شهدت الجزائر خلال شهر أكتوبر الجاري تظاهرات هي الأعنف منذ سنوات، حيث ضربتها موجة من الاحتجاجات من قبل أفراد الشرطة، واشتباكات طائفية محدودة بين العرب والأمازيغ، وأعمال عنف في الشوارع، فضلاً عن توترات حدودية مع المغرب لا يمكن إغفال تأثيرها على الداخل الجزائري واستقرار الدولة، مما يُثار معه عدة تساؤلات هامة: هل تسير الجزائر في ركب اللحاق بالثورات العربية؟ وهل دخلت الجزائر منعطف التغيير؟ وهل سيأتي التغيير من داخل النظام نفسه وليس من خارجه؟
التعامل الحكومي مع تظاهرات الشرطة
ترجع بداية الأحداث الأخيرة إلى احتجاج إحدى وحدات مكافحة الشغب المكلفة بالسيطرة على اشتباكات بين العرب والبربر في بلدة بريان بالقرب من مدينة غرداية في الجنوب، وقد دفع ذلك إلى نزول ضباط شرطة آخرين للتضامن مع زملائهم في مدينتي خنشلة ووهران.
وللمرة الأولى في تاريخ الجزائر، تدخل عناصر من الشرطة في إضراب، وذلك بعد أن أطلق القضاء الجزائري سراح حوالي أربعين شخصاً كانت الشرطة قد أوقفتهم في تلك الاشتباكات، فخرجت مظاهرات الشرطة للمطالبة بعزل مدير عام الأمن الجزائري، وإعطائهم صلاحيات التعامل بحزم مع المتظاهرين، وأيضاً احتجاجاً على الأوضاع المعيشية السيئة التي يتعرضون لها، واستمر إضراب الضباط لما يقرب من أسبوع، ووصل التظاهر إلى حد تطويق القصر الرئاسي بالمورادية، حتى اتفقت السلطات الجزائرية وجهاز الشرطة، على تحقيق ما يزيد من 80% من المطالب.
وقد نجحت الحكومة الجزائرية مؤقتاً في إخماد ثورة ضباط الشرطة، واستجابت لأغلب مطالبهم البالغة 19 مطلباً، فيما رفضت إقالة الجنرال عبد الغني الهامل مدير الأمن الوطني الجزائري والمقرب من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، كما رفضت الاستجابة لمطالب تأسيس نقابة لهم في الوقت الحالي.
ومن ثم فقد انتهى اجتماع المجلس الوزاري بالاستجابة للمطالب الاجتماعية والمهنية للشرطة المحتجين، والإسراع في اتخاذ التدابير المتعلقة برفع الأجور في مطلع نوفمبر المقبل، فضلاً عن المنح المتعلقة بمنطقة العمل، ومنحة الصحة، مع تخفيف نظام العمل بدوام 3 مرات كل 8 ساعات.
كما كشفت وسائل الإعلام الجزائرية عن إحالة رئيس أمن ولاية العاصمة نور الدين بوفلاقة، والمفتش العام للأمن الوطني محمد حوالف، إلى التقاعد، على خلفية التقصير في احتواء غضب أفراد الأمن وتأجيج الحركة الاحتجاجية.
دلالات الأحداث الأخيرة
لا يمكن الوقوف على دلالات أحداث التظاهرات والعنف بمعزل عن المشهد السياسي في الجزائر وتطوراته، خاصةً في أعقاب الانتخابات الرئاسية الماضية، والتي أسفرت عن بقاء الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليفة على رأس السلطة في الجزائر.
ومن هذه المنطلق، فإن ثمة دلالات هامة لهذه الأحداث، لعل أبرزها ما يلي:
أ- التوقيت الزمني للتظاهرات: تأتي هذه الأحداث بعد مرور فترة قصيرة على قيام الرئيس بوتفليقة بحملة تغييرات واسعة شملت مناصب رفيعة في مؤسسة الرئاسة والجيش، منها إقالة اللواء المتقاعد محمد تواتي مستشار الرئيس لشؤون الدفاع، والسعيد بوالشعير مستشار الرئيس للشؤون القانونية ورئيس المجلس الدستوري الأسبق. كما أنهى بوتفليقة مهام رئيس أركان الحرس الجمهوري العميد عبد القادر عوالي، وقائد القطاع العسكري الأول العميد عبد القادر بن زخروفة، وقائد القطاع العسكري الخامس العميد السعيد زياد وغيرهم.
كما تجدر الإشارة إلى أن هذه التغييرات تأتي بعد أيام أيضاً من تنحية عبدالعزيز بلخادم من منصبه كمستشار للرئيس الجزائري ومن كافة مهامه الحزبية، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات والتكهنات حول مدى ارتباط الإضرابات الشرطية الأخيرة ببنية النظام الجزائري الحاكم، خاصة أن البعض فسر التغييرات السياسية الأخيرة بأنها تهدف إلى ترسيخ أركان التيار الرئاسي ومواجهة منافسيه، فبعد أن استطاع الرئيس إحكام السيطرة على المؤسسة العسكرية - باستثناء جهاز الاستخبارات - وإزاحة خصومه، أصبحت المواجهة واضحة بين طرفين: الرئاسة والمؤسسة العسكرية من ناحية، ودائرة الاستعلامات والأمن أو جهاز الاستخبارات من ناحية أخرى.
ب- تصدع داخلي: فالجديد في هذه الاحتجاجات أنها قد وقعت من قِبل قوات الأمن، إحدى أذرع النظام وأدواته في فرض الاستقرار والأمن؛ الأمر الذي يعد حدثاً نادراً في تاريخ الجزائر، ويعكس إلى أي مدى وصلت الصراعات في "هرم النظام الحاكم"، ما يعد مؤشراً خطيراً على احتمال، وإن يكن ضئيلاً، تصدع مؤسسات الدولة السيادية ومنها أجهزة الأمن.
ج- عدم عفوية التظاهرات: إذ يتردد في الأوساط الجزائرية أن تمسك الشرطة بضرورة رحيل عبد الغني الهامل مدير الأمن الوطني الجزائري، يؤكد أن التحرك لم يكن عفوياً، بل يكشف عما يحصل وراء الأسوار الداخلية لمقر الرئاسة "في معركة البحث عن خليفة بوتفليقة"، لاسيما أن اللواء هامل يحسب على فريق الرئيس الذي يقوده شقيقه السعيد. كما جرى تداول اسمه من قبل لخلافة الرئيس بوتفليقة.
وهنا تُطرح فرضية تُعزز الانقسام والخلافات بين المؤسسات الجزائرية، وهي أنه لا يمكن لرجال الشرطة التحرك في مختلف الجهات في الوقت نفسه، دون أن تكون هذه الخطوة بعلم الأجهزة الأمنية الأخرى كالاستخبارات وحتى الشخصيات العليا.
د- الكشف عن "فراغ رئاسي": فقوى المعارضة الجزائرية ترى أن تحرك جهاز الشرطة أمر في غاية الخطورة، ويكشف عن الفراغ الرئاسي، وذاك في إشارة إلى عجز الرئيس بوتفلية عن القيام بمهامه الرئاسية في ظل ظروفه الصحية، حيث بدا وكأنه لا يستطيع أن يتدخل في ظرف يتعرض فيه أمن الجزائر إلى التهديد.
وفي هذا السياق حذرت حركة "مجتمع السلم"، وهي أكبر حزب إسلامي معارض، من الانزلاق نحو المجهول، معتبرة أن استمرار الاحتجاج دليل على "الفشل الذريع والعجز الكبير". كما دعت أحزاب المعارضة، وفي مقدمتها حزب جبهة القوى الاشتراكية إلى تطبيق الديمقراطية. هذا علاوة عن تجدد التساؤل حول حالة الرئيس بوتفليقة الصحية ومدى قدرته على القيام بالإصلاحات المزعومة، حيث طالب البعض خلال أزمة تظاهرات قوات مكافحة الشغب بتطبيق المادة رقم (88) من الدستور التي تنص على تولي رئيس مجلس الأمة منصب رئيس الجمهورية في حالة شغور المنصب بسبب مرض الرئيس وعجزه عن القيام بمهامه، وتعالت أصوات أخرى بتدخل الجيش للانقلاب على النظام بعد حملة الإقالات الأخيرة؛ الأمر الذي دفع مجلة الجيش إلى التأكيد على التزام الجيش بمهامه الأساسية المتمثلة في حماية الحدود والدفاع عنها، وعدم التورط في المسائل السياسية
هل تلحق الجزائر بالثورات العربية؟
إذا كانت الاضطرابات الحالية التي تشهدها الجزائر تعد "حراكاً داخلياً" لا يمكن إنكار تأثيراته المستقبلية، لكن لا يعني ذلك في حقيقة الأمر اللحاق بالثورات العربية، نظراً لعدة أسباب أبرزها:
- تجربة العنف الجزائرية السابقة: فالشعب الجزائري تضرر كثيراً من العنف والإرهاب الذي عانى منه في تسعينيات القرن المنصرم، ومن ثم بات يتطلع إلى التقاط الأنفاس، لذلك فإنه يمتنع عن الدخول في صدامات مع السلطة.
- فوضوية الأوضاع في دول الثورات العربية: فالشعب الجزائري ارتضى بالأمن والاستقرار في ظل النتائج الكارثية في مرحلة ما بعد "الثورات"، خصوصاً في ليبيا واليمن وسوريا، وقبل ذلك التدخل الأمريكي العسكري في العراق تحت عنوان "الديمقراطية وحقوق الإنسان".
- الإصلاحات الاقتصادية: فقد أقدم النظام الجزائري على إجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية، وساعده على ذلك ارتفاع عوائد النفط والغاز؛ الأمر الذي يساهم في تخفيف جانب من معاناة الجزائريين.
مجمل القول، فقد أحدثت تظاهرات قوات الأمن الجزائرية بلبلة في الشارع الجزائري، وستترك تأثيراتها لبعض الوقت خاصة في ظل تمسك قوات الشرطة برحيل مدير الأمن الوطني اللواء عبد الغني الهامل ورفض السلطات الرسمية لذلك، فضلاً عن إعلان نقابات عدة قطاعات استعدادها الدخول في إضرابات وحركات احتجاجية عقب استجابة الحكومة لأغلبية مطالب رجال الشرطة الذين تظاهروا لعدة أيام، ففور الإعلان عن نتائج الاجتماع الوزاري الذي عُقد للنظر في موضوع احتجاجات الشرطة، أعلن منتسبون إلى سلك الحماية المدنية عن نيتهم النزول إلى الشارع في شهر نوفمبر، ووضعوا على رأس قائمة مطالبهم رحيل المدير العام للحماية المدنية العقيد مصطفى لهبيري، تماماً مثلما كان الحال للمحتجين من رجال الشرطة الذين رفعوا مطلب "ارحل" في وجه مديرهم العام اللواء عبد الغني هامل. كما تنوي نقابات التعليم التي لها باع طويل في الاضرابات الدخول في حركة احتجاجية جديدة.
ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تتسبب احتجاجات رجال الشرطة في انفلات أمني واسع، في ظل تجنب الجزائريين الاضطرابات والقلاقل بعد حرب التسعينيات بين الجيش والإسلاميين التي قتل خلالها 200 ألف شخص، كما أنه من المتوقع أن تتدخل الأطراف المؤثرة في جناحي الرئاسة والجيش لحسم الأمور والإقدام على الإخراج السياسي للتغيير على نحو هادئ وبأقل التكاليف الممكنة.