أعلنت السلطات السعودية، في 29 يوليو 2020، أنه انطلاقًا من حرصها على تنفيذ اتفاق الرياض الذي تم توقيعه بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي في 5 نوفمبر 2019، واستكمالًا لجهودها في تحقيق الأمن والاستقرار باليمن؛ فقد قدمت المملكة للطرفين آلية لتسريع العمل بهذا الاتفاق عبر نقاط تنفيذية محددة، حيث تم البدء في تفعيل بعضها، مثل تعيين محافظ ومدير أمن لمحافظة عدن، على أن تُستكمل البقية ومنها تشكيل حكومة كفاءات سياسية في غضون 30 يومًا. وتُعد هذه الآلية بمثابة محاولة لإنقاذ اتفاق الرياض بعد تعثر تنفيذ بنوده السياسية والعسكرية والاقتصادية طيلة الأشهر التسعة الماضية، وقد حظيت بموافقة طرفي الاتفاق، فضلًا عن دعم وتأييد القوى الدولية والإقليمية لها.
تعثر الاتفاق:
في مسعى لوضع حدٍّ للمواجهات المسلحة التي اندلعت في أغسطس 2019 بين قوات الحكومة اليمنية الشرعية وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي في جنوب اليمن، وخاصةً في محافظات عدن وشبوة وأبين؛ تم توقيع اتفاق الرياض بين الطرفين برعاية سعودية في 5 نوفمبر الماضي، حيث تضمن الاتفاق ترتيبات سياسية واقتصادية وعسكرية، هدفت -في مجملها- إلى تهدئة الأوضاع في جنوب اليمن، وتوحيد صفوف الشرعية في مواجهة ميليشيا الحوثيين.
وعلى الرغم من مرور نحو 9 أشهر على توقيع هذا الاتفاق، إلا أنه لم يتم تنفيذ بنوده، والتي كان من أبرزها تشكيل حكومة كفاءات سياسية لا تتعدى 24 وزيرًا يُعيّن الرئيس "عبدربه منصور هادي" أعضاءها مناصفة بين محافظات الجنوب والشمال خلال مدة لا تتجاوز 30 يومًا من توقيع الاتفاق، ومشاركة المجلس الانتقالي الجنوبي في وفد الحكومة لمشاورات الحل السياسي النهائي لإنهاء انقلاب الحوثيين، فضلًا عن إعادة تنظيم القوات العسكرية تحت قيادة وزارة الدفاع، وإعادة تنظيم نظيرتها الأمنية تحت قيادة وزارة الداخلية، بالإضافة إلى عودة جميع القوات التي تحركت من مواقعها ومعسكراتها الأساسية باتجاه محافظات عدن وأبين وشبوة منذ أغسطس 2019 إلى مواقعها السابقة بكامل أفرادها وأسلحتها، وتحل محلها قوات الأمن التابعة للسلطة المحلية في كل محافظة.
وقد حمّل كل طرف الآخر مسؤولية عدم الالتزام بتطبيق تلك البنود، وعلى نحو عكس عدم وجود ثقة متبادلة بين الحكومة الشرعية والمجس الانتقالي الجنوبي. وبناءً على ذلك، عادت الاشتباكات المسلحة مرة أخرى بين قوات الطرفين، وصولًا إلى إعلان المجلس الانتقالي حالة الطوارئ العامة في عدن وعموم محافظات الجنوب والإدارة الذاتية لها بدءًا من يوم 25 أبريل 2020، مبررًا هذه الخطوة بأنها جاءت بسبب ما وصفه بـ"تلكؤ الحكومة اليمنية وتهربها من تنفيذ ما يتعلق بها من اتفاق الرياض".
وقد أثار إعلان الإدارة الذاتية من المجلس الانتقالي غضب الحكومة اليمنية، ودفعها إلى الحشد العسكري في محافظات الجنوب، ما أدى إلى تصاعد الاشتباكات بين الجانبين في أبين وسقطرى وغيرها من المناطق الجنوبية. كما لاقى هذا الإعلان رفضًا من الأطراف الإقليمية والدولية، سواء من الدول أو المنظمات.
خطوات للتهدئة:
سعت السعودية على مدار الأشهر الماضية، وبالتواصل والتعاون مع الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي، لتهدئة الأوضاع في جنوب اليمن، وإحياء تنفيذ اتفاق الرياض، وتتمثل أبرز هذه المساعي السعودية في الآتي:
1- توقيع مصفوفة انسحابات وتبادل للأسرى: في خطوة أولية لإنقاذ اتفاق الرياض، أعلنت الحكومة اليمنية، في 9 يناير الماضي، عن توقيع مصفوفة انسحابات عسكرية متبادلة مع المجلس الانتقالي الجنوبي، وعودة القوات المتفق عليها بين الطرفين وفق اتفاق الرياض، على أن يتم تنفيذها تحت إشراف قيادة التحالف العربي. وفي خطوة أخرى لزيادة الثقة بين طرفي الاتفاق، بدأت لجنة تبادل الأسرى بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي، أول عملية استلام للأسرى في محافظة شبوة (جنوب شرق صنعاء)، يوم 11 يناير الماضي.
2- عقد اجتماعات في الرياض: دعا الجانب السعودي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي "عيدروس الزبيدي"، إلى زيارة المملكة، حيث وصل يوم 20 مايو الماضي إلى العاصمة الرياض، وذلك في زيارة كانت الأولى للزبيدي إلى السعودية منذ رعاية الأخيرة اتفاق الرياض؛ وهدفت إلى وضع حد للمواجهات العسكرية التي تصاعدت في هذا التوقيت بين قوات الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي، ولا سيما في محافظتي أبين وسقطرى، وهي المواجهات التي انتهت بإعلان المجلس سيطرته الكاملة على جزيرة سقطرى في 20 يونيو الماضي.
وأيضًا في إطار التواصل مع مختلف القوى الجنوبية في اليمن، وصل وفد من محافظة حضرموت إلى العاصمة السعودية، يوم 17 يوليو الماضي، للمشاركة في المشاورات السياسية التي ترعاها المملكة بين الأطراف اليمنية من أجل تنفيذ اتفاق الرياض.
3- وقف إطلاق النار: توصلت الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي، يوم 22 يونيو الماضي، إلى اتفاق وقف إطلاق النار في محافظة أبين، وإيقاف التصعيد في كل المحافظات الجنوبية، وبدء محادثات لتطبيق اتفاق سلام، وذلك وفقًا لما أعلنه سفير السعودية باليمن "محمد آل جابر". وسعت المملكة من هذا الاتفاق إلى تهدئة الأوضاع في جنوب اليمن، ومواصلة عقد الاجتماعات بين الطرفين للتوصل إلى صيغة تفاهم جديدة بشأن تنفيذ اتفاق الرياض.
وقد أسفر وقف إطلاق النار عن هدوء نسبي في أبين ومناطق أخرى جنوب اليمن، خاصةً بعد نشر التحالف العربي مراقبين على الأرض لمراقبة وقف النار، وتزامن ذلك مع تصريحات للرئيس "هادي"، خلال اجتماع عقده في الرياض يوم 28 يونيو الماضي ضم هيئة رئاسة مجلس النواب ورئيس الوزراء وعددًا من أعضاء الحكومة، أكد خلالها على أهمية اتفاق الرياض لإعادة الاستقرار في الجنوب. ومن جانبه، جدّد المجلس الانتقالي ترحيبه بتنفيذ هذا الاتفاق.
آلية جديدة:
استكمالًا لخطوات التهدئة السابقة، والاجتماعات التنسيقية التي عُقدت في العاصمة السعودية على مدار الأسابيع الماضية لبحث آلية جديدة تُسهم في تفعيل اتفاق الرياض؛ أعلنت المملكة يوم 29 يوليو الماضي عن التوصل إلى آلية تنفيذية لتسريع هذا الاتفاق. واعتمدت هذه الآلية بشكل أساسي على التوازن في تطبيق الشقين السياسي والعسكري الواردين باتفاق الرياض، وهما كانا موضع الخلاف الرئيسي بين طرفي الاتفاق منذ توقيعه في 5 نوفمبر الماضي، نظرًا لتباين تفسير كلٍّ منهما لبنود الاتفاق، حيث عملت الحكومة الشرعية على تطبيق الترتيبات العسكرية والأمنية أولًا، وفي المقابل سعى المجلس الانتقالي للبدء بالترتيبات السياسية. وبالتالي عالجت آلية التسريع هذه الإشكالية، على النحو التالي:
1- ترتيبات عسكرية وأمنية لوقف التصعيد: تتضمن آلية تسريع تنفيذ اتفاق الرياض عددًا من الإجراءات الهادفة إلى مواصلة التهدئة عسكريًّا وأمنيًّا بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي، وتتمثل في استمرار وقف إطلاق النار والتصعيد والذي بدأ سريانه منذ 22 يونيو 2020، وخروج القوات العسكرية من عدن إلى خارج المحافظة، وفصل قوات الطرفين في أبين وإعادتها إلى مواقعها السابقة.
2- ترتيبات سياسية لتعزيز الثقة: تهدف آلية التسريع، في جزء آخر منها، إلى استكمال بعض البنود السياسية المُتضمنة في اتفاق الرياض، وبناء وتعزيز الثقة بين طرفيه. ووفقًا لهذه الآلية، أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي تخليه عن الإدارة الذاتية التي سبق أن أعلنها في 25 أبريل الماضي، كما أصدر الرئيس "هادي" قرارين بتعيين كل من "أحمد حامد لملس" محافظًا جديدًا لعدن، والعميد "محمد أحمد الحامدي" مديرًا عامًّا لشرطة عدن وترقيته إلى رتبة لواء.
وتنطوي هذه التعيينات الجديدة على دلالة رمزية مهمة، حيث إن منصبي محافظ ومدير شرطة عدن كانا شرارة اندلاع الأزمة الحالية بين الجنوبيين والحكومة اليمنية في أبريل 2017 عندما أقدم الرئيس "هادي" في هذا التاريخ على إقالة محافظ عدن آنذاك "عيدروس الزبيدي"، ما أثار ردود فعل غاضبة في الجنوب، وخرجت مظاهرات تنديدًا بقرار "هادي"، وهو ما دفع "الزبيدي" في مايو من العام نفسه إلى تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي. وبعدها بنحو عامين أيضًا، تم تجريد "شلال شايع"، الموالي للمجلس الانتقالي، من منصبه كمدير أمن لعدن.
وبالتالي، تسعى السعودية من هذه القرارات الواردة في آلية تسريع اتفاق الرياض، إلى تحقيق مكاسب سياسية متبادلة للحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي، إذ تنازل الأخير عن الإدارة الذاتية لمحافظات الجنوب، وهو ما يعد انتصارًا لحكومة "هادي"، وفي مقابل ذلك تم تعيين "أحمد حامد لملس"، وهو الأمين العام للمجلس الانتقالي، محافظًا جديدًا لعدن، مع اختيار شخصية تبدو محايدة ولديها خبرات أمنية كبيرة وهو "الحامدي" كمدير أمن لعدن، بالإضافة إلى البدء في خطوات تشكيل حكومة جديدة مناصفة بين الشمال والجنوب وبمشاركة المجلس الانتقالي، بما يعد اعترافًا رسميًّا من الحكومة بشرعية هذا المجلس.
وفيما يتعلق بهذه الحكومة الجديدة، نصت آلية التسريع على تكليف رئيس الوزراء اليمني الحالي "معين عبدالملك"، بتشكيل حكومة كفاءات سياسية خلال 30 يومًا. ووفقًا لتقارير إعلامية، ستتكون هذه الحكومة من 24 حقيبة، منها 4 سيادية (الدفاع، والداخلية، والخارجية، والمالية) سيكون حق التعيين فيها للرئيس "هادي"، وباقي الوزارات مناصفة بين الشمال (10) والجنوب (10)، ويُتوقع أن يكون نصيب المجلس الانتقالي 4 حقائب من حصة الجنوب.
فرص النجاح:
تعكس تلك الآلية حرص السعودية على تسريع تنفيذ اتفاق الرياض، سعيًا منها لتوحيد جبهة الشرعية في اليمن، والتفرغ لمواجهة التحديات العديدة الأخرى التي تواجه هذا البلد، سواء على مستوى تحسين الخدمات الأساسية لليمنيين، أو مكافحة الأوبئة، أو منع استغلال ميليشيا الحوثيين لأي خلافات في صفوف الشرعية للتصعيد العسكري، أو دعم مفاوضات الحل السياسي للصراع اليمني.
وقد بدا ذلك ملحوظًا في تغريدات المسؤولين السعوديين بعد الإعلان عن آلية التسريع يوم 29 يوليو الماضي، ومنها -على سبيل المثال- تأكيد نائب وزير الدفاع السعودي، الأمير "خالد بن سلمان"، أن أمن واستقرار اليمن يمثل هدفًا رئيسيًّا لتحالف دعم الشرعية، لافتًا إلى أن اتفاق الرياض يمثل عاملًا رئيسيًّا في الوصول إلى ذلك، إضافة إلى دعم جهود المبعوث الأممي لدى اليمن للتوصل إلى حل سياسي شامل في اليمن. كما أكد وزير الخارجية السعودي "فيصل بن فرحان"، أن آلية تنفيذ اتفاق الرياض ستعمل على تفعيل مؤسسات الدولة لخدمة الشعب اليمني، وتوحيد الصفوف لإنجاح مسارات وجهود التوصل لحل سياسي.
كما رحبت العديد من الدول والمنظمات الدولية والإقليمية، وخاصةً المعنية منها بالأزمة اليمنية، بآلية تسريع اتفاق الرياض، وجاءت ردود فعلهم في مجملها مُعبرة عن آمالهم في أن تسهم هذه الآلية في تحقيق الأمن والاستقرار والتوصل إلى سلام مستدامٍ في اليمن.
ولكن على الرغم من حالة التفاؤل هذه المسيطرة على مواقف معظم الأطراف إزاء استئناف العمل باتفاق الرياض، وبالرغم مما تمثله آلية التسريع من خطوة إيجابية ستسهم، في حال الالتزام بتنفيذها من الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي، في توحيد وتماسك جبهة الشرعية اليمنية؛ إلا أن ثمة تحديات قد تهدد بعرقلة هذه الآلية مثلما حدث عند توقيع اتفاق الرياض في نوفمبر 2019.
وتتعلق أبرز تلك التحديات بمدى القدرة على منع حدوث أي اشتباكات عسكرية في مناطق الجنوب بين طرفي الاتفاق، فضلًا عن الالتزام بالتوقيتات الزمنية المُحددة للبنود المُعلنة وهي 30 يومًا، على أن يعقب ذلك تنفيذ ما تبقى من ترتيبات اتفاق الرياض وفقًا لما قد يُتفق عليه لاحقًا. أيضًا، لا يمكن تجاهل وجود مكونات سياسية أخرى في جنوب اليمن غير المجلس الانتقالي قد تعترض على هذا الاتفاق، ناهيك عن احتمالية تعمد بعض التيارات السياسية الموجودة في الحكومة اليمنية، وتحديدًا المناوئة للمجلس الانتقالي، وضع العراقيل أمام تشكيل الحكومة الجديدة المُقترحة، وذلك لمنع حصول المجلس الانتقالي على مكاسب سياسية، أو في إطار تنفيذ هذه التيارات أجندات دول إقليمية أخرى مُعادية لتحالف دعم الشرعية.
ختامًا، تمثل آلية تسريع اتفاق الرياض خطوة مهمة يمكن التعويل عليها لإنقاذ هذا الاتفاق الذي تعثر تنفيذ بنوده على مدار الأشهر التسعة الماضية، ولكن هذا النجاح سيتوقف على استمرار الثقة تحديدًا بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي، ودعم الأطراف الأخرى سواء الداخلية أو الخارجية لاتفاق الرياض وآليته، وتقديمها التنازلات المتبادلة، وتغليب الجميع المصلحة العليا والاستراتيجية لليمن على ما عداها من مكاسب مرحلية أو ضيقة.