أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

وضع معقد:

ضغوط مالية كبيرة على الاقتصاد التركي

02 يونيو، 2020


شهدت الأوضاع الاقتصادية في تركيا صعوبات كبيرة خلال الفترة الماضية، وإذا كان جزء من تلك الصعوبات يعود إلى الأزمة الاقتصادية التي يعيشها العالم ككل، في ظل التبعات الاقتصادية الناتجة للقرارات الاحترازية المتخذة من أجل التصدي لفيروس "كورونا" على المستوى الدولي، من خلال إغلاق الكثير من الأنشطة الاقتصادية، لكن هناك خصوصية للحالة التركية، لاسيما في ظل الأوضاع المالية التي تمر بها البلاد، وفي ظل التراجع الذي شهدته الليرة على مدار الفترة الأخيرة، وهى العوامل التي تسببت في فرض ضغوط تضخمية كبيرة في الأسواق المحلية، ودفعت إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج في العديد من الأنشطة الاقتصادية في الدولة، كما أنها تفاقم من هشاشة الوضع المالي للحكومة والشركات التركية، في وقت ترتفع فيه ديونها.

ومن أجل تلافي هذ الصعوبات، فقد سعت تركيا إلى الحصول على دعم خارجي، ولاسيما من الدول القريبة منها، ومن بينها قطر، كما أنها لجأت إلى دول أخرى، كالصين، وقد لاقت مساعيها بعض الاستجابة، لكنها لم تكن استجابة كبيرة، بشكل يطرح تساؤلات حول مدى نجاحها في التغلب على مشكلاتها الاقتصادية والمالية في الوقت الحالي.

مظاهر الأزمة:

هناك مظاهر عديدة للأزمة المالية التي تعيشها تركيا في الوقت الراهن، أهمها التراجع غير المسبوق في قيمة عملتها، الذي استمر منذ أغسطس 2019، حتى بدايات شهر مايو 2020، الأمر الذي أدى إلى تراجع سعر صرفها مقابل الدولار من 0.18 دولار لكل ليرة، في أغسطس 2019، إلى 0.14 دولار لكل ليرة في 5 مايو 2020، لتفقد بذلك نحو 22% من قيمتها؛ والأمر الأكثر أهمية، والأكثر إبرازاً للأزمة التي تعيشها الليرة، هو أن وتيرة تراجعها تزايدت بشكل ملحوظ منذ مطلع شهر مارس 2020 حتى بداية مايو من العام نفسه.

وبجانب تراجع قيمة الليرة، تواجه تركيا أزمة مالية أخرى، تتعلق بتراجع احتياطياتها من النقد الأجنبي، وإن كانت هذه الأزمة ترتبط بشكل أو بآخر بأزمة الليرة، حيث تقوم الحكومة بضخ النقد الأجنبي في الدورة الاقتصادية بالبلاد لدعم قيمة الليرة، لكن هذه الأزمة لها طابعها الخاص أيضاً، لاسيما أنها ترتبط كذلك بقدرة الدولة على تأمين التمويل اللازم لأنشطة الاستيراد، ناهيك عن تأمين النقد الأجنبي اللازم لتمويل خدمة الدين الخارجي للبلاد، سواءً الحكومي أو ديون الشركات. وفي هذا الإطار، تراجعت احتياطيات تركيا من النقد الأجنبي بمقدار 57 مليار دولار منذ أغسطس 2019 حتى إبريل 2020، وهو ما يمثل نحو 39% من إجمالي الاحتياطيات، التي تراجعت بدورها إلى 89.6 مليار دولار في نهاية إبريل.

هناك مظهر ثالث للأزمة المالية التركية، يرتبط بتضخم مديونيتها الخارجية، التي تبلغ نحو 448 مليار دولار حالياً، ما بين ديون حكومية وديون شركات، ومن ضمن هذه الديون هناك نحو 124 مليار دولار ديون قصيرة الأجل، يجب سدادها خلال الشهور الإثنى عشر المقبلة، ما يضع الحكومة والاقتصاد بشكل عام أمام أزمة خطيرة.

تدهور قطاع الصناعة:

يعاني قطاع الصناعة التحويلية التركي صعوبات كبيرة بدوره، وإن كان جزء من هذه الصعوبات مرتبطاً بالبيئة الاقتصادية العالمية الناتجة عن فيروس "كورونا" وتداعيات الإغلاق الاقتصادي شبه الكلي في العديد من الدول، لكن هناك أسباباً محلية لتلك الصعوبات أيضاً. وفي هذا الإطار، فقد أظهر مسح لمؤسسة "آي.إتش.إس ماركت" أن مؤشر مديري المشتريات بقطاع الصناعة التحويلية في تركيا انكمش بشكل كبير في مايو الماضي؛ فبرغم ارتفاع قيمة هذا المؤشر إلى 40.9 نقطة في مايو، مقارنة بنحو 33.4 نقطة في إبريل، إلا أنه ظل دون مستوى الخمسين نقطة، وهو المستوى الذي يفصل بين النمو والانكماش. ويعني بقاء المؤشر عند هذا المستوى أن ناتج القطاع يشهد انكماشاً بنحو 10%، كما يعاني القطاع مظاهر تأزم أخرى، تتمثل في إقبال الشركات على خفض الوظائف، استجابة للتراجع الكبير الذي تشهده طلبيات التوريد الجديدة.

بجانب ذلك، فإن معاناة قطاع الصناعة في تركيا لها أسباب أخرى ترتبط بالأوضاع المحلية، حيث تشير البيانات إلى أن تكلفة مستلزمات الإنتاج الصناعي للشركات سجلت ارتفاعاً كبيراً خلال الفترة الماضية، بسبب التراجع في قيمة الليرة، الذي أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الوسيطة. ولا يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تحسناً يذكر في هذا الإطار، لاسيما أن قيمة الليرة برغم ارتفاعها خلال الأسابيع الماضية، من المتوقع أن تظل قريبة من مستوياتها المنخفضة، الأمر الذي يُبقي تكلفة القطاع الصناعي على ارتفاعها.

خيارات محدودة:

في ظل هذه الصعوبات المالية، التي بدأت تمس الأنشطة اليومية في الاقتصاد التركي، فإن الخيارات المتاحة أمام الحكومة تظل محدودة للغاية، لاسيما في ظل جائحة "كورونا"، التي تحرمها من معظم إيرادات التصدير وجميع إيرادات السياحة الخارجية. لذلك سعت الحكومة خلال الفترة الماضية لتدبير النقد الأجنبي بأسرع وقت ممكن، وقد أجرى مسئولو وزارة الخزانة والمالية والبنك المركزي في تركيا محادثات مع نظرائهم في اليابان وبريطانيا والولايات المتحدة بشأن إنشاء "خطوط مبادلة عملات"، ومع قطر والصين بشأن زيادة حجم خطوط مبادلة مماثلة قائمة.

وتسعى تركيا من خلال الاتفاقيات المستهدفة مع تلك الدول إلى الحصول على المزيد من العملات الأجنبية، عبر آلية تبادل العملات، والتي تقضي بقيام الدول الأطراف بإيداع عملاتها المحلية في بنوكها المركزية بالتبادل. وبذلك تحصل تركيا على أرصدة جديدة لدى بنكها المركزي من عملات الدول المستهدفة، مقابل قيامها بإيداع الليرة في بنوك تلك الدول؛ ومن شأن ذلك أن يدعم سعر صرف الليرة.

وبرغم الطموحات التركية الكبيرة في هذا الإطار، فإن مساعيها لم تجد ردوداً إيجابية سوى من قطر، التي رفعت قيمة برنامج مبادلة العملة مع تركيا من 5 مليار دولار ضمن الاتفاق الذي كان قائماً بين الدولتين، إلى 15 مليار دولار، لكن لم تعلن أى دولة أخرى من الدول المستهدفة أى اتفاق مع تركيا، وهو ما يضع الاقتصاد أمام تحدٍ خطير، لاسيما مع اقتراب موعد استحقاق الديون قصيرة الأجل.

وفي الختام، لابد من الإشارة إلى أن نجاح مساعي تركيا للتغلب على الأزمة لا يرتبط فقط بما يمكن أن تحصل عليه من نقد أجنبي من الدول المتحالفة معها، لكن يعتمد ذلك أيضاً على انتهاء أزمة "كورونا"، وعلى قدرة الاقتصاد على الحصول على الإيرادات الخارجية نفسها من خلال أنشطة التصدير والأنشطة السياحية كما كان ذلك متحققاً في الظروف الطبيعية، وهو أمر قد يحتاج إلى وقت طويل.