أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تقارب رمزي:

ماذا يعني استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السودان وإيران؟

19 أكتوبر، 2023


اتجهت حالة الاستقطاب في الشرق الأوسط للتراجع النسبي منذ انعقاد اللقاء الذي استضافته العاصمة الصينية بكين في مارس 2023 بين وزير الدولة مستشار الأمن الوطني في السعودية، مساعد العيبان، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، وما تلاه من خطوات متسارعة على ذات المسار. ومع تكرار مظاهر انفتاح إيران على عدد من الأطراف الإقليمية التي جمعتها بها علاقات متوترة أو مُعطلة، التقى وزير الخارجية السوداني، علي الصادق، نظيره الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، في اجتماع ثنائي عُقد على هامش قمة دول عدم الانحياز التي استضافتها باكو عاصمة أذربيجان في يوليو الماضي، وشهد الإعلان عن بدء الدولتين في بحث آليات استئناف العلاقات الدبلوماسية، وهو ما تم فعلياً في 9 أكتوبر الجاري بإعلان وزارة الخارجية السودانية استئناف العلاقات الدبلوماسية مع طهران بعد إجراء عدد من الاتصالات رفيعة المستوى من أجل تعزيز المصالح المشتركة. 

وتحمل هذه الخطوة العديد من الدلالات التي يتصل بعضها بالمسار المُمتد للعلاقات الثنائية بين السودان وإيران، بينما يتصل بعضها الآخر بالمتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية التي أحاطت بالإعلان الأخير عن عودة العلاقات الدبلوماسية.

علاقات غير مستقرة:

لا يُعد التقارب السوداني الإيراني الأخير سابقة في تاريخ العلاقات بين البلدين، فقد شهدت العلاقات الثنائية موجات متعاقبة من المد والجزر منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. ففي البداية، شاركت السودان تحت حكم جعفر نميري، كغيرها من الدول العربية، في دعم العراق عسكرياً خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية. لكن بعد انتخابات عام 1986 التي أسفرت عن عودة الحكم المدني في السودان، اتجه رئيس الوزراء آنذاك، الصادق المهدي، للتقارب مع إيران عبر إجراءات متعددة تضمنت زيارته العاصمة طهران. وعلى الرغم من أن السنوات الأولى لنظام الإنقاذ في السودان لم تشهد استئنافاً لمسار التقارب مع إيران، فإنه بمرور الوقت بدأت العديد من المؤشرات في الظهور على السطح لتؤكد سعي الجانبين لبناء علاقات قوية لم تقتصر فقط على تبادل العلاقات الدبلوماسية، وإنما امتدت لتشمل ترتيبات أمنية وعسكرية خاصة في فترة التمدد الإيراني بمنطقة الساحل الغربي للبحر الأحمر. 

بيد أنه مع تغير المشهد الإقليمي، اتجهت السودان في عام 2016 لإعلان قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران على إثر واقعة الاعتداء على السفارة السعودية في طهران. وكما أسهمت المتغيرات الإقليمية في تعقيد مسار العلاقات السودانية الإيرانية منذ سبع سنوات، أسهمت بدورها في التقارب الأخير الذي أدى إلى إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين بعد تراجع لافت في مستوى الاستقطاب بالمنطقة خلال الأشهر الأخيرة. 

وهذا المسار المتذبذب للعلاقات السودانية الإيرانية الذي تراوح أكثر من مرة بين القطيعة التامة والتكامل المتسارع، يعكس حقيقة غياب الركائز الجوهرية الضامنة لاستمرار العلاقات الإيجابية وتطورها إلى علاقة مُستدامة لتبادل المنافع. إذ تواجه السياسة الخارجية للبلدين عوائق عديدة، على رأسها تباين الأولويات الإقليمية، ففي الوقت الذي تشكل فيه منطقة الخليج والمشرق العربي مجالاً أساسياً لنشاط السياسة الخارجية الإيرانية، تهتم السودان في المقام الأول بحكم الموقع الجغرافي بمنطقة البحر الأحمر وامتداده الجنوبي في القرن الإفريقي، فضلاً عن جوارها الشمالي والغربي المُتصل بدائرة الصحراء الكبرى والساحل الإفريقي. وفي ظل محدودية التأثير السوداني في التوازنات القائمة بمنطقة الخليج، يظل التقارب والتباعد بين الخرطوم وطهران مرتهناً بالحسابات الوقتية للأخيرة بشأن تكثيف الانخراط في دائرة البحر الأحمر. 

كذلك، لم تسفر فترة التقارب بين البلدين في ذروتها خلال حكم الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، عن تحقيق أي منهما لمكاسب سياسية استثنائية بشأن القضايا ذات الأولوية، في ظل غياب تأثير إيران في قضية وحدة السودان قبل انفصال الجنوب بموجب اتفاق السلام الشامل المُوقع في عام 2005، وهو ما قُوبل بمحدودية تأثير السودان بفاعلية في تمكين إيران من تخفيف وطأة العزلة الدولية المفروضة عليها.

سياقات التقارب:

فرضت مُستجدات الأوضاع السودانية نفسها على مشهد التقارب السوداني الإيراني الأخير، بما حملته من تحديات مُلحة وضعت سقفاً منخفضاً لما يمكن توقعه من خطوة إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين. إذ تتعدد القيود التي تطرحها الأوضاع الداخلية السودانية بين استمرار التفاعلات الصراعية بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم وولايات إقليم دارفور على وجه الخصوص، وبين تعدد الجهود الدولية الرامية لتحقيق تسوية سريعة للصراع الداخلي في السودان بين آلية دول الجوار التي أُطلقت في القاهرة في يوليو 2023، والمفاوضات الثنائية التي تستضيفها مدينة جدة السعودية بدعم أمريكي، والتي يُنتظر ألا تسفر فقط عن توافق بشأن ترتيبات وقف إطلاق النار وحسم القضايا ذات الطبيعة العسكرية، وإنما يتصور أيضاً ضرورة أن تتسع لتشمل استئناف المسار السياسي والمُضي قُدماً في إجراءات تشكيل حكومة جديدة انتقالية بقيادة مدنية ستقوم بطبيعة الحال بمراجعة شاملة لمختلف ملفات السياسة الخارجية في ظل الواقع الجديد.

إضافة إلى ذلك، يأتي التقارب السوداني الإيراني مُوازياً لانفتاح العديد من الأطراف السودانية على الخارج من أجل إيجاد مداخل جديدة لتسوية الصراع الذي استمر لنحو ستة أشهر حتى الآن. فمنذ نهاية أغسطس الماضي، قام الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، بأولى جولاته الخارجية منذ نشوب الصراع الحالي، والتي شملت كلاً من مصر وجنوب السودان وقطر وتركيا. كذلك سبق لقوى الحرية والتغيير، باعتبارها المظلة الأوسع للقوى الحزبية والمدنية في السودان، إطلاق جولة خارجية في يوليو الماضي، شملت مصر وجنوب السودان وتشاد والسعودية وإثيوبيا وأوغندا، قبل إطلاق جولة تالية في نهاية أغسطس شملت كلاً من قطر والكويت وجنوب السودان. 

وبهذا المنطق، يصعب تفسير القرار السوداني بعودة العلاقات مع إيران بمعزل عن النشاط الخارجي المُكثف لمختلف الأطراف السودانية الأكثر تأثيراً، ما يُقلل من فرص كون التقارب الأخير مؤشراً حاسماً على اصطفاف سوداني حاسم بجانب إيران، وما يمكن أن يحمله من تداعيات مُمتدة ذات تأثيرات استراتيجية في المستوى الإقليمي.

تحديات إقليمية:

جاء توقيت إعلان عودة العلاقات السودانية الإيرانية، في 9 أكتوبر الجاري، ليقلل كثيراً من أهمية هذه الخطوة ويقصرها على الجانب الرمزي في المقام الأول. فعلى المستوى الإقليمي، واكب الإعلان تصعيداً غير مسبوق للتوترات الأمنية في قطاع غزة ومحيطه، على نحو استدعى درجة استثنائية من الاهتمام والانخراط من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بتجنب تحول المواجهة الجارية لصراع إقليمي واسع النطاق، فضلاً عن بداية توجيه مسار الضغوط الدولية المُكثفة نحو إيران لضمان عدم تبنيها سياسة تصعيدية تحول المواجهات الجارية إلى حرب إقليمية واسعة النطاق. 

وفي المقابل، عادت بيئة التوتر مجدداً لتفرض نفسها في غرب البحر الأحمر، بما يزيد من حساسية دول المنطقة من أي استدعاء لفاعلين جدد لهم خبرة التأثير في معادلة الأمن الإقليمي في منطقة البحر الأحمر، مثل إيران. فقد تواترت المؤشرات على تصدع التحالف الإثيوبي الإريتري منذ توقيع اتفاق السلام في بريتوريا بين الحكومة الإثيوبية الفدرالية وجبهة تحرير تيغراي في نوفمبر 2022، وما تلاه من احتدام المواجهات بين الحكومة الفدرالية والتيارات القومية الأمهرية. وامتدت تأثيرات هذا التحول في موقف الحكومة الفدرالية الإثيوبية إلى المجال الخارجي، بعد أن ثارت مجدداً الشكوك الإريترية بشأن مستقبل القضايا العالقة وعلى رأسها المناطق الحدودية المُتنازع عليها بين إريتريا وإقليم تيغراي، وما زاد من حدتها التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، التي جدد فيها الحديث بشأن أحقية بلاده في الولوج إلى البحر الأحمر، والتي حملت إشارات لافتة بشأن آفاق تصعيد التوترات بين إثيوبيا وإريتريا مستقبلاً. 

أولوية اقتصادية:

تحيط بفرص انتقال التقارب السوداني الإيراني إلى المجال الأمني والعسكري العديد من الشكوك، وعلى رأسها درجة الاستنفار الأمريكي الكبير في منطقة البحر الأحمر، والذي سبق وأن قطع الطريق على جهود روسية متراكمة للحصول على موطئ قدم على السواحل السودانية. ويلفت هذا الوضع الانتباه للطبيعة المغايرة لموجة التقارب الجديدة بين السودان وإيران مقارنةً بموجة التقارب التي سبقت القطيعة بينهما في عام 2016. 

فعلى الرغم من محدودية فرص تنامي التعاون العسكري، والقيود العديدة التي قد تعترض تعزيز التقارب السياسي بين الخرطوم وطهران، يمكن توقع تسارع العلاقات بين الجانبين خلال الفترة المقبلة في الشأن الاقتصادي على وجه الخصوص، حيث تبدو حاجة البلدين كبيرة لتبادل المنافع الاقتصادية، في ظل ما يعاينه الاقتصاد الإيراني من تداعيات العقوبات الدولية المُمتدة، والتي تخوض طهران مسارات تفاوضية مُعقدة لتخفيف حدتها، وفي ظل التردي المُطرد للأوضاع الاقتصادية السودانية منذ عام 2019، فضلاً عن دخول البلاد بدورها في دائرة العقوبات الاقتصادية الدولية منذ قرارات البرهان في أكتوبر 2021، والتداعيات السلبية الكبيرة للصراع الداخلي الدائر على الأرض منذ إبريل 2023. 

كما تأتي بعض المتغيرات الدولية والإقليمية لتقدم فرصاً لتعزيز التعاون الاقتصادي بين السودان وإيران، وعلى رأسها طبيعة الشركاء التجاريين والتنمويين للبلدين، حيث تبرز الصين كشريك تجاري أول لكل منهما، فضلاً عن الاتجاه التصاعدي للعلاقات الاقتصادية مع روسيا. كذلك، جاءت الخطوة الأخيرة لتوسيع عضوية تجمع "بريكس" لتحمل آثاراً إيجابية إضافية مُحتملة. فبالتوازي مع انضمام إيران لعضوية هذا التجمع، انضمت كذلك دولتا جوار السودان؛ مصر وإثيوبيا، فضلاً عن الإمارات والسعودية وهما من الشركاء الاقتصاديين الرئيسيين بالنسبة للخرطوم، الأمر الذي يصب في المحصلة في صالح توفير إطار متعدد الأطراف يعزز فرص تنامي التعاون الاقتصادي بين السودان وإيران في المستقبل القريب.

إجمالاً، شكل التقارب السوداني الإيراني مؤخراً حلقة جديدة في حلقات التقارب والتباعد المُستمرة في العلاقات بين البلدين، في ظل غلبة لتأثير المُحددات الإقليمية في العلاقات بينهما. وقد تكون العديد من الاعتبارات المُتصلة بالحسابات الآنية للخرطوم وطهران هي ما ساعد على إتمام الخطوة الرمزية بعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما، في ظل الضغوط الخارجية الكبيرة التي تتعرض لها الدولتان في الوقت الحالي. وعلى هذا الأساس، لا تبدو الخطوة الأخيرة قادرة على أن تشكل نقطة تحول استراتيجية في مسار العلاقات الثنائية بين السودان وإيران وما قد يرتبط بذلك من تداعيات على المستوى الإقليمي الأوسع، بقدر ما تعكس توافقاً آنياً للمصالح يحمل قيمة رمزية مهمة للجانبين، ويمكن أن يوفر قاعدة لتطوير العلاقات في المستقبل إذا استمرت الحاجة لذلك، لكن بشرط بذل الجانبين جهداً كبيراً وتحملهما تكلفة مرتفعة.