فشلت ليبيا في إجراء الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرر إجراؤها في 24 ديسمبر الماضي، وهو ما انعكس بوضوح على خريطة التحالفات القائمة، والتي كان آخرها اللقاء السري الذي جمع رئيس مجلس النواب والمرشح الرئاسي، عقيلة صالح، ورئيس ما يسمى بمجلس الدولة، خالد المشري، في المغرب، في 2 يناير 2022، الأمر الذي يؤشر إلى محاولة صياغة تحالفات جديدة.
تحالفات متغيرة:
شهدت خريطة التحالفات القائمة في الداخل الليبي بعض المستجدات خلال الأسابيع الأخيرة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- لقاء صالح – المشري: أشار تقرير صادر عن وكالة "سبوتنك" الروسية عن لقاء سري جري في 2 يناير الجاري، بين رئيس مجلس النواب الليبي والمرشح الرئاسي، عقيلة صالح، ورئيس ما يسمي بمجلس الدولة، خالد المشري، في المغرب، في محاولة لحلحلة الملفات الخلافية بين الجانبين والتوصل إلى ملامح لخريطة طريق جديدة.
وكان المشري قد أعلن في 18 ديسمبر الماضي عن وجود ترتيبات لتنظيم لقاء يجمعه بصالح لتسوية الأزمة السياسية الراهنة. وعلى الرغم من نفي مصادر من داخل مجلسي النواب والدولة أن يكون قادتهما قد اتفقوا على عقد لقاء في الرباط، فإن موقع الجزيرة القطري أكدت وصول صالح والمشري إلى المغرب استجابة لوساطة مغربية.
وترجع فكرة السرية التي اتسم بها هذا اللقاء إلى سعي الطرفين للتوصل إلى توافقات مبدئية قبل البدء في اجتماعات موسعة للمجلسين، وهو ما قد يمثل مؤشراً إيجابياً يعكس احتمالات التوصل إلى تفاهمات لحل الأزمة السياسية الراهنة وإعادة صياغة خريطة طريق جديدة.
2- اجتماع حفتر – فتحي باشاغا: قام وزير الداخلية السابق، فتحي باشاغا، ونائب رئيس المجلس الرئاسي السابق، أحمد معيتيق، في 21 ديسمبر الماضي، بزيارة غير مسبوقة إلى مدينة بنغازي، حيث التقى الرجلان، مرشحا الرئاسة، بالمشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي والمرشح الرئاسي.
وعكس هذا اللقاء التغيرات التي فرضت نفسها على المشهد الليبي، في ظل احتضان مدينة بنغازي في شرق ليبيا لهذا الاجتماع، فضلاً عن طبيعة الخلافات الحادة التي جمعت هذه الأطراف خلال السنوات الماضية، حيث ينتمي باشاغا ومعيتيق إلى مدينة مصراته، والتي عرفت بعدائها الكبير لمعسكر شرق ليبيا الذي يقوده حفتر، أي أن اللقاء مثّل محاولة لإنهاء الانقسامات الحادة التي تطغي على المشهد الداخلي في ليبيا، خاصة مع حضور عدد من مرشحي الانتخابات الرئاسية الأخرى من جنوب وغرب ليبيا.
دوافع التحولات الراهنة
هناك عدة دوافع ربما تفسر حالة الزخم الراهنة في الداخل الليبي والتحركات المكثفة من قبل الأطراف الليبية لإعادة ترتيب طبيعة التحالفات القديمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تجنب عودة ملتقى الحوار: منذ عودة ستيفاني ويليامز، مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة للملف الليبي، بدأت مساعي مكثفة من أجل إعادة دور ملتقي الحوار الليبي، والذي كانت قد ساهمت ستيفاني في تشكيله قبل مغادرتها منصب المبعوث الأممي في يناير 2021، حيث تعول ويليامز كثيراً على أعضاء هذا الملتقى، نظراً لإنخراطها في وقت سابق في اختيار عناصره، فضلاً عن الدور الذي قام به الملتقى في اختيار السلطة الانتقالية الحالية والتوصل إلى خريطة الطريق التي حددت موعد الانتخابات.
وقد تسعى ويليامز لتجميد دور مجلسي النواب والدولة، وإعادة تفعيل دور ملتقى الحوار، وهو الأمر الذي دفع المجلسين إلى العمل على حلحلة الخلافات القائمة بينهما لضمان استمرارهما في المشهد وإطلاعهما على صياغة ملامح خريطة الطريق الجديدة، وهو ما عكسته تصريحات خالد المشري الأخيرة، التي ألمح فيها إلى أن ثمة تفاهمات تم التوصل إليها مع المستشار عقيلة صالح بشأن العمل بعيداً عن البعثة الأممية.
2- تحولات خريطة التحالفات: دفعت خطوة الإعلان عن فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية في نوفمبر الماضي إلى إضفاء مزيد من الهشاشة على طبيعة التحالفات القائمة، والبدء في إعادة هيكلة هذه الخريطة، وهو ما انعكس بوضوح في الاتصالات التي بدأت تحدث بين أطراف داخلية لطالما دخلت في صراعات حادة خلال السنوات الماضية، وهو ما دفع كافة الأطراف إلى البحث عن توافقات جديدة من أجل ضمان استمراره في المشهد.
وارتبطت هذه التحولات بظهور سيف الإسلام القذافي وإعلانه الترشح للانتخابات الرئاسية، وهي الخطوة التي دفعت العديد من الأطراف الداخلية إلى إعادة النظر في تحالفاتهم لتجنب الخسارة، في ظل المؤشرات التي تمتع سيف الإسلام بشعبية غير هينة تؤهله لاحتلال مركز متقدم في أي انتخابات قادمة.
3- تصاعد دور المجلس الرئاسي: انعكس تصاعد دور المجلس الرئاسي في قيامه بعزل آمر منطقة طرابلس العسكرية، عبد الباسط مروان، وتعيين عبد القادر منصور خليفة بديلاً له، وهو ما أحدث انقساماً حاداً بين ميليشيات غرب ليبيا، حيث دعمت بعض الميليشيات الآمر الجديد، فيما ناصرت ميليشيات أخرى الآمر المقال.
كما استعان المجلس الرئاسي في الأسابيع القليلة الماضية بميليشيات من مصراتة والزنتان والزاوية لمحاولة السيطرة على الانقسامات الراهنة في العاصمة. ورجحت هذه التقديرات أن المجلس يخطط إلى إجراء تعديلات على التركيبة الراهنة للميليشيات التابعة له، عن طريق حل بعضها فضلاً عن بعض التغيرات على تبعية هذه الميليشيات وقياداتها، إذ يبدو أن الرئاسي يسعى لتعزيز شرعيته الداخلية والخارجية من خلال محاولة إنجاز بعض التقدم فيما يتعلق بملف الميليشيات المسلحة، بيد أن احتمالات نجاحه في تحقيق اختراق حقيقي في هذا الملف المعقد تبقى محل شك كبير.
4- التحركات الدولية والإقليمية: يلعب البعد الخارجي دوراً مهماً في المتغيرات الراهنة في المشهد الليبي، في ظل الرفض الصارم من قبل واشنطن لترشح سيف الإسلام القذافي، مقابل تمسك موسكو بترشحه، وهو ما يتزامن مع القلق الغربي المتنامي من الدور الروسي في القارة الأفريقية، ومنطقة الساحل والصحراء بشكل خاص، وهو ما يزيد من احتمالات أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التحركات الغربية في ليبيا لصياغة ترتيبات وتحالفات جديدة قادرة على استبعاد سيف الإسلام من المشهد، للحيلولة دون ترسيخ النفوذ الروسي هناك.
دلالات مهمة
تعكس المعطيات السابقة جملة من الدلالات المهمة بشأن مسارات الملف الليبي، يمكن تناولها فيما يلي:
1- تحالفات جديدة هشة: تبقي السمة البارزة على التحالفات الجديدة، التي من المحتمل أن تفرزها التحركات الراهنة، هي الهشاشة وعدم الثبات، بما يعني أنها ربما تكون مجرد تحالفات مرحلية قد يتم النكوص عنها. وفي هذا السياق، يبدو أن مساعي روسيا في تشكيل تحالف بين سيف القذافي وحفتر لم تنجح.
كما أن التنسيق بين حفتر وعقيلة صالح بدأ يتراجع، ومن ثم بدأت ملامح تكتلات جديدة في التشكل، حيث بدأ الحديث عن تكتل يضم كل من المشير خليفة حفتر، ووزير الداخلية السابق، فتحي باشاغا، وربما ينضم إليهما أيضاً نائب رئيس المجلس الرئاسي السابق، أحمد معيتيق، مقابل تكتل آخر يضم رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، ورئيس مجلس الدولة، خالد المشري، بيد أنه حتى الآن لا يزال مستقبل تماسك هذه التكتلات وقدرتها على الصمود محل شك.
ويسعى رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، إلى إعادة التشبث بموقعه كرئيس للحكومة وتعزيز تحالفاته الداخلية، في ظل تعدد الأطراف الداخلية التي تسعى لتنحية الدبيبة من المشهد، سواء لنهاية شرعية حكومته في 24 ديسمبر الماضي، أو لما بات يشكله من تهديد لبقية المرشحين في الانتخابات المقبلة.
لذلك فقد عمد الدبيبة إلى إعادة نائبه الأول، حسين القطراني، لمباشرة مهامه من داخل العاصمة، بعد فترة طويلة من الخلافات الحادة بينهما، لتجنب حدوث تصدعات داخلية في حكومته، إلى جانب اتصالاته المكثفة مع القوى الدولية لضمان دعم استمراره في رئاسة الحكومة لحين إجراء الانتخابات. أما بالنسبة لسيف الإسلام، فقد عمد إلى التركيز على التحالفات القبلية لتعزيز نفوذه الداخلي.
2- خريطة طريق جديدة: على الرغم من اقتراح المفوضية العليا للانتخابات اجراء الانتخابات في 24 يناير الجاري، بيد أن كافة المعطيات الراهنة تعكس صعوبة الالتزام بهذا الموعد المقترح، وهو الطرح الذي يعززه قيام مجلس النواب بتشكيل لجنة من البرلمان لاعداد خريطة طريق جديدة، حيث لا تزال اللجنة تجري مشاوراتها مع الأطراف المختلفة، بما في ذلك مجلس الدولة، والذي عقدت معه اللجنة اجتماعاً في 2 يناير الجاري، فضلاً عن استماع اللجنة لإحاطة رئيس المفوضية العليا للانتخابات، عماد السايح، أمام البرلمان في الثالث من الشهر ذاته، وبالتالي فلا يزال المباحثات التي تقوم بها اللجنة البرلمانية من جانب، والتحركات التي تقوم بها البعثة الأممية من جانب آخر، سارية، لكنها لم تفرز مخرجات نهائية بشأن مستقبل العملية الانتخابية.
ومن المرجح أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من المشاورات التي ستقوم بها البعثة الأممية، وهو ما عكسه البيان الصادر عن المستشارة الأممية، ستيفاني ويليامز، والتي أكدت عودتها إلى طرابلس لمواصلة المشاورات مع الأطراف الليبية كافة، لمحاولة التوصل إلى خريطة طريق جديدة.
وفي الختام، لا تزال حالة اللبس والغموض تهيمن على المشهد الراهن في الداخل الليبي، فإلى جانب حالة الفوضي الأمنية التي تشهدها مناطق غرب ليبيا، باتت العملية السياسية أكثر ضبابية، حيث تعمل الأطراف كافة على إعادة تنظيم علاقاتها الداخلية والخارجية لتعزيز فرصها في أي ترتيبات مقبلة، وهو الأمر الذي يعزز من احتمالات تأجيل موعد الانتخابات إلى عدة أشهر، بحد أقصى في يونيو المقبل، مع التركيز على تحقيق تقدم في المسار الاقتصادي والعسكري، لحين التوصل إلى توافقات شاملة تعالج مختلف التحديات القائمة.