أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

الأردوغانية الجديدة:

أجندة الرئيس التركي وتحديات ما بعد أوغلو

24 مايو، 2016


مع طي صفحة أحمد داود أوغلو، الذي وُصف بـ"كيسنجر تركيا"، وقدوم "ابن علي يلدرم" إلى رئاسة الحكومة وحزب العدالة والتنمية، دخلت تركيا مرحلة جديدة، يمكن تسميتها بالأردوغانية الجديدة، كتعبير سياسي مكثف عن المشهد السياسي الذي انتهى إليه حُكم حزب العدالة والتنمية، وبالتالي هوية تركيا نفسها في المرحلة المقبلة، في ظل الأجندة المُعلنة لأردوغان، والتي تتمثل أولاً وأخيراً في الانتقال إلى النظام الرئاسي.

ملامح الأردوغانية الجديدة

عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002، كان ذلك وفقاً لقواعد اللعبة الديمقراطية من خلال صناديق الاقتراع، وحينها حرص الحزب على تقديم نفسه كحزب إصلاحي يلتزم بالأسس الديمقراطية والعلمانية التي قامت عليها الجمهورية التركية، لكن ما إن تمكن من تثبيت أقدامه في الحياة السياسية، حتى بدأ يحول خطواته التكتيكية إلى استراتيجية للاستحواذ على السلطة. وهكذا سيطر الحزب على الرئاسات الثلاث (الحكومة، البرلمان، والجمهورية)، ليبدأ بعد ذلك مرحلة تغير النظام السياسي من الداخل عبر سلسلة من الخطوات المتكاملة.

وقد نجح حزب العدالة والتنمية، من خلال هذه الخطوات، في وضع القضاء والمحاكم والتعليم والإعلام والاقتصاد وحتى الجيش تحت سيطرته. وكثيراً ما اتخذ هذا التغير المُشار إليه مسارين متناقضين؛ الأول: الإصلاح والذي هدف بشكل أساسي إلى إعادة هيكلة الحكم والنظام السياسي. والثاني: الحرب على ما يُسمى (التنظيم الموازي) بهدف القضاء على الخصوم السياسيين، سواء في داخل الجيش، حيث تم اعتقال عشرات الضباط بتهمة التحضير لانقلاب قبل أن يتم الإفراج عن معظمهم بسبب عدم ثبوت الاتهامات، أو من خلال استهداف الخصوم السياسيين والاجتماعيين، لاسيما حركة فتح الله غولن الواسعة النفوذ في العديد من مرافق الدولة ومؤسساتها.

وبالتالي نجح الحزب في وضع يده على كل مفاصل الحياة العامة في البلاد، قبل أن ينتقل إلى مرحلة الأردوغانية، والتي بدأت عملياً مع تسلم رجب طيب أردوغان منصب رئاسة الجمهورية في عام 2014 عبر انتخابات مباشرة من الشعب للمرة الأولى بعد أن كان يتم انتخاب الرئيس من داخل البرلمان، حيث يعتقد أردوغان أن هذه الانتخابات أعطته الشرعية الشعبية للتدخل في مختلف تفاصيل الحياة السياسية والحزبية في البلاد، خلافاً للدستور الذي يمنع رئيس الجمهورية من ممارسة أي نشاط حزبي، خاصةً أن منصبه شرفي أكثر مما هو تنفيذي.

ومن هنا بدأت الخلافات بينه وبين أحمد داود أوغلو، ومع تراكمها وإصرار أردوغان على المُضي في أجندته حتى النهاية، لم يجد أوغلو مناصاً من الاستقالة تحت الضغط، لتدخل تركيا مرحلة الأردوغانية الجديدة، والتي من أهم ملامحها الانتقال من مرحلة قيام حكم حزب العدالة والتنمية على المؤسسات إلى الحكم الشخصي لأردوغان بعد أن أصبح الأخير يقود الحزب عملياً، ويحدد سياساته ويُعين كبار قادته وأعضاء لجنته المركزية ومجالسه القيادية. ويُشكل كل ذلك خطراً على الحزب نفسه، إذ إنه بات أشبه بالأحزاب الشمولية الحاكمة والتي ترتبط بشخص الزعيم، لينهار سريعاً إذ ما غاب هذا الزعيم.

أجندة الحكومة الجديدة

ثمة من يرى أن أحمد داود أوغلو كان آخر رئيس وزراء فعلي لتركيا، وأنه لن يكون لهذا المنصب بعد اليوم أي دور مؤثر في المرحلة المقبلة، وأن جل مهمته هو تنفيذ أجندة أردوغان من أجل تحقيق رؤيته لتركيا عام 2023 تحت عنوان: "العمل من أجل تركيا جديدة"، والتي هي في الحقيقة عبارة عن وضع نهاية للجمهورية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك، والإعلان عن تركيا بثوب عثماني جديد، وذلك في ذكرى مرور نحو قرن على إلغاء حكم الخلافة العثمانية وإقامة النظام الجمهوري في عام 1924.

وعليه، فإن مهمة رئيس الوزراء التركي الجديد محددة سلفاً بأجندة، لعل أهم عناصرها ما يلي: 

1- الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، والمرحلة الأولى لخطة الانتقال تقوم على تأمين الموافقة من داخل البرلمان لإقرار قانون الانتقال، وذلك عبر مشاورات مكثفة يطلقها "ابن علي يلدرم" مع أحزاب المعارضة، وتحديداً حزبا الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية. ولعل ما جرى بخصوص رفع الحصانة البرلمانية عن النواب وتعديل المادة 83 من الدستور، يُشجع على السير في هذا الاتجاه. وفي حال فشل هذا الخيار، فإن البديل سيكون التوجه إلى إجراء انتخابات مبكرة.

2- وضع دستور جديد للبلاد يضع نهاية للدستور الذي وضعه العسكر عقب انقلاب عام 1980، على أن يتضمن الدستور الجديد، إضافة إلى النظام الرئاسي، إعادة تعريف العلمانية بما يسمح بإدخال الدين في الحكم والقضاء ومُجمل الحياة العامة. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن تصريحات رئيس البرلمان إسماعيل قهرمان بشأن اعتماد دستور ديني والتخلص من العلمانية، لم تكن مجرد زلة لسان، وإنما كانت تعبيراً عن حقيقة سياسية لحزب العدالة والتنمية، وبمنزلة جس نبض لمعرفة ردود الفعل إزاء هذه القضية الحساسة بالنسبة للنظام السياسي في تركيا.

3- مواصلة الحرب على الحليف القديم، أي جماعة غولن باسم القضاء على التنظيم الموازي، إذ إن أردوغان بات على قناعة تامة بأن هذه الجماعة تعمل في الداخل والخارج للتخلص منه، وأن المطلوب هو القضاء على بنية الجماعة وإخراجها من مؤسسات الدولة وأجهزتها بالوسائل والإجراءات كافة للقضاء على خطرها.

4- مواصلة الحرب على الحركة الكردية وتطلعاتها في إقامة حكم ذاتي باسم مكافحة إرهاب حزب العمال الكردستاني، وكذلك مواصلة الحرب الناعمة على حزب الشعوب الديمقراطي عبر تجريد نوابه في البرلمان من الحصانة، تمهيداً لمحاكمتهم وسجنهم وصولاً إلى حظر الحزب. والهدف الجوهري من كل ذلك هو ضرب أي إمكانية لإقامة إقليم كردي في تركيا على غرار ما جرى في العراق وسوريا، حيث إن أردوغان يدرك أن التطورات التي تشهدها القضية الكردية في هاتين الدولتين لابد أن تنعكس في النهاية على كُرد تركيا وتطلعاتهم، خاصةً أنه يزيد عددهم عن الكُرد في كل من العراق وإيران وسوريا.

5- في سلم أولويات حكومة "ابن علي يلدرم"، يأتي الحد من تراجع الاقتصاد وانهيار قيمة العملة التركية، ولعل مثل هذا الأمر يتطلب ما يشبه معجزة اقتصادية بسبب علاقات تركيا المتوترة مع كثير من الدول، وانزلاق البلاد نحو مرحلة من عدم الاستقرار، وهو ما يُؤثر على الاستثمار الداخلي والخارجي الذي يشكل أحد أهم أسرار النجاح الاقتصادي لتجربة حكم حزب العدالة والتنمية.

6- إعادة تأسيس حزب العدالة والتنمية، إذ سيكون للحزب لجنة مركزية جديدة، وهيئة قيادية جديدة، ولعل الجميع الذين سيشغلون هذه المناصب سيكونون من القيادات الجديدة المحسوبة على أردوغان شخصياً، وهي قيادات غالباً ما تجمع بين المصالح الحزبية والسياسية والاقتصادية في توليفة أراد أردوغان منها بالدرجة الأولى منع بناء أقطاب خارج رؤيته وإرادته وسياسته.

ويعتقد أردوغان أن إنجاز مُجمل الأجندة السابقة سيؤدي إلى تحقيق رؤيته لتركيا جديدة في عام 2023، وهي حسب اعتقاده ستؤسس لدولة قائدة في الشرق الأوسط.

 تحديات داخلية وخارجية

من شأن المسار الذي وضعه أردوغان لقطار الحياة السياسية التركية في المرحلة المقبلة، وضع البلاد أمام جملة من التحديات الداخلية والخارجية التي قد تنفجر في وجه هذا القطار في أي وقت، وتتمثل في الآتي:

1- التحديات الداخلية:

لعل من أولى نتائج السياسة التي وضعها أردوغان، هي القضاء على المعارضة السياسية في البلاد، بما في ذلك تلك الموجودة داخل البرلمان وحتى أحزاب تاريخية، مثل حزب الشعب الجمهوري الذي يمثل إرث أتاتورك، كما من شأنه الصدام مع إرادة مكونات أساسية، لاسيما المكون الكردي الذي نجح في إيصال حزب سياسي إلى البرلمان عبر صناديق الاقتراع، فضلاً عن أن تنفيذ هذه الأجندة يعني المزيد من التصعيد والحرب ضد الحركة الكردية، لاسيما حزب العمال الكردستاني الذي بات يمتلك خبرة قتالية كبيرة، وله نفوذ كبير بين الكُرد في شرق البلاد وجنوبها، وهو ما يرشح تركيا لمرحلة من عدم الاستقرار والانفتاح على المجهول، خاصةً في ظل التطورات الدراماتيكية التي تشهدها القضية الكردية في الجوار الجغرافي واحتمال تلقي الحزب الكردستاني الدعم من الخارج، بما يعني فتح الباب أمام تدويل هذه القضية.

كما أن المواجهة مع جماعة غولن ومواصلة الحرب على المؤسسات الإعلامية والاقتصادية المختلفة مع أردوغان، والتي تمثل في النهاية أطرافاً سياسية، تجعل من تركيا وكأنها تسير فوق حقل ألغام قد ينفجر في أي وقت، لاسيما أن أحداث انتفاضة غيزي بارك في ساحة تقسيم بإسطنبول عام 2013 مازالت حاضرة وتدفع مؤسسات المجتمع المدني والعلماني إلى التحرك في وجه سياسة أردوغان.

2- التحديات الخارجية:

بعيداً عن علاقات تركيا المتوترة مع مصر وروسيا والعراق، فإن السياسة التركية الخارجية تعاني جملة استحقاقات كبيرة، فعلى جبهة الأزمة السورية لا تبدو هذه السياسة قادرة على إنجاز المعجزات في ظل تعقيدات هذه الأزمة والتفاهم الروسي – الأمريكي على حلها سياسياً بعيداً عن مطلب تركيا إسقاط نظام بشار الأسد، وهو ما يضع أنقرة أمام امتحان صعب على شكل استنزاف يُعرض استراتيجيتها للتآكل من جهة، ومن جهة ثانية يُعرض أمنها الداخلي للمخاطر في ظل التفجيرات الإرهابية الأخيرة التي قام بها تنظيم "داعش" في العديد من المدن التركية.

وعلى مستوى الغرب، فإن الصورة التي يرسمها أردوغان لتركيا المقبلة هي صورة الرجل الذي يقضي على التعددية والديمقراطية لصالح صورة الرجل الواحد الذي يحكم البلاد بقبضة من النار والحديد. كما أن توجهات أردوغان المستقبلية تشكل في العمق افتراقاً عن الآليات التي رسمت قواعد العلاقات مع الغرب، وهذه مسألة شائكة تتعلق بالتاريخ والجغرافيا والخيارات السياسية للبلاد، ولعل من أول ملامح هذه السياسة انهيار الاتفاق الاوروبي - التركي بشأن اللاجئين ووضع نهاية للمسعى التركي في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

في جميع الأحوال، دخلت تركيا مرحلة الأردوغانية الجديدة، وهي مرحلة يأمل أردوغان منها الوصول إلى دولة تحاكي أمجاد الأجداد في عهد السلاطين، وهو تطلع جامح لن يكون تحقيقه سهلاً في ظل المتغيرات الجارية والتطورات الدراماتيكية التي تشهدها تركيا والمنطقة والعالم.