أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

المسار الآمن:

أدوار الوساطة المُحتملة في تهدئة الاشتباكات السودانية

17 أبريل، 2023


احتدمت أعمال العنف في السودان مع دخول جناحي المكون العسكري، الجيش بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع برئاسة محمد حمدان دقلو الشّهير بـ"حميدتي"، على خط المواجهة المباشر، وهو ما أسفر عن وقوع عشرات القتلى ومئات الجرحى في المواجهات الدامية بين الطرفين، بحسب تقرير ميداني صادر عن لجنة أطباء السودان المركزية. وفي هذا الإطار، ظهر الحديث عن الوساطة المُتعثرة حتى هذه اللحظة والدور الذي من الممكن أن تؤديه في سبيل تهدئة الأوضاع، ثم حلحلة الموقف وإمكانية الوصول لتسوية ما.

أهمية الوساطة:

تُعد الوساطة إحدى أكثر آليات التسوية السلمية للنزاعات والصراعات نجاعة وفعالية في حال لم تستطع أو لم ترغب الأطراف في الجلوس معاً إلى مائدة تفاوض، وذلك في مرحلة ما قبل الصراع (Pre-conflict) بما تحتوي عليه من تفاعلات (Dynamics) هدفها منع الصراع (Conflict Prevention) وبالتالي تفويت الفرصة أمام وقوعه من الأساس، وكذلك في أثناء الصراع ومحاولة التدخل البنّاء (Conflict Intervention) بهدف التخفيف من حدة الصراع (Conflict Mitigation). وهو نهج مُتبع لتثبيط الصراعات من خلال تطبيق مجموعة من الاستراتيجيات والأنشطة العاجلة وغير العاجلة، لمعالجة أسباب الصراع وتغيير الطريقة التي يعمل بها المتورطون فيه. وهنا فإن تثبيط الصراعات أو تهدئتها لا يعني حلها، لكن التخفيف من وطأتها وحدتها ليس أكثر.

ويتحقق ذلك عادة من خلال مساعٍ حميدة يقوم بها أشخاص ذوو مكانة مرموقة مثل المبعوثين الأمميين في مناطق الصراعات المختلفة، أو كيانات دولية لها حيثية في المجتمع الدولي ومنوط بها إحراز تقدُّم في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، ومنها في الحالة السودانية؛ اللجنة الثلاثيّة التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي إلى جانب الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد). وفي مرحلة لاحقة، وبعد تحقيق المساعي الحميدة لتقدُّم ولو طفيف على الأرض، تأتي الوساطة لتبني على ما تحقق وتمضي قُدُماً فيما بات يُعرف بـ"الدبلوماسية المكوكية" (Shuttle Diplomacy)؛ وهي أسلوب مُتبع في الوساطة، يعتمد على نفوذ الوسيط وخبرته ودأبه في السعي مع أطراف الصراع من أجل شرح ملابسات المواقف، ومُساعدتهم على التوصُّل إلى تسوية مقبولة.

آليات أخرى:

في كل الأحوال، لا يمكن لآلية الوساطة ولا المساعي الحميدة وحدها أن تكون بمعزل عن آليات تسوية سلمية أخرى، بحيث يعملون معاً من أجل إحراز تقدُّم ما، ومنها: تيسير الحوار وحث الأطراف على فتح قنوات تواصل مع بعضهم (Facilitation and Dialogue)، أو في مرحلة متقدمة نسبياً التفاوض وتباحث الأطراف حول قضية معينة وبروز مطالب (Positions) ومصالح (Interests) كل طرف، فضلاً عن احتياجاته لتحقيق ما يصبو إليه.

ومن هنا، نستطيع الوصول لإجابة عن تساؤل رئيسي مفاده: لماذا تتعثر العديد من محاولات الوساطة؟ وذلك بالنظر لما لعملية الوساطة من إجراءات يصعب عملياً توفرها في العديد من الأحيان، فهناك اعتبارات متعلقة بالوسيط نفسه، وأخرى متعلقة بمستوى الرضا لدى أطراف الصراع عن عملية الوساطة، ومن ثم الإسهام في إنجاحها، وهناك كذلك سياق يحكم عملية الوساطة يجعلها تنجح تارة وتخفق تارة أخرى بحسب مستوى التصعيد (Escalation) الذي تبدو عليه الحالة الصراعية، وبحسب مستوى التعاون الذي يُبديه الأطراف مع الفاعلين المؤثرين سلباً/ أو إيجاباً في مسار الصراع.

وسطاء محتملون:

بالنظر لتسارع الأحداث الحالية في السودان، تبقى هناك احتمالية قائمة لأداء دور وساطة من أي من الكيانات التالية:

1- الآلية الثلاثية: تضم الأمم المُتحدة والاتحاد الإفريقي والهيئة الدولية المعنية بالتنمية "إيغاد"، وتكمن مهامها الأساسية من وقت انعقادها في تيسير الحوار بين الفرقاء السودانيين، وبالتحديد فيما يخص علاقة المكون المدني بالعسكري، وضرورة أن تتم تسوية الخلافات بالحوار ومن خلال قنوات تواصل بها قدر من الاستدامة والفعالية. وهذا ما سعت لتحقيقه منذ ما يزيد عن عام من خلال المتابعة المستمرة لمُستجدات الأوضاع وتقديم الرؤى في سبيل الخروج بالسودان من عنق الزجاجة. وبالتالي تستطيع هذه الآلية، بحُكم تركيبتها، أن تؤدي دوراً فاعلاً في هذا الإطار؛ فقط هي بحاجة لوجود رؤية تتحرك بناءً عليها، بحيث تخرج من دائرة رد الفعل إلى المبادرة وحث الأطراف على تبني ما تقوم به من إجراءات.

2- اللجنة الرباعية ودول "الترويكا": تضم اللجنة الرباعية كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والسعودية ودولة الإمارات، وكانت مهمتها الرئيسة هي توفير الدعم والمساعدات اللازمة للخروج بالسودان إلى بر الأمان. وهذا ما تبنّته الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، المعروفة بـ"دول الترويكا" التي عادة ما تتبنّى مواقف مشتركة في العديد من القضايا الدولية ذات الصلة، وهو ما يفتح المجال أمام الولايات المتحدة وبريطانيا على وجه التحديد، باعتبار أنهما عضوان باللجنة الرباعية و"الترويكا" في آن واحد، لأداء دور أكثر فعالية في الصراع الجاري بالسودان وعدم الوقوف عند مستوى الشجب والتصريحات المُنددة بما يجري على الأرض، بالإضافة بالطبع إلى الأدوار الإيجابية لكل من السعودية والإمارات بما يتمتعان به من ثقل كبير، حيث دعت الدولتان أطراف النزاع في السودان إلى التهدئة وضبط النفس والحكمة وخفض التصعيد والعمل على إنهاء الأزمة الحالية بالحوار.

3- مصر: بحُكم العلاقة التاريخية بين مصر والسودان، والموقف المصري الداعم لوحدة وتماسُك الشعب السوداني؛ وقفت القاهرة على الحياد منذ الإطاحة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير في عام 2019، وما أعقب ذلك من حِراك كبير في الشارع السوداني، بما فيه الإجراءات التي اتخذها الفريق أول عبدالفتاح البرهان في 2021 وأسماها "تصحيح المسار"، وحتى في أعمال العنف والمواجهات الدامية التي بدأت بين جناحي المُركّب العسكري بقيادة البرهان وحميدتي. وأكدت مصر أنها تقف بجانب الشعب السوداني ولا تميل لأي طرف على حساب آخر، وهو ما يجعلها قادرة على أداء دور الوساطة بين الفرقاء في السودان من أجل الوصول إلى تسوية مقبولة أو على الأقل تهدئة الأوضاع الحالية ووقف التصعيد العسكري.

4- القاهرة وجوبا: واحد من الخيارات المتاحة هو إمكانية أداء مصر وجنوب السودان معاً دور الوساطة لوقف العنف الدائر في السودان. وفي هذا الإطار، تلقى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي اتصالاً هاتفياً من رئيس جنوب السودان، سيلفا كير، يوم 16 إبريل 2023، ووجه خلاله الرئيسان نداءً للوقف الفوري لإطلاق النار في السودان، مناشدين الأطراف كافة بالتهدئة، وتغليب صوت الحكمة والحوار السلمي. كما أعرب الرئيسان عن استعداد مصر وجنوب السودان للقيام بالوساطة بين الأطراف السودانية.

ولعل السوابق التاريخية للقاهرة وجوبا، تجعل من الممكن للفرقاء السودانيين أن يقبلوا بهذه الثنائية؛ ليس فقط لرصيد مصر السابق، ولكن أيضاً لرصيد جنوب السودان حتى وهي دولة حديثة العهد خرجت من رَحِم السودان منذ اثنتي عشرة سنة فقط. وقد رعت جوبا "اتفاق سلام جوبا" الموقّع في عام 2021 بين الفرقاء في الشمال بشأن عملية الانتقال السياسي في سودان ما بعد البشير؛ وبالتالي فهي والقاهرة في أتم جاهزية لأداء هذا الدور، فقط إن مَلَكتا الأدوات اللازمة لتهدئة الوضع العملياتي المتصاعد، والذي يتحتّم إعمال المستوى الأقصى من تفهُّم حساسية الصراع (Conflict Sensitivity) في جوانبه كافة، بدءاً من التصريحات والإجراءات المُتخذة من كلا البلدين، ووصولاً إلى ما سيُقدّمانه للأطراف المُتصارعة كبديل عن سلك مسار العنف.

فرصة متاحة:

بناءً على ما تقدم، لا يمكن لآلية الوساطة أن تنشأ من العدم، فلابد لها من مُنشئ، وبالتالي تحتاج لأشخاص أو كيانات مرموقة تكون محل قبول ورضا من أطراف الصراع، ويُتاح لها بيئة بها القدر الأيسر من الأجواء المساعدة على إنجاح مساعيها، وذلك في ظل تنسيق جاد وحقيقي مع مختلف الأطراف والفاعلين، سواء في الداخل السوداني أو على المستوى الإقليمي أو الدولي. وفي كُل الأحوال، يبقى رهان الوقت بمثابة سيف مُسلّط على رقبة عملية السلام في السودان؛ تستطيع الأطراف المُتصارعة تفاديه إن تم تغليب صوت العقل على صوت الرصاص والشعور الزائف بالقوة وإمكانية حسم المعركة عملياتياً على الأرض دون حاجة لمائدة حوار وتفاوض، وسلك طرق أخرى من شأنها تفويت الفرصة أمام الاحتراب الأهلي. 

ختاماً، تبقى أهم المسائل التي ستواجه أي وساطة في الوضع السوداني المأزوم حالياً هي مسألة توزيع السلطة والثروة في أعقاب الاقتتال الجاري، ومسألة تحرير العلاقة بين المكونين المدني والعسكري، ومسألة توفير المساعدات الإغاثية والإنسانية في أعقاب أزمة أمن غذائي متنامية قبيل وأثناء الاقتتال الجاري، وأخيراً قضية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج بالنسبة لقوات الدعم السريع بعد أن عدّها البرهان "مليشيا مُتمرّدة" وذلك لترسيخ جيش وطني سوداني موحد يحتكر وحده القوة ويكون منوطاً به أمن وسلامة البلاد من المخاطر التي تتهددها من الداخل أو الخارج على حد سواء.