أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

المصري اليوم:

د. على الدين هلال يكتب: لماذا زار كيسنجر الصين؟

05 أغسطس، 2023


اختلفت الآراء حول أسباب زيارة هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى ومستشار الأمن القومى الأسبق فى عهد الرئيس الأسبق نيكسون، للصين فى شهر يوليو 2023، وكذلك حول الأسباب التى سعى لتحقيقها من ورائها، وعما إذا كان قد سافر للصين كمواطن أمريكى للقاء أصدقائه القدامى فى الحكومة الصينية والذين حافظ على علاقاته بهم منذ أول زيارة له لبكين عام 1971، أم أنه سافر كمبعوث غير رسمى من إدارة الرئيس جو بايدن لتخفيف حدة التوتر فى العلاقات بين البلدين والبحث عن طرق لتعزيز المصالح المُشتركة؟.

وأيًا كان الأمر، فإن زيارة كيسنجر، الذى بلغ عامه المائة، كانت محل جدل ونقاش واسعين. فهو ليس مجرد وزير خارجية أسبق، بل هو عميد الدبلوماسية الأمريكية بلا منازع وله مكانة خاصة فى إعادة رسم الاستراتيجية الأمريكية تجاه الصين. فقد قام بتغيير الموقف الأمريكى تجاه بكين بأكمله، وبعد أكثر من عقدين من إنكار الوجود السياسى لهذه الدولة الكبيرة، تم الاعتراف بالصين الشعبية وتأييد حقها فى شغل مقعد الصين فى الأمم المتحدة فى سبعينيات القرن الماضى.

واقعية كيسنجر:

انطلاقًا من تفكيره الواقعى وتقديره للمصالح والأخطار، رأى كيسنجر أن إقامة العلاقات مع الصين تُحقق المصالح الأمريكية. وعلى مدى سنوات طويلة، زار كيسنجر الصين أكثر من 100 مرة، وعبّر عن اعتقاده بوجود مصالح مشتركة قوية بين البلدين وأن عليهما الوصول إلى صيغ دبلوماسية للتعايش بينهما حتى مع استمرار التنافس التجارى ووجود اختلافات فى وجهات النظر. فالولايات المتحدة والصين هما ركنا الاقتصاد العالمى ولا يمكن لإحداهما أن تزيل الأخرى أو تلغى وجودها، ولا يشارك كيسنجر الاعتقاد السائد فى بعض دوائر السياسة الأمريكية بأن النظام الصينى عدوانى أو توسعى بالضرورة، ولكن بعض مظاهر السلوك الصينى تنبع من الشعور بالخوف من تهديدات الخارج أكثر منه نزوع لتمدد النفوذ والسيطرة، وأن ما تسعى إليه بكين هو اعتراف واشنطن بها وتعاملها معها على أساس من المساواة والاحترام المتبادل، ومن ثَم ضرورة البحث عن قواعد لتنظيم المنافسة والتعايش السلمى بينهما.

ويؤكد عمق الصلة بين كيسنجر والصين، حجم الحفاوة التى حظى بها الرجل فى بكين، فالتقى عددًا من كبار المسؤولين، كان منهم وزير الدفاع، لى شانج فو، الخاضع لعقوبات أمريكية؛ بسبب دوره فى شراء صفقة سلاح من روسيا عام 2017، والذى رفضت بكين الموافقة على لقائه وزير الدفاع الأمريكى، أوستن، إلا بعد إلغاء تلك العقوبات. كما التقى كيسنجر السفير وانج يى، مدير لجنة الشؤون الخارجية باللجنة المركزية للحزب الشيوعى الصينى، والذى شغل منصب وزير الخارجية لمدة 10 سنوات ابتداءً من عام 2013، وعاد مرة أخرى لهذا المنصب فى 25 يوليو 2023 بعد أن أعلن البرلمان الصينى إقالة وزير الخارجية السابق، تشين جانج، وتعيين وانج يى بدلًا منه.

ويؤكد هذه الحفاوة أيضًا، حرص الرئيس الصينى، شى جين بينج، على استقبال كيسنجر، وأن يكون اللقاء فى أحد المبانى الرسمية المخصصة لاستقبال كبار الزوار الأجانب، ولاحظ كيسنجر أنه نفس المبنى الذى التقى فيه رئيس الوزراء الصينى الأسبق، شوين لاى، منذ نحو 52 عامًا.

واتسمت كلمات الرئيس الصينى عن كيسنجر بالدفء والحميمية، فوصفه بـ«الصديق القديم للصين»، وأنه واحد من أصحاب البصيرة السياسية فى الولايات المتحدة. وقال «إن الشعب الصينى يُقدر معنى الصداقة ولا يمكن أن ينسى مساهمته - أى كيسنجر- التاريخية فى تطوير العلاقات الصينية الأمريكية»، والتى كان من شأنها- فى تقدير الرئيس شى - تغيير العالم بأسره، وأضاف أن العلاقات الصينية الأمريكية سوف تبقى دومًا لصيقة باسم كيسنجر.

كما تحدث الرئيس الصينى، فى اجتماعه مع كيسنجر، والذى حضره وزير الخارجية الحالى، وانج يى، عن العلاقات بين بكين وواشنطن وأنها «على مُفترق طرق»، وأن على البلدين اتخاذ قرارات جديدة يمكن أن يترتب عليها إقامة علاقات مستقرة وتحقيق نجاح ورفاهية مشتركة، وأن على الولايات المتحدة أن تُراعى مبادئ الاحترام المتبادل والتعايش السلمى والتعاون المربح للجانبين. وحذر الرئيس شى من أنه لم يعد من الممكن تطويق أو احتواء الصين، ونبه القادة الأمريكيين إلى خطورة استمرارهم فى الاعتقاد بإمكانية فرض آرائهم على بكين فى الموضوعات محل الخلاف؛ مثل التجارة، والتكنولوجيا، وتايوان، وحقوق الإنسان.

ومن الواضح أن القيادة الصينية تُثمن الدور الذى قام به كيسنجر فى تأسيس العلاقات بين البلدين. ويدل على ذلك ملاحظة وزير الخارجية الحالى أن الدور الذى قام به كيسنجر «لا يوجد له مثيل»، وإشادته بحكمة كيسنجر الدبلوماسية وشجاعة نيكسون السياسية. ولا تخلو هذه الكلمات من تلميحات إلى أن إدارة بايدن الحالية تفتقد هاتين الصفتين: الحكمة والشجاعة.

وحسب بيان الخارجية الصينية، ناقش شى وكيسنجر الحرب فى أوكرانيا التى تقف فيها الصين موقفًا داعمًا لروسيا. ولم يتم الكشف عن مضمون النقاش الذى دار بين الرجلين، ولكن الأرجح أن كيسنجر سعى لدق «إسفين» بين الصين وروسيا، فهو يؤمن بالتهديد الذى تُمثله العلاقات بين البلدين على المصالح الأمريكية، ويؤكد أن عناصر الاختلاف بينهما أكبر بكثير مما يربطهما. ومن أقواله الشهيرة، «أنه لم يستمع فى حياته إلى صينى يشيد بروسيا، ولا إلى روسى يشيد بالصين». وهو قول يتضمن الكثير من المُبالغة.

وناقش بينج وكيسنجر أيضًا، آفاق التقدم فى مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى، وهو موضوع محل اهتمام من الرجلين. فالصين تقوم باستثمارات هائلة فى هذا المجال، تجعلها المنافس الأول للولايات المتحدة فيه، وكيسنجر مهتم بالموضوع وشارك فى تأليف كتاب بعنوان: «عصر الذكاء الاصطناعى ومُستقبل الجنس البشرى» صدر فى عام 2022.

أهداف مختلفة:

لم يكن كيسنجر هو أول مسؤول أمريكى كبير يزور الصين هذا العام، فقد سافر من قبله كل من جون كيرى، وزير الخارجية الأسبق والمبعوث الرئاسى لشؤون البيئة والمُناخ، وأنتونى بلينكن، وزير الخارجية، وجانيت يلين، وزيرة الخزانة. كما زارها عدد من عمالقة الاقتصاد والتكنولوجيا فى الولايات المتحدة، مثل إيلون ماسك، مالك «تويتر» و«تسلا»، وبيل جيتس، مؤسس «مايكروسوفت»، وتيم كوك، الرئيس التنفيذى لشركة «آبل». وهذا ما يُعطى الانطباع برغبة إدارة بايدن فى شرح وجهة النظر الأمريكية بشكل مباشر للقادة الصينيين، ونقل تطلعها لتحسين العلاقات بين البلدين. وفى هذا السياق، رأى البعض أنه ربما يكون أحد أهداف زيارة كيسنجر إيجاد قناة خلفية للتفاوض بين واشنطن وبكين.

وجاءت التعليقات الرسمية الأمريكية فى مُجملها مخالفة لهذا التفسير وذات طابع انتقادى لكيسنجر. فصرح الناطق باسم البيت الأبيض بأن هذه الزيارة «هى زيارة خاصة لمواطن أمريكى». واتصالًا بذلك، أشار جون كيربى، المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى، إلى أسفه أن مواطنًا أمريكيًا يستطيع أن يجرى هذه اللقاءات رفيعة المستوى، وأن يمتلك علاقات واتصالات لا تمتلكها الحكومة الأمريكية فى الصين، ثم عبّر عن تطلعه والعاملين معه إلى الاستماع لكيسنجر عما استمع إليه وعرفه وشاهده. وأكد ماثيو ميلر، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، الطابع الشخصى لهذه الزيارة، وأن كيسنجر سافر كمواطن بصفته الشخصية، وليس مبعوثًا أو ممثلًا للإدارة الأمريكية.

ومع ذلك، فإنه لا ينبغى أخذ هذه التصريحات على عواهنها، فهناك احتمال أن الخارجية الأمريكية لا ترغب فى الاعتراف بفشل المبعوثين الرسميين للحكومة، وأنها لجأت إلى كيسنجر للمساعدة فى هذا الشأن. وربما أن كيسنجر نسق زيارته مع إحدى أجهزة المخابرات الأمريكية، وفى كثير من الأحيان فإن ما تقوم به هذه الأجهزة لا تكون وزارة الخارجية على علم به قبل حدوثه. ومن أمثلة ذلك، الزيارة التى قام بها الرئيس الأسبق، باراك أوباما، إلى كوبا فى مارس 2016، والتى خططت لها وكالة المخابرات المركزية، وزيارة مدير الوكالة الأسبق، مايك بومبيو، لكل من كوريا الشمالية والجنوبية فى إبريل 2018 دون أن يصطحب معه أى ممثل لوزارة الخارجية.

وهناك بعض المعلقين الذين ركزوا على الدافع الشخصى لكيسنجر من وراء زيارته الصين، وأن هدفه الرئيسى هو التسويق لنفسه وإعادة تسليط الأضواء عليه، وأنه سوف يستغل هذه الزيارة فى القيام بعدد من المقابلات الصحفية والتليفزيونية التى سوف تحمل رسالة واحدة؛ وهى «أننى أستطيع أن أُدير السياسة الخارجية الأمريكية بشكل أفضل مما هى عليه الآن». وأشار البعض إلى أنه ربما استفاد من هذه الزيارة لإبرام عقود استشارات لصالح الشركة التى يملكها.

مسار جديد:

إجمالًا، لن يستطيع أحد فى الوقت الراهن إثبات أو نفى عما إذا كان كيسنجر قد زار الصين بصفته الشخصية أم أنها تمت بتنسيق مع أحد الأجهزة الرسمية الأمريكية؟ ولكن الأرجح، أن كيسنجر دشن مسارًا جديدًا للتفاوض بين واشنطن وبكين يقوم على المصالح المشتركة والثقة والاحترام المُتبادل.

ويبقى السؤال، هل سوف تتمكن إدارة بايدن من السير قُدمًا فى هذا المسار أم تبقى تسعى إلى احتواء الصين ومواجهتها؟ وذلك لأن الولايات المتحدة تتحدث بلسانين؛ الأول دبلوماسى يتمثل فى أنشطة المبعوثين الأمريكيين الذين ترسلهم إلى بكين، والآخر عسكرى ظهر أخيرًا فى تصريحات وزير الدفاع، أوستن، بعد مباحثاته مع نظيره الأسترالى، فى يوم 28 يوليو 2023، من أن واشنطن سوف تقف بقوة إلى جانب حلفائها ضد توسع النفوذ الصينى فى منطقة «الإندوباسيفيك». ومن قبله، تصريحات وزيرة الجيش الأمريكى، كريستين وورموث، فى حديثها أمام مؤتمر معهد «أسبن» الذى انعقد خلال الفترة 18 من 21 يوليو 2023، والذى أشارت فيه إلى ضرورة أن تستعد الولايات المتحدة لأى مواجهة عسكرية مُحتملة وأن يكون لديها القدرة على ردع الصين.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

*لينك المقال في المصري اليوم*