تداولت وسائل الإعلام الإسرائيلية في الأيام الماضية تقارير حول صفقة سياسية مُحتملة يتم الاتفاق عليها حالياً بين رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، والمدعي العام الإسرائيلي؛ بموجبها سيتم إسقاط تهم الاحتيال وخيانة الأمانة عن نتنياهو، والحكم عليه بالخدمة العامة لدى المجتمع لعدة أشهر، وذلك في مقابل إبعاده عن الحياة السياسية لمدة 7 سنوات على الأقل، وهو ما يُنهي مستقبله السياسي من ناحية، ولكنه في الوقت ذاته ربما يهدد استقرار الحكومة الائتلافية الحالية بقيادة نفتالي بينيت ويائير لابيد من ناحية أخرى، خاصة في ظل احتمال تشكيل تحالف يميني جديد بالتعاون مع حزب الليكود بعد إبعاد نتنياهو.
كواليس الصفقة:
يُتهم نتنياهو في 3 قضايا منفصلة؛ أولاها القضية (1000)، حيث وُجهت إليه تهمة الاحتيال وخيانة الأمانة بسبب تلقيه هدايا من رجال أعمال في الخارج. وثانيها القضية (2000) ويُتهم فيها أيضاً بالاحتيال وخيانة الأمانة والسعي للحصول على تغطية مواتية في إحدى الصحف الكبرى في إسرائيل مقابل تقييد تداول أحد المنافسين الرئيسيين للصحيفة.
أما القضية الثالثة فهي القضية (4000)، وهي الأخطر، إذ يُتهم فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة بزعم تقديم مزايا تنظيمية تعادل أكثر من 250 مليون دولار لصديقه شاؤول إلوفيتش، في مقابل ضمان تغطية إيجابية في موقع "واللا" الإخباري الذي كان يمتلكه إلوفيتش.
وتقضي الصفقة المحتملة، المعروفة إعلامياً حالياً باسم "الإقرار بالذنب"، بأن يعترف نتنياهو بتهمتي الاحتيال وخيانة الأمانة في القضيتين (1000 و4000)، وألا يُتهم بالرشوة في القضية (4000)، وإسقاط الاتهامات في القضية (2000)، وأن يستقيل من الكنيست، وأن تقتصر العقوبة على غرامة وبضعة أشهر في خدمة المجتمع، تتراوح بين 3 و6 أشهر.
وعلى الرغم من ذلك، تتمثل النقطة الشائكة المتبقية في إصرار المدعي العام، أفيحاي ماندلبليت، على إصدار الادعاء حكماً يقضي بأن خطأ نتنياهو يرقى إلى مستوى "الفساد الأخلاقي" والذي بموجبه سيتم إبعاد نتنياهو عن الحياة السياسية لنحو 7 سنوات على الأقل وفقاً للقانون الإسرائيلي، وهو ما يرفضه نتنياهو ومحاموه حتى الآن. بالإضافة إلى ذلك، فإنه حتى إذا اختار المدعي العام عدم إدراج تهمة الفساد الأخلاقي، فلا يزال بإمكان قاضي لجنة الانتخابات المستقبلية أن يقرر إدانة نتنياهو والحكم عليه بمنعه من ممارسة السياسة لفترة السبع سنوات نفسها.
وليس من شك أن هذه الصفقة تمثل فرصة أمام نتنياهو للخروج الآمن من المحاكمات الجارية ضده في التوقيت الحالي، خاصة قبيل انتهاء فترة المدعي العام الحالي، أفيخاي ماندلبليت، في 31 يناير 2022، وتعيين مدعي عام جديد من قِبَل حكومة "بينيت- لابيد" في بداية فبراير المقبل، والذي من المرجح أن يكون أقل قبولاً ودعماً لصفقة "الإقرار بالذنب".
ردود الفعل:
بشكل عام، لم تعلن التيارات والأحزاب السياسية في إسرائيل موقفاً رسمياً تجاه صفقة "الإقرار بالذنب" لنتنياهو، لكن الأرجح أن هذه الأحزاب تسعى في الوقت الحالي إلى إعادة ترتيب أوراقها من جديد في حال إتمام الصفقة وخروج نتنياهو من الحياة السياسية، وما لذلك من تداعيات على الأوضاع السياسية برمتها في إسرائيل.
ومن جانبه، رفض رئيس الوزراء الحالي، نفتالي بينيت، فكرة أن ائتلافه الحاكم في خطر بسبب هذه الصفقة المُحتملة، مؤكداً خلال اجتماع مجلس الوزراء يوم 16 يناير 2022 أن "الحكومة تعمل وستواصل العمل بهدوء وفاعلية، يوماً بعد يوم، من أجل مواطني إسرائيل". فيما أعلن بعض الوزراء في الحكومة الإسرائيلية رفضهم التوصل لصفقة تنهي محاكمة نتنياهو؛ ومن أبرزهم نيتسان هوروفيتس، وزير الصحة الإسرائيلي ورئيس حزب ميرتس اليساري، ونحمان شاي، وزير الشتات من حزب العمل الوسطي، حيث قال الوزيران إن "هناك المزيد من الأدلة والقرائن التي تُجرم نتنياهو، ويجب استنفاد المسار القضائي الذي كلف الدولة حتى الآن عشرات ملايين الشيكلات".
على الجانب الآخر، يبدو أن حزب الليكود يستعد لمرحلة ما بعد نتنياهو بشكل عملي، خاصة مع تصاعد الصراع الداخلي على رئاسة الحزب في ظل تقدم عدد من المرشحين حتى الآن، وأبرزهم نير بركات، ويسرائيل كاتز. كما أعلن القطب البارز في الليكود، تساحي هنغبي، في 17 يناير 2022، ترشحه خلفاً لنتنياهو في رئاسة الحزب.
ويبدو أيضاً أن قطاعاً كبيراً في الشارع الإسرائيلي يرفض عقد أي صفقة مع نتنياهو، تضمن خروجه الآمن دون استكمال المحاكمة، وهو ما انعكس بوضوح في أمرين خلال الأيام الماضية؛ الأول هو احتجاج مئات المتظاهرين خارج منزل المدعي العام، ماندلبليت، للتعبير عن رفضهم للصفقة، وتأكيدهم أن أي شيء أقل من محاكمة كاملة وعقوبة تحمل في طياتها صفة "الفساد الأخلاقي" يعتبر فشلاً من القضاء الإسرائيلي والمدعي العام. أما الأمر الثاني فيرتبط بما أظهره استطلاع للرأي نشرته "القناة 13" الإسرائيلية يوم 16 يناير 2022، حيث كشف أن 29% فقط يؤيدون صفقة "الإقرار بالذنب"، مقابل 46% يعارضون هذه الصفقة.
سيناريوهات مُحتملة:
لن يقتصر تأثير الغياب السياسي لنتنياهو على حزب الليكود فحسب، بل إنه ربما يمتد أيضاً إلى الائتلاف الحكومي الحالي بقيادة "بينيت - لابيد". وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى أبرز السيناريوهات المتوقعة لصفقة "الإقرار بالذنب" وتداعياتها المحتملة، وذلك على النحو التالي:
1- تعقُّد المفاوضات الجارية وفشلها في التوصل لصفقة قضائية قبل نهاية شهر يناير 2021 في عهد المدعي العام، أفيخاي ماندلبليت: سيعني هذا السيناريو بقاء المشهد السياسي في إسرائيل على حاله تقريباً، مع استمرار عمل نتنياهو باعتباره القوة الأساسية التي تقود المعارضة ضد الحكومة الحالية، كما أنه سيظل الرئيس الأوفر حظاً لحزب الليكود في الانتخابات التمهيدية المقبلة.
وفي الوقت ذاته، فإن نتنياهو قد يسارع للتأكيد على أنه لم يوقع على الصفقة بداعي أنه يؤمن ببراءته الكاملة، وهو ما يعد استمراراً للنهج الذي بدأه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ضد الجهاز القضائي واتهامه المستمر للأخير بالتحيز ضده، ووصفه لمحاكمته بأنها "مطاردة ساحرات". كما قد يستغل نتنياهو مسألة الصفقة برمتها لإثبات أن المدعي العام يفتقر إلى الأدلة الكافية لإدانته بالتهم الموجهة إليه، لذلك لجؤوا لعقد صفقة معه، بما قد يُكسبه نقاطاً لدى أنصاره الداعمين لبراءته.
2- توقيع نتنياهو على الصفقة، والانسحاب من الحياة السياسية: سيُحدث هذا السيناريو، حال حدوثه، زلزالاً داخل إسرائيل، وربما اضطراباً لحكومة "بينيت - لابيد". إذ يُرجح هنا أن يتم انتخاب زعيم جديد لحزب الليكود والذي سيعمل على استقطاب الأحزاب اليمينية في الائتلاف الحكومي الحالي، خاصة في ظل الخلافات الأيديولوجية البارزة مؤخراً بين أحزاب هذا الائتلاف، وقد يتم التصويت ضد الحكومة الحالية في الكنيست، بما يؤدي إلى احتمالية إسقاطها، وبالتالي تشكيل حكومة جديدة يمينية قوية.
ويدعم هذا السيناريو وجود حوالي 65 عضواً حالياً من أعضاء الكنيست يتبعون الأحزاب اليمينية، ويمكن دعمهم أكثر من قِبل أحزاب أخرى مثل "إسرائيل بيتنا، وأزرق أبيض"، وربما حتى من حزب "يش عتيد"، لتشكيل ائتلاف واسع على حساب الائتلاف الحالي.
ومع ذلك، فإن أي مناورة للتصويت ضد الائتلاف الحاكم الحالي وتشكيل تحالف جديد، من المرجح أن تنتظر حتى يختار الليكود زعيماً جديداً له، وهي عملية قد تستغرق من 4 إلى 6 أشهر على الأقل. من ناحية أخرى، قد يكون رئيس الوزراء، بينيت، هو أكثر المتضررين من حدوث هذا السيناريو؛ لكونه قد يفقد مقعده في حالة غياب نتنياهو عن الساحة السياسية.
3- عدم القدرة على تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، والتوجه إلى انتخابات عامة: مع الخروج المُحتمل لنتنياهو من المشهد السياسي، وافتراض إسقاط حكومة "بينيت - لابيد"؛ قد يواجه المُشرعون في الكنيست صعوبة في التوصل لاتفاق بشأن تشكيل حكومة جديدة، بما سيدفع إلى إجراء انتخابات تشريعية جديدة. وفي حين سيمثل هذا الأمر كارثة بالنسبة لبينيت وحزبه يمينا، وكذلك الأحزاب العربية في الكنيست مثل القائمة العربية الموحدة؛ فإنه قد يمثل قراراً جيداً بالنسبة للأحزاب اليسارية والوسطية في الائتلاف الحكومي، لكونها ستكون انتخابات من دون نتنياهو لأول مرة منذ أكثر من عقد، بما سيتيح لها فرصة حقيقية للمنافسة بشكل أكبر أمام أحزاب اليمين.
4- توقيع نتنياهو على الصفقة من دون اتهامه بالفساد الأخلاقي: هذا السيناريو يعني استمرار نتنياهو لاعباً مؤثراً في الساحة السياسية، وهو ما سيدفعه للتركيز على إسقاط الحكومة الحالية بشكل أكبر، على أمل العودة إلى رئاسة الوزراء. كما أنه يعني أيضاً تضاؤل فرص ظهور قيادات جديدة لرئاسة حزب الليكود خلال السنوات المقبلة.
5- خروج نتنياهو من الحياة السياسية بموجب الصفقة، لكن من دون الإضرار بالائتلاف الحكومي الحالي: وفقاً لهذا الاحتمال، ستواصل حكومة "بينيت - لابيد" مسارها الحالي، على أن يختتم بينيت فترة ولايته كرئيس للوزراء، فيما سيحل لابيد محله في هذا المنصب كما خُطط له وفقاً لوثيقة الائتلاف. ويظل تحقيق هذا السيناريو مرهوناً بقدرة الائتلاف الحكومي الحالي على تجاوز القضايا الخلافية بين أحزابه، والتي تظهر من وقت لآخر، فضلاً عن تجنب تهديد بعض الأحزاب، مثل القائمة العربية الموحدة وغيرها بالخروج من الائتلاف إذا لم تتم الاستجابة لمطالبهم.
ختاماً، تبقى كل تلك السيناريوهات مفتوحة في ظل اضطراب المشهد السياسي داخل إسرائيل، وأن يظل السيناريو الذي يقضي بموافقة نتنياهو على صفقة "الإقرار بالذنب" والخروج من الحياة السياسية لعدة سنوات هو الأرجح، حيث يدرك نتنياهو جيداً أن استمرار محاكمته قد تُفضي إلى سجنه في النهاية وانتهاء عمله السياسي، ومن ثم فإن الصفقة الحالية هي بمنزلة خروج آمن له.