عرض: وفاء الريحان
قدَّم قادة الولايات المتحدة خاصة أوباما وترامب طريقة للمشاركة السياسية تعتمد على الاستراتيجيات الرقمية، لكنها مع ذلك لم تقض على الديمقراطية التمثيلية، كما لم تأت بالديمقراطية المباشرة التي وعدوا بها، وبدلاً من ذلك، فقد شجَّع هذا الوضع على تأرجح الهوية بين التمكين الرقمي وعدم التمكين، وهذا هو جوهر ما عرَّفته الباحثة في الإعلام الجديد "إليزابيث لوش" بـ "ديمقراطية السيلفي".
لذا، طرحت "لوش" في كتابها المُعنون "ديمقراطية السيلفي: السياسة الرقمية الجديدة للاضطراب والتمرد" سؤالاً حول كيف يمكن إعادة تشكيل الممارسة السياسية من خلال الهوية الإلكترونية الجديدة؟ الإجابة كانت من خلال فحص الممارسات الرقمية للقادة السياسيين؛ حيث اعتمدت على مقابلات مع موظفين سابقين في البيت الأبيض، وأبحاث أرشيفية، ومجموعة من البيانات العامة، ويكشف الكتاب عن رؤى مهمة حول الممارسات الرقمية لأهم الفاعلين في السياسة الأمريكية الحديثة، وهما باراك أوباما ودونالد ترامب كرئيسين سابقين، وكيف ترتبط مناهجهما للحكم المحلي وإدارة الأزمات بخياراتهما التكنولوجية؟.
الديمقراطية المباشرة:
أوضحت الكاتبة أن أوباما ارتبط بمجموعة واسعة من الممارسات الرقمية خلال فترة وجوده في البيت الأبيض، من التقاط صور السيلفي إلى توجيه الطائرات من دون طيار، في المقابل، كانت رئاسة دونالد ترامب مرتبطة إلى حدٍ كبير بسلوك تم تطبيعه من قبل شركة تكنولوجيا واحدة: تويتر.
لكن عملية تعلم الرقمنة لكلا الرئيسين تضمنت مجموعة معقدة من التقنيات والمنصات والأجهزة والمستشارين، إذ استخدم كل من ترامب وأوباما لغة وادي السيليكون بطرق مماثلة ورددا موضوعات الشفافية والتخصيص والمشاركة والوصول المباشر نفسها للمواطنين، بما دفع علماء السياسة والقائمين على استطلاعات الرأي إلى مناقشة خصائص ما يسمى بالناخب "أوباما-ترامب"، الذي صوّت للرئيسين 44 و45، إذ يتساءلون عما يمكن أن يلهم نفس المواطن للتصويت لمثل هؤلاء المرشحين المتعارضين تماماً، لكن من الواضح أن كلتا الحملتين استخدمتا لغة الديمقراطية الرقمية المباشرة باعتبارها أداة للتغيير الجذري.
خطاب الاتصال:
خلال أول ترشيح لأوباما للرئاسة، لجأت حملته تكتيكات غير تقليدية لمحاولة كسب دعم الناخبين عبر منصة "يوتيوب"، حيث تم استخدام مقاطع الفيديو التي تم فيها دمج محتوى من مقطع فيديو آخر، مثل مزج فيديو حملة أوباما "نعم نستطيع" "Yes We Can" لقطات من خطابه بمقاطع لمغني البوب والمشاهير وهم يغنون نشيداً ملهماً حول احتمالات الفوز في الانتخابات، وكان المقطع يشير بوضوح إلى أفكار حول كيفية تشكيل الخطاب السياسي بطريقة حوارية.
على جانب آخر، خلال معظم فترة ولاية باراك أوباما الأولى، عبّر دونالد ترامب عن آراء شخصية قليلة جداً على الإنترنت، وركَّزت جهوده في التعبير عن الذات على شبكة "إن بي سي"، وكان يريد وقتها الحصول على أعلى التقييمات من أجل تقديم برنامج "ذا أبرينتايس" ورأى وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة لتحقيق هذه الغاية، وكشفت التقارير المالية وقتها أن البرنامج كان أكثر ربحية كمصدر دخل من الكثير من محفظته العقارية.
كانت الرموز التعبيرية باعتبارها وسيلة جيدة لتحسين النص، مصدراً آخر لفهم صعود ترامب إلى الصدارة على الإنترنت. فعلى سبيل المثال، بعد ستة أشهر من صعوده للرئاسة أشاد ستيوارت فارني، مذيع فوكس نيوز، بأداء سوق الأسهم على شاشات التلفزيون، مدعياً أن أربعة تريليونات دولار ربحتها البلاد بفضل التفاؤل بشأن الإدارة الجمهورية الجديدة. وفي اليوم التالي، تضمنت تغريدة لترامب تعليقاً على فارني رموزاً تعبيرية للعلم الأمريكي، وحقيبة النقود، ورسماً بيانياً إيجابياً وجهازاً للعرض. وقد أثارت استراتيجية إضافة الرموز التعبيرية بعض الأسئلة الأساسية حول حالة الخطاب الرئاسي، ولماذا أصبحت الرموز التعبيرية مهمة لإدارة ترامب، وكيف أصبحت جزءاً طبيعياً من الخطاب السياسي، حتى بالنسبة لموضوع جاف نسبياً مثل السياسة المالية.
خطاب الشفافية:
جاء جيل جديد من التكنوقراط إلى البيت الأبيض مع أوباما؛ وقد اختلفوا بشكلٍ جذري عن محترفي تكنولوجيا المعلومات من العصور السابقة والذين جاؤوا من عوالم الجيش أو الأوساط الأكاديمية أو إدارة الأعمال التقليدية، فبينما فهم هؤلاء التكنوقراط السابقون أن توجيههم الأساسي هو حفظ الملفات، فإن نظرائهم الجدد اعتبروا أن الرقمنة أصبحت أكثر كفاءة عن طريق الحوسبة، خاصة مع حركة المدن الذكية التي كانت تدمج التكنولوجيا في كل جانب من جوانب البنية التحتية الحضرية. في هذا الإطار، تم تصميم موقع البيت الأبيض لأوباما كمدخل لمواقع البيانات المفتوحة العامة الأخرى التي سمحت للمواطنين برؤية الأعمال الداخلية للحكومة بأنفسهم، والاطلاع على الميزانيات، أو البحث عن لغة تنظيمية، أو مراقبة أنشطة المسؤولين الحكوميين.
من جانبها، أشارت الكاتبة إلى أن ترامب نسخ إدارته من المواطنة الرقمية وروج لأيديولوجياته حول الشفافية من خلال تأجيج نظريات المؤامرة عبر الإنترنت حول مواقع "Spygate" و" Obamagate"، كما طالب ترامب على موقع تويتر "بالشفافية" عشرات المرات، واستعان بنجوم تليفزيون الواقع السابقين كموظفين في البيت الأبيض واستخدم حلقات تلفزيون الواقع في المؤتمرات الصحفية.
سوَّق ترامب أيضاً لحرص إدارته على الشفافية من خلال الصور الفوتوغرافية التي كان ينشرها مع أكوام من الوثائق، وذهبت الكاتبة إلى أن الغرض منها هو إظهار الإفصاح من دون الإفصاح عن أي شيء فعلياً. على سبيل المثال، نشر ترامب على تويتر صورة لنفسه وهو يوقِّع إقراره الضريبي عندما كان مرشحاً في عام 2016، لكن لم تظهر أي من المعلومات الفعلية حول موارده المالية.
بعد انتخابه، عرض ترامب أكواماً من المجلدات التي يُزعم أنها مليئة بوثائق موقعة للسيطرة على أصوله لتجنب تضارب المصالح، لكن مرة أخرى مُنِع الصحفيون من رؤية محتويات الملفات. وفي مؤتمر صحفي آخر، بلغت تفاصيل خطة الرعاية الصحية التي كان من المفترض أن تحل محل "أوباما كير" كومة من المطبوعات أصغر بكثير من مجموعة اللوائح التي ستحل محلها. وفقاً لـ "لوش"، اشتكى المراسلون من أن العديد من هذه العروض الورقية الكبيرة بمنزلة عرض مسرحي فقط، تستخدم الأوهام البصرية وغيرها من التكتيكات القادرة على إثارة الأسئلة، ولكن من دون معرفة حقيقية.
خطاب المشاركة:
في عهد أوباما، كان موظفو البيت الأبيض يحاولون تحقيق هدفهم بإعطاء المزيد من المشاركات المباشرة للمواطنين وزيادة الاستجابة الشخصية لاستفساراتهم الفردية، وكان من المأمول أن المشاركة السياسية في الولايات المتحدة يمكن إعادة تصورها بالكامل باستخدام التقنيات الجديدة. ويمكن أن يكون للناس العاديين دور أكبر أخيراً في حكم البلاد، مثلما أعلن ماكون فيليبس، كبير المحللين الاستراتيجيين الرقميين لأوباما عام 2009، أن "مشاركة المواطنين ستكون أولوية للإدارة، وسوف تلعب الإنترنت دوراً مهماً في ذلك".
لتسهيل المزيد من المشاركة المباشرة، تم وضع قدر كبير من الثقة في موظفي البيت الأبيض الشباب الذين أداروا أنظمة الالتماسات عبر الإنترنت وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي. كان فيشر في تويتر يعمل في منصة "Twitter Town Hall 2011" لأوباما، وكان من المتوقع أن يقوم الوافدون الجدد الشباب مثل فيشر بتثقيف شيوخهم السياسيين حول الآداب الرقمية للتفاعل مع الناخبين.
ولتقييم هذا النهج في الأشهر الأولى لإدارة أوباما، أُجرِيت مقابلة مع البروفيسور كريستوفر كيلتي حول جدوى نهج البيت الأبيض الجديد في المشاركة السياسية. في رأي كيلتي، كانت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة غير كاملة لنوع التحول الجذري في المشاركة السياسية الذي قد يكون من الممكن تحقيقه باستخدام التكنولوجيا. أوضح كيلتي أن المشاركة يمكن أن تكون "جيدة وسيئة"، عندما كانت المشاركة مرتبطة بوسائل الإعلام الجديدة وتقنيات الاتصال التي تشبع حياتنا، وكان من الضروري الاعتراف بأن المجموعة الواسعة من "الخوادم والسحابات والهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية والكاميرات وكلمات المرور والأقمار الصناعية" توفر "الحرية الشخصية" والتعبير والتنقل"، لكنها أدخلت أيضاً أجهزة خبيثة للمراقبة والبارانويا في حياة المواطنين.
على الجانب الآخر، لم تكن "المشاركة" مصطلحاً شائعاً في قاموس اليمين في عام 2021، وأحب المعلقون المحافظون السخرية من "المشاركة"، ولم تكن كلمة "مشاركة" هي الكلمة التي ظهرت في تغريدات ترامب وبدلاً من ذلك، فضَّل كلمة "فعل"، التي استخدمها أكثر من 200 مرة في خطاباته. مع ذلك، أظهر الهجوم على مبنى الكابيتول قوة مناشدات ترامب لمؤيديه بالمشاركة. وتم تحديد جزء كبير من هذا النشاط من خلال الأداء الرقمي الذي أظهر ولاءهم السياسي عبر نشر تحديثات الحالة والتقاط صور سيلفي أثناء اقتحامهم رمز الدولة للديمقراطية التمثيلية.
خطاب الوصول:
خلال السنوات الثماني التي قضاها في منصبه، سجَّل أوباما ما يقرب من أربعمائة خطاب أسبوعي بتنسيق متعمد للتحدث مباشرة إلى الشعب الأمريكي، وأوضحت لوش أن إدارة أوباما كانت تعتمد على استعارات حنين لشخصية الأب في الحكومة، وهو الدور الذي تم تجسيده من خلال الخطابات الإذاعية الأسبوعية لفرانكلين روزفلت، والتي تهدف إلى تهدئة المخاوف الوطنية خلال فترة الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية.
وفقاً للكاتبة، كانت استراتيجية "الدردشة الجانبية" التي اتبعها قوية للغاية لدرجة أن أوباما كان يجلس في كثير من الأحيان بجوار المدفأة خلال خطاباته الأسبوعية. لكنه طوَّر من أساليب الماضي باستخدام تقاليد الإنترنت المعاصرة، والتي كانت أكثر ملاءمة لطبيعة القرن الحادي والعشرين حول إمكانية الوصول؛ فلم يكن هناك صحفيون أو موظفون مرئيون، وبالتالي عُرِض على المشاهد ما بدا أنه وصول مباشر إلى أفكار ومشاعر الرئيس.
أما في عهد ترامب، فكان استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة للمخاطبة المباشرة أو كأداة للوصول، حيث استمر ترامب في جهود الدبلوماسية العامة لإدارة أوباما، التي استخدمت يوتيوب وفيس بوك وتويتر لتجاوز حراس البوابة والتواصل مباشرة مع الجماهير، وانعكس ذلك على تحقيق مصالح خاصة له، وأظهر المعجبون حبهم له من خلال الوصول إلى نواديه وفنادقه وشخصيته، بل أصبح يستفيد مالياً من هذه الترتيبات لكونه مؤثراً على وسائل التواصل الاجتماعي.
ختاماً، تنتهي الكاتبة بالحديث عن الانتخابات الأمريكية 2020 والفوارق بين حملتي الرئيسين بايدن وترامب فيما يتعلق باستخدام التكنولوجيا الرقمية، وتتلخص الاختلافات الرئيسية في حجم المتابعين ومدى عمق المشاركة، إذ تفاخر دونالد ترامب بوجود أكثر من 1.5 مليون متابع على سناب شات، وهو رقم تضاعف ثلاث مرات خلال حملته الانتخابية لعام 2020، في حين أن حملة بايدن لم تذكر سوى القليل عن عدد المتابعين الأكثر تواضعاً. ولكن ترامب وجد محتواه يتعرض للهجوم من قبل المشرفين على المواقع ومصممي المنصات تحت دعوى حظر بعض المعلومات المضللة والكراهية المؤثرة على منصاتهم، ويمكن القول إن شركات وادي السيليكون بدأت هذه الخطوات بهدف الحفاظ على المنصات.
على جانب آخر، اعتبرت الكاتبة أن اختيار بايدن لكامالا هاريس كنائبة له أمراً مهماً لهذا السبب، لأنها جلبت أسلوباً مختلفاً في الحملة الانتخابية متعلق بكثافة الحضور على وسائل التواصل الاجتماعي وصلاتها القوية مع شركات وادي السيليكون، ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، "يشعر منتقدو صناعة التكنولوجيا بالقلق من أن إدارة بايدن مع هاريس ستعني العودة إلى العلاقة الوطيدة التي تمتع بها وادي السيليكون مع البيت الأبيض في عهد أوباما".
المصدر:
Elizabeth Losh, Selfie Democracy: The New Digital Politics of Disruption and Insurrection, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, London, England, 2022.