأداء الاقتصادي خلال 2023: تشير توقعات المؤسسات الدولية إلى تحسن أداء الاقتصاد الصيني خلال الربع الثاني من 2023، مما يرفع مستويات النمو الاقتصادي للعام بأكمله، لتصل إلى 4.4% وفقاً لصندوق النقد الدولي، و4.3% وفقاً لبنك جي بي مورجان، ونحو 5.4% بحسب توقعات بنك مورجان ستانلي، و4.1% وفقاً لوكالة فيتش.
وفي الختام، يمكن القول إنه على الرغم من التحسن النسبي لأداء الاقتصاد الصيني خلال عام 2023، فإنه لا يزال يواجه عدداً من التحديات التي من شأنها التأثير سلباً على أدائه على المدى المتوسط، ومنها التوترات الجيوسياسية، وتدهور العلاقات مع الولايات المتحدة، فضلاً عن تناقص أعداد السكان في سن العمل، وتزايد المخاطر المتعلقة بالأوضاع المالية، وذلك بعد عقد من النمو المدفوع بالائتمان، وارتفاع القروض المتعثرة. وعليه، فإن تلك العوامل مجتمعة من شأنها أن تسهم في تأخير تفوق حجم الاقتصاد الصيني على نظيره الأمريكي في الأمد القصير.