أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

البرجماتية الحذرة:

المكاسب الاستراتيجية الصينية في أزمة أوكرانيا

26 فبراير، 2022


مرت الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، التي تتوالى فصولها منذ سنوات، بمراحل مختلفة، إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن، حيث بات الموضوع الأول على أجندة العلاقات الدولية، مما جعل أخبار وباء كورونا والتغير المناخي وغيرها من القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية تتراجع؛ نظراً لسرعة تطورات هذه الأزمة، وسخونتها، وأيضاً لطبيعة الأطراف المنخرطة فيها؛ سواء أكان ذلك الانخراط بشكل مباشر على الأرض أو بشكل غير مباشر عبر التفاعلات الكثيفة، ومن هذه الأطراف الصين بالطبع. وللوقوف على ما إذا كانت بكين من الممكن أن تحقق مكاسب من الأزمة الأوكرانية، فإن ثمة ملحوظات أولية، متبوعة بتوضيح ثوابت ومتغيرات الموقف الصيني من هذه الأزمة، وصولاً إلى ما يمكن اعتباره مكاسب صينية في ظل بعض المحاذير التي تحيط بتلك المكاسب المُفترضة وبمجمل الموقف الصيني.

ملحوظات أولية:

ثمة ملحوظات تتعلق بطبيعة الأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا، والأطراف المُنخرطة فيها، والأبعاد المختلفة لها ودلالالتها وتوقيت التصعيد الحالي بالأساس. وهذه الملحوظات ستضيء كثيراً على جوانب التحليل في النقاط التالية لها:

1- ارتباط الأزمة الأوكرانية بتفاعلات النظام الدولي: فهذه الأزمة لا يمكن فصلها عما يدور بين القوى الكبرى منذ سنوات من تفاعلات تنافسية أو حتى صراعية في إطار ما يُعرف بالصيغة المُبتغاة للنظام الدولي من قِبل كل من هذه القوى. فلا يخفى أن الولايات المتحدة وقد آلت إليها قيادة النظام الدولي منفردة بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، استراحت كثيراً لهذا الوضع، وباتت تتصرف في الكثير من القضايا بشكل منفرد، ولا تأبه باعتراضات بعض القوى على ما تقوم به، سواء من حيث كثافة استخدام الأداة العسكرية في سياستها الخارجية أو استخدام الأدوات الإكراهية الأخرى، مثل العقوبات التي تفرضها هنا وهناك، بما في ذلك العقوبات على بعض الدول الكبرى. 

وفي المقابل، فإن أوضاع روسيا بعد نهاية الحرب الباردة لم تكن تسمح لها بالتصدي لهذا المد الأمريكي الذي وصل إلى التخوم الروسية في آسيا الوسطى، عندما قررت واشنطن في عهد الرئيس الأسبق، جورج بوش، غزو أفغانستان رداً على هجمات 11 سبتمبر 2001، إلى أن انسحبت من هذا البلد في أواخر أغسطس 2021. وفي أوروبا، استمر توسع حلف شمال الأطلسي "الناتو" بالرغم مما قِيل إنه تعهد أمريكي بالوقوف بهذا التوسع عند حدود معينة تقبل بها موسكو.

2- الصعود الروسي والصيني: في الوقت الذي اضطرت معه روسيا والصين للسكوت على مضض على بعض التصرفات الأمريكية على الساحة الدولية، كانت كلا الدولتين تواصلان عملية البناء الداخلي الاقتصادي والعسكري. وقد مكّنها هذا من التحول إلى المبادأة على الصعيد الدولي. وقد تمثل ذلك في مبادرات صينية مثل "الحزام والطريق"، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، ووضع أُطر لعلاقات مستقرة مع معظم مناطق العالم، سواء عبر المنتديات الجماعية أو الاتفاقيات متعددة الأطراف، بما في ذلك مع أوروبا. وقد ترافق مع كل ذلك زحف الاستثمارات الصينية. 

وبدأت روسيا هي الأخرى تخرج من كبوتها تدريجياً منذ قدوم الرئيس فلاديمير بوتين، ومن ثم بدأت في رفض ما كانت مُضطرة للسكوت عنه، وأوعزت لدول آسيا الوسطى بإغلاق القواعد الأمريكية لديها، وقد كان. ثم كان حديثها صراحة أن حلف "الناتو" عليه أن يتوقف عن التوسع، وتدخلت عسكرياً في أكثر من نقطة ساخنة وحالت دون سيناريوهات كانت تريدها الولايات المتحدة. وهنا بدأ الغرب يأخذ سلسلة من الإجراءت حيال موسكو من قبيل فرض العقوبات الاقتصادية، وتوقف مشاركة روسيا في بعض المنتديات، مثل مجموعة السبع الصناعية. وهذه العقوبات لم تطل روسيا وحدها، وإنما معها الصين أيضاً، وعلى صعد مختلفة بما في ذلك قطاع التجارة. وكانت الدولتان تردان على العقوبات، وفي الوقت نفسه تبحثان عن بدائل لتعويض ما تحدثه تلك العقوبات، وقد كان ذلك جلياً في الحالة الروسية بالذات.

3- قوة العلاقات بين موسكو وبكين: بينما كانت الهوة بين الولايات المتحدة وحلفائها، سواء في أوروبا أو آسيا، تتسع في فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كانت العلاقات الروسية - الصينية تتوطد أكثر وأكثر، ليس فقط على الصعيد الثنائي، وإنما إقليمياً وعالمياً. فالبلدان وعبر المنظمات والمنتديات التي كانا وراء نشأتها، باتا يطرحان بدائل لما هو مطروح أمريكياً وغربياً. وتجلى ذلك بالأساس في كل من "منظمة شنغهاي للتعاون"، وتجمع "البريكس".

4- التهديد الروسي والصيني للمصالح الأمريكية: على الرغم من بعض الاختلافات بين الإدارات الأمريكية الثلاث الأخيرة، فإن النظرة تجاه كل من الصين وروسيا كانت تنتقل تدريجياً نحو اعتبارهما مصادر تهديد للأمن الأمريكي، ومن ثم فإن هناك ضرورة أمريكية للتصدي لهذا التهديد. ومن بين أدوات هذا التصدي، الاحتواء والإشغال. ومن هنا كانت سياسة الانعطاف نحو آسيا منذ إدارة باراك أوباما، والتحالفات المستجدة مؤخراً في ظل إدارة جو بايدن.

5- الاستهداف الأمريكي للصين وروسيا: من الواضح أن كلاً من بكين وموسكو أصبحتا على قناعة بأن واشنطن باتت تستهدفهما بشكل صريح، بل وتتحرش بهما في محيطهما الإقليمي سواء في بحري الصين الجنوبي والشرقي، وفي أوروبا الشرقية. فها هي حاملات الطائرات الأمريكية والقطع البحرية الأخرى تجوب المياه القريبة، والمناورات تتم تباعاً هناك في البحر الأسود في ظل تحذيرات صينية وروسية متوالية. ولم يقف الأمر عند التحذيرات، وإنما كانت هناك في المقابل مناورات أُحادية أو ثنائية وفي أماكن ربما غير مسبوقة وبكثافة غير معهودة.

6- الجانب القيمي في التفاعلات بين القوى الكبرى: لا يمكن إغفال الجانب القيمي فيما هو دائر من تفاعلات أمريكية - صينية - روسية. وهنا تكفي الإشارة إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، وما يرتبط بذلك من تطورات داخلية في المحيط المجاور لكل من روسيا والصين، بل وما يحدث داخل كل منهما أيضاً. ومثال على ذلك، قضية المعارض الروسي نافالني، وما جرى في بيلاروسيا، ومؤخراً في كازاخستان. وفي الحالة الصينية، تكفي الإشارة إلى قضيتي الإيغور، وهونج كونج. وقمة الديمقراطية التي عقدتها إدارة بايدن في شهر ديسمبر الماضي ليست ببعيد. وكان من الملفت أن العنصر الرئيسي الأول في البيان المشترك لقمة الرئيسين الصيني والروسي، في الرابع من فبراير 2022، هو موضوع الديمقراطية.

ثوابت الصين:

المواقف الصينية من الأزمة الأوكرانية فيها ما هو ثابت ولم يتغير منذ بدايات هذه الأزمة، وعلى رأسها التمسك بالحلول السلمية عبر المفاوضات، والتزام جميع الأطراف بضبط النفس وعدم التصعيد، وتنفيذ ما تم التوصل إليه من اتفاقات وتفاهمات وعلى رأسها "اتفاق مينسك"، والرفض المُطلق لمبدأ فرض العقوبات الأُحادية.

وهذه العناصر كانت وما زالت حاكمة لمُجمل الموقف الصيني من الأزمة الأوكرانية. فبالنسبة لقضية شبة جزيرة القرم في عام 2014، عندما قُدم مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي برفض الاستفتاء الذي بموجبه ضمت روسيا القرم، امتنعت الصين حينها عن التصويت، معللة موقفها بأن القرار من شأنه تعقيد الموقف. وبالطبع فإن "الفيتو" الروسي كان كفيلاً بإجهاض ذلك القرار.

ومؤخراً مع الإجراءات السياسية والعسكرية الروسية في أوكرانيا، سواء بالاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ثم بدء التدخل العسكري في الأراضي الأوكرانية؛ فإن الصين كانت عند تناول الموضوع تتحدث عما تقوم به الأطراف المقابلة، خاصة الولايات المتحدة، حيث تثير بكين قضايا من قبيل أنه لا يمكن تحقيق أمن بعض الدول على حساب دول أخرى، وأنه لا يمكن استمرار توسع حلف "الناتو" والضغط على دولة كبيرة مثل روسيا. 

ومع كل ما وصلت إليه الأمور، ما زالت بكين مُصرة على أن هناك فرصاً للحوار والدبلوماسية. وعلى الصعيد الدبلوماسي، يُلاحظ أن الصين لم تعلن أبداً تأييدها الصريح لروسيا، سواء بالنسبة لضم القرم أو الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك ولا بالتدخل العسكري في أوكرانيا، وفي الوقت نفسه، رفضت الخارجية الصينية وصف التدخل العسكري الروسي بأنه "غزو"، مشيرة إلى أن هذا المصطلح "متحيز".

وقد امتنعت الصين عن التصويت على مشروع قرار قدمته الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي صباح يوم 26 فبراير 2022 لإدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وهو مشروع القرار الذي أفشلته موسكو، بعدما استخدمت حق النقض "الفيتو" ضده.

محاذير بكين:

"شائكة ومعقدة"، بهذين الوصفين غالباً ما تصف الصين التطورات في الأزمة الأوكرانية، خاصة في أوقات التأزم. ولا يقف هذان الوصفان على ما يجري هناك، وإنما ينسحب أيضاً على ما تتخذه بكين من مواقف لأسباب كثيرة، من بينها أن الصين دائماً ما تتحدث عن احترام سيادة الدول وسلامة ووحدة أراضيها ومعارضة التدخل في الشؤون الداخلية لها. وهنا تُطرح أسئلة من قبيل إذا كان هذا هو الموقف الصيني الثابت والمرفوع دائماً، فكيف تفسر السكوت عما تقوم به روسيا في أوكرانيا؟ وهذا ليس سؤالاً افتراضياً، بل إنه طُرح بالفعل على مسؤولين صينيين، وكانت الإجابة بالطبع أن تلك مبادئ لا تحيد عنها بكين وتتمسك بها، ثم يأتي الاستدراك فيما يتعلق بالنظر إلى مُجمل الصورة بخصوص ما يجري، والاعتبارات الأمنية لذلك. 

وكما سبق القول، فإن الصين لم تعلن أبداً تأييداً صريحاً لأي من إجراءات الضم أو الاعتراف أو الإجراءات العسكرية الروسية. ولا يمكنها أن تفعل ذلك؛ نظراً لأنها إن فعلت سقطت حججها فيما يتعلق بمطالبات استقلال سواء من تايوان وغيرها من المناطق. وفيما يتعلق بتايوان تحديداً، برزت بعض الأصوات في هذه الفترة تقول إن بكين سوف تقوم بما قامت به موسكو في أوكرانيا. لكن على الأغلب، فإن الصين لن تقدم على خطوة استعادة تايوان عسكرياً قريباً كما يقول البعض؛ نظرا لأنها تعي تماماً التداعيات الكارثية لمثل هذا التصرف. ولربما يكون من بين تلك التداعيات، عودة دول مهمة في العالم للاعتراف بتايوان، فضلاً عما سيُقدم لها من مساعدات عسكرية في ظل تعهدات أمريكية بحمايتها، وهنا قد تندلع حرب واسعة وقد تطول مما سيرهق الصين كثيراً، وقد تؤدي إلى إيقاف تطورات إيجابية لصالح بكين على صعيد الدور والمكانة والنفوذ على الصعيد العالمي. ولا يجب أيضاً التغافل عن أن الغالبية العظمى من دول العالم تعترف بسياسة الصين الواحدة، وأكد بيان القمة الصينية - الروسية في فبراير 2022 على هذه النقطة، معتبراً أن "تايوان جزء لا يتجزأ من الصين".

مكاسب استراتيجية:

بالنسبة للمكاسب التي يمكن أن تحققها الصين جراء ما يحدث في أوكرانيا، فإنها يمكن أن تندرج في إطار المكاسب الاستراتيجية وليست المادية، والبعيدة المدى وليست الآنية. وفي هذا الإطار، يمكن الحديث عن الآتي:


1- إعادة تشكل النظام الدولي: بمعنى السير قُدماً في اتجاه الابتعاد بالنظام الدولي عن الهيمنة الأمريكية، نحو التعددية التي طالما طالبت بها كل من الصين وروسيا. فما يجري في أوكرانيا يثبت أنه بات في المقدور وليس فقط الطلب من واشنطن التوقف، بل والقدرة على إفشال مخططاتها، وإجبارها على التراجع. والصين ذاتها قد اتبعت ذلك النهج، وإن كان على الصعيد الاقتصادي في فترة ترامب، حيث كانت تقول صراحة إنها ليست مع الحرب التجارية، لكنها مستعدة لها، وكانت ترد بذات الصاع على كل إجراء تفرضه الإدارة الأمريكية السابقة.

2- تزايد التقارب الصيني – الروسي: ربما القراءة التفصيلية لمضمون بيان القمة الصينية - الروسية في 4 فبراير 2022 يثبت ذلك، وكذلك كثافة التواصل بين كبار المسؤولين في الجانبين، والطموحات المُتفق عليها بالنسبة لمستقبل العلاقات بينهما. لكن هل يمكن أن يصل مستوى العلاقات بين بكين وموسكو إلى حد التحالف العسكري؟ حتى الآن البلدان يصران على أنهما لا يريدان ذلك انطلاقاً من موقفيهما المبدأيين بخصوص التحالفات العسكرية. 

3- الانشغال الأمريكي عن الصين: ربما يقول البعض إن من بين الفوائد المتحققة لبكين جراء الأزمة الأوكرانية هو الانصراف الأمريكي للتركيز على هذه الأزمة، مما يخفف الضغط على الصين. ويرى آخرون أنه ربما تتحول السياسة الأمريكية كلياً تجاه الصين، في محاولة لفك علاقاتها بروسيا التي بات تحديها العسكري لواشنطن أكبر. وهنا تجدر الإشارة إلى أن صانع القرار الأمريكي على قناعة بأن القوة التي تزحف نحو القمة هي الصين وليست روسيا، أخذاً في الاعتبار مؤشرات القوة الشاملة.

ختاماً، يمكن القول إن تفاعلات الأزمة الأوكرانية الساخنة هذه الأيام، تتوالى في ظل مناسبات كبرى في تاريخ العلاقات الدولية الحديث والمعاصر، وكانت الصين في القلب منها. فقد مر 30 عاماً على انهيار الاتحاد السوفييتي وها هي صيحات إحيائه تُسمع وإن كان على استحياء، و20 عاماً مرت على اتفاقية الشراكة بين الصين وروسيا والمساعي حثيثة لتعميقها وتوسيعها وتطويرها، و50 عاماً مرت على زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون للصين، والاعتماد المتبادل اقتصادياً يتزايد بالرغم من بعض الهزات، والتنافر السياسي والاستراتيجي يتزايد بين واشنطن وبكين. فكلها مناسبات كانت مفصلية في تطور العلاقات الدولية، وها هي القضية الأوكرانية تتوالى فصولها بما يؤشر لتحولات قد تحدث في اتجاهات مغايرة بعد هذه السنوات.

وبكين الحاضرة في هذه التحولات قديمها وحديثها، تتعامل بحذر شديد وتدرس خطواتها جيداً، وفي بؤرة التركيز مصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي. وهذا ما يحكم قراراتها في الأزمة الأوكرانية وفي غيرها. ولا يجب التغافل عن أن البرجماتية باتت ومنذ سنوات طويلة هي العنوان الأبرز للسياسة الخارجية الصينية.