يُعد اتفاق منظمة الدول المصدِّرة للنفط "أوبك" والدول المتعاونة معها على تمديد اتفاق خفض الإنتاج حتى نهاية عام 2018، محطة جديدة ومهمة في مسيرة تطور أسواق النفط العالمية، فالاجتماع الذي انعقد في فيينا وَضَعَ حدًّا للجدل الذي ارتفع خلال الفترة الماضية بشأن إمكانية مشاركة روسيا في أي تمديد جديد لاتفاق خفض الإنتاج، وبجانب أن الاجتماع ضم 24 دولة منتجة للنفط الخام، من بينها أعضاء "أوبك"؛ فإنه أدرج نيجيريا وليبيا في عملية خفض الإنتاج. وكل من هذه النتائج مثَّلت رسائل إيجابية بالنسبة للأسواق، التي استجابت بالفعل وشهدت ارتفاعًا في الأسعار التي لامست 64 دولارًا للبرميل، مسجلة أعلى سعر لها منذ نحو شهر تقريبًا.
والأمر الهام في هذا الإطار، هو أن ما توصل إليه الاجتماع الأخير لـ"أوبك" يؤكد أن ما تشهده أسواق النفط العالمية منذ سنوات يمثل مرحلة انتقالية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وكما تؤذن المرحلة الانتقالية بانتهاء مرحلة وتبشِّر بقدوم مرحلة جديدة، فمن دون شك فإن المرحلة التي تمر بها أسواق النفط الآن تؤذن بانتهاء مرحلة اتسمت بملامح وخصائص محددة في مسيرة تطور الأسواق، وتبشر بقدوم مرحلة أخرى ذات ملامح وخصائص مغايرة.
وفي مثل هذه الظروف يصبح من المنطقي -بل والضروري- التساؤل بشأن ما يمكن أن تئول إليه المرحلة الانتقالية الحالية بأسواق النفط، وما هو التأثير المتوقع لها على مستقبل الأسواق والمتعاملين فيها، لا سيما منتجي النفط التقليدي الذين تمثل "أوبك" وأعضاؤها القوام الرئيسي لهم.
التقارب السعودي - الروسي:
يُعد منتصف عام ٢٠١٤ بداية المرحلة الانتقالية التي تمر بها أسواق النفط حاليًّا، ففي ذلك الوقت بدأت أسعار النفط في الانحدار؛ حيث انخفضت من ١٢٠ دولارًا للبرميل، وهو الرقم الذي استطاعت الثبات عليه لسنوات طويلة، لتصل إلى ٢٦ دولارًا في يناير ٢٠١٦، وهو المستوى الذي لم تصل إليه في أسوأ مراحل الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في عام 2008؛ إذ إن أدنى مستوى وصلت إليه الأسعار في ظل تلك الأزمة كان 34 دولارًا للبرميل، وذلك في مارس من عام 2009.
وقد سبب هذا التراجع الكبير الذي وصل إلى 78% قلقًا متزايدًا لمنتجي النفط التقليدي في العالم، إذ إنه كان دليلًا على عمق التغيرات التي تشهدها أسواق النفط، لا سيما أنه نتج عن تغيرات حقيقية في أسواق النفط، حيث شهدت الأسواق قدوم النفط الصخري كمنافس جديد فيها.
وقد دفعت هذه الظروف منتجي النفط التقليدي الكبار إلى تنحية خلافاتهم جانبًا، والتقارب من أجل ضبط حركة الأسواق بما يضمن مصالحهم، ويُمكِّنهم من استرداد موقعهم المتقدم فيها، وقد كان التقارب السعودي-الروسي هو الأبرز في هذا الإطار، وذلك لعدة أسباب هامة يمكن الإشارة إليها فيما يلي:
١- حجم الإنتاج الكبير: تُعد كل من المملكة العربية السعودية وروسيا الاتحادية من أكبر منتجي النفط في العالم، فمنذ عام 1992 تحتل السعودية المرتبة الأولى كأكبر منتج عالمي للنفط الخام، وتأتي بعدها مباشرة روسيا صاحبة المرتبة الثانية، وهما يتناوبان على هاتين المرتبتين وينفردان بهما منذ ذلك التاريخ.
وقد بلغ متوسط الإنتاج النفطي اليومي للسعودية حوالي 10.46 ملايين برميل منذ نهاية عام 2016، وأتت بعدها روسيا بمتوسط إنتاج يومي بلغ 10.29 ملايين برميل، وذلك وفقًا لبيانات "أوبك"، ويعني ذلك أن البلدين معًا يُنتجان حوالي 20.75 مليون برميل يوميًّا، بما يناهز 27.5% من الإنتاج العالمي اليومي للنفط، وهذه النسبة الكبيرة تضفي على تقاربهما أهمية كبيرة، وتجعله أحد المتغيرات الجوهرية التي تشهدها أسواق النفط في خضم المرحلة الانتقالية الحالية.
٢- مصالح مشتركة: جاء التقارب الحالي والناجح بين السعودية وروسيا بعد محاولات عديدة للتقارب بينهما لم يُكتب لها النجاح على مدى عقود ماضية، في ظل الرفض الروسي المتكرر للانضمام إلى أي جهود تقوم بها منظمة "أوبك" وأعضاؤها لضبط حركة السوق.
وكانت آخر محاولة في هذا الإطار تلك التي أتت على خلفية اجتماع "أوبك" في شهر ديسمبر 2014، أي بعد 6 أشهر من بداية هبوط أسعار النفط، حيث صرَّح الطرف الروسي -آنذاك- بأنه سيحافظ على حجم إنتاجه دون تغيير حتى لو انخفضت أسعار النفط إلى 20 دولارًا للبرميل، بينما أكد الجانب السعودي عبر وزير نفطه حينذاك "علي بن إبراهيم النعيمي" أن إنتاج النفط الروسي سينهار نتيجة انخفاض الأسعار.
وبالتالي فإن التقارب الحالي بين السعودية وروسيا يدل على أن الخلافات السابقة التي أفشلت محاولات التقارب السابقة لم يعد لها وجود الآن، إذ إن البلدين أدركا فعليًّا أن مصلحتهما ومصلحة السوق تتطلب جهودهما المشتركة، بل إن موافقة روسيا على المشاركة في تمديد خفض الإنتاج حتى نهاية عام 2018 تشير إلى أن هذا التقارب يمتلك فرصًا جيدة للصمود والبقاء في المستقبل المنظور.
٣- اتفاق خفض الإنتاج: توصل إليه أعضاء "أوبك" بالتعاون مع بعض منتجي النفط التقليدي الآخرين، وعلى رأسهم روسيا، وقد أُقِرَّ في نهاية عام 2016. ولعبت السعودية وروسيا معًا دورًا رئيسيًّا في التوصل إليه، فالأولى كان لها الفضل في تقريب "أوبك" من منتجي النفط التقليدي غير الأعضاء بالمنظمة، والثانية كان لها الفضل في إقناع هؤلاء المنتجين بدورهم في مساندة جهود "أوبك".
كما أن الاتفاق الذي قضى بتخفيض إنتاج النفط اليومي للدول المشاركة به، بواقع 1.8 مليون برميل، أو بنسبة 2% من إجمالي الإنتاج العالمي، وتم تطبيقه مطلع عام 2017؛ وضع نهاية حقيقية لمظاهر الخلاف التي سيطرت على موقفي السعودية وروسيا تجاه بعضهما على مدى سنوات.
ولقد كانت النتائج الإيجابية التي تمخّضت عن تطبيق الاتفاق، والتي تمثلت في دفع أسعار النفط العالمية إلى مستويات مستقرة فوق 50 دولارًا للبرميل، ومن ثم تخطيها مستوى الـ60 دولارًا حاليًّا، بجانب الحد من فرص توسع إنتاج النفط الصخري الأمريكي؛ بمثابة الأرضية لزيادة التقارب بين السعودية وروسيا، وهو ما بدا واضحًا لدى دعمهما بقوة تمديد الاتفاق طالما اقتضت حاجة الأسواق ذلك.
٤- شراكة غير نفطية: لم يقتصر التقارب بين السعودية وروسيا على الجوانب النفطية؛ بل امتد إلى جوانب أخرى في العلاقات الاقتصادية بين البلدين. وقد دلّ على ذلك بوضوح تصريح الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لدى لقائه سمو الأمير "محمد بن سلمان"، ولي عهد المملكة العربية السعودية، بموسكو في مايو 2017، بتأكيده أن التعاون بين بلاده والسعودية "انعكس إيجابيًّا على نمو التجارة بينهما بصورة غير مسبوقة، حيث ارتفعت هذه التجارة بنسبة 130% في عام 2017 مقارنة بعام 2016". وفي المقابل، أكد سمو الأمير "محمد بن سلمان" أن "السعودية وروسيا قد حققتا الكثير معًا، ولا يزال هناك المزيد لتحقيقه".
ولقد شهدت زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك "سلمان بن عبدالعزيز" إلى روسيا مطلع شهر أكتوبر 2017، توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية الكبرى بين البلدين، من شأنها إعادة رسم خارطة العلاقات بين البلدين. فبجانب الشراكة القائمة بينهما منذ عام 2015، اتفق صندوق الاستثمارات العامة السعودي وصندوق الاستثمارات المباشرة الروسي، على تأسيس منصة مشتركة للاستثمار في شركات التكنولوجيا الروسية، باستثمارات تبلغ مليار دولار.
كما اتفق صندوق الاستثمارات العامة وشركة "أرامكو" السعودية من جانب وصندوق الاستثمارات المباشرة الروسي من جانب آخر على تأسيس منصة لإيجاد فرص استثمارية في قطاع خدمات الطاقة في البلدين. ووقّع كذلك صندوق الاستثمارات المباشرة وشركة "سايبور" الروسيين مذكرة تفاهم مع شركة "أرامكو" لاستكشاف فرص الاستثمار في قطاع البتروكيماويات في البلدين.
وتجدر الإشارة إلى أن شركة أرامكو السعودية كانت تلقت عرضًا روسيًّا، في يونيو 2017، للمشاركة في تنفيذ مشروع "الغاز الطبيعي المسال-2 بالمنطقة القطبية الشمالية" الروسي، الذي تقوده شركة "نوفاتك"، وهي أكبر شركة خاصة لإنتاج الغاز في روسيا، ويهدف المشروع إلى إنتاج 16.5 مليون طن سنويًّا من الغاز المسال، ما سيسهم في زيادة حصة روسيا في سوق الغاز المسال العالمية من أقل من 5% حاليًّا إلى 10% بحلول عام 2020.
وهذه المعطيات تعكس مستوى الانفتاح الكبير بين روسيا والسعودية، وحقيقة التطور الإيجابي في علاقاتهما الاقتصادية الأوسع، والتي تمثل دعامة أساسية لعلاقاتهما النفطية، وضمانة أساسية لاستدامة هذه العلاقات في الأجل الطويل.
مستقبل التحالف النفطي:
السؤال الأهم في هذا السياق يتعلق بالشكل الذي يمكن أن يأخذه التقارب السعودي-الروسي في مجال النفط، ومدى إمكانية أن يقود إلى انضمام روسيا إلى عضوية منظمة "أوبك"، ومدى تأثيره في مستقبل المنظمة، ومن ثم تأثيره في أسواق النفط في المستقبل.
ويمكن القول، إن تقارب السعودية وروسيا يفضي إلى تشكُّل "تحالف ثنائي نفطي" قوي بينهما، وهذا التحالف يضع نهاية حقيقية للمرحلة التي عاشتها أسواق النفط خلال السنوات الماضية، ويؤذن ببداية مرحلة جديدة في مسيرة تطورها. وتشكُّل هذا التحالف يعيد دفة قيادة أسواق النفط -بشكل فعلي- إلى منتجي النفط التقليدي، بزعامة البلدين مجتمعين، وهو تحول مهم، نظرًا إلى أنه يأتي بعد أن تأثرت الأسواق بتزايد نفوذ النفط الصخري ومنتجيه، وكذلك خضوعها لضغوط تباطؤ الطلب، ومن ثم نفوذ مستهلكي النفط الرئيسيين.
وفيما يتعلق بتأثير تشكُّل التحالف النفطي السعودي-الروسي على مستقبل "أوبك"، فإنه من المستبعد أن يقود إلى انضمام روسيا إلى عضوية المنظمة، لكنه من دون شك يؤدي إلى تحسن آليات التنسيق المباشر بين المنظمة وروسيا، وسيكون بمثابة الدعم الجديد لها، إذ إن تحقق أهداف التحالف الجديد يكون عبر نفس الطريق ونفس الآليات التي تتحقق من خلالها أهداف "أوبك"، ومن هنا سيظل هذا التحالف حريصًا على تبني مواقف متوافقة مع توجهات المنظمة.
وختامًا، فإن قيام التحالف النفطي السعودي-الروسي بهذه الطريقة، وعمله بهذه الآلية؛ سوف يجعل من روسيا "عضوًا غير معلن في أوبك"، وكما انعكست آثار قيام ذلك التحالف على أسواق النفط خلال الفترة الماضية، فإنها ستستمر في دعم أداء الأسواق واستقرارها خلال الفترة المقبلة. وما يلخص هذا المعنى ما قاله "محمد باركيندو" (الأمين العام لمنظمة "أوبك") في مناسبة سابقة من هذا العام بتأكيده أن "السعودية وروسيا هما الأضواء الهادئة لإعلان التعاون بين "أوبك" والدول غير الأعضاء فيها، وهو التعاون الذي فتح فصلًا جديدًا في تاريخ النفط".