أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

الثقة المفقودة:

لماذا لم تُسفر زيارة "رئيسي" لروسيا عن اتفاق استراتيجي؟

24 يناير، 2022


سعت إيران جاهدة خلال السنوات الماضية إلى تعزيز علاقاتها مع كل من روسيا والصين، ولهذه الغاية انضمت في سبتمبر الماضي إلى "منظمة شنغهاي للتعاون"، وعقدت سلسلة اتفاقيات مع الدولتين. وتحول هذا المسعى الإيراني إلى مسار إقليمي لسياستها الخارجية كلما اشتدت العقوبات الأمريكية والأوروبية عليها بسبب ملفها النووي. وفي هذا الإطار، جاءت الزيارة التي بدأها الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى موسكو في 19 يناير 2022، ومحادثاته مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، حيث انتهت هذه الزيارة من دون الإعلان عن نتائج واضحة ومحددة، إذ لم يتم الإعلان عن التوقيع على اتفاقيات أو وثائق، عكس ما أوحت طهران قبيل الزيارة.

رسائل للغرب: 

جاء لقاء رئيسي - بوتين في موسكو، في ظل ظروف حساسة لبلديهما؛ فمفاوضات فيينا بشأن البرنامج النووي الإيراني بلغت مرحلة حساسة جداً، وبات المطلوب اتخاذ قرارات واضحة من قِبل طهران، وهو تطور يتزامن مع بلوغ التصعيد الأمريكي - الروسي بشأن الأزمة الأوكرانية مرحلة خطرة، لاسيما في ظل التأكيد الأمريكي على أن موسكو تستعد لغزو أوكرانيا في ظل رفض غربي، والتهديد بأقصى العقوبات ضد روسيا إذا اقدمت على أي عملية عسكرية هناك. ومع أن الحدثين منفصلين عملياً إلا أن ثمة تقاطعاً روسياً - إيرانياً على اعتبار أن الخصم في الحالتين واحد؛ وهو الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من دول حلف شمال الأطلسي "الناتو".

وعليه ثمة إجماع على أن الرسالة من زيارة رئيسي إلى موسكو كانت موجهة للغرب بالدرجة الأولى، ومفادها قدرة كل طرف (أي إيران وروسيا) على التلويح بأنه يمتلك أوراق قوة لمواجهة الضغط الغربي، وللقدرة على التكيف مع العقوبات المفروضة عليهما. والثابت هنا هو أنه كلما زاد الضغط الغربي على موسكو، ظهر في صفوف القيادة الروسية من يميل إلى الانسجام مع السياسة الإيرانية المتشددة. واللافت أن زيارة رئيسي إلى موسكو تزامنت مع المناورات الروسية - الصينية – الإيرانية المشتركة في شمال المحيط الهندي، بعنوان "الحزام الأمني البحري 2022"؛ وذلك في إشارة إلى الإحساس الأمني المشترك لهذه الدول تجاه الغرب وحلف "الناتو".

وفي الواقع، فإن التحرك الإيراني نحو روسيا يحمل معه جملة من الأهداف الأساسية، لعل أهمها ما يلي:

1- تلويح إيران بأن لديها بدائل عن الاتفاق النووي الذي وقّع في عام 2015، والرسالة هنا أنه إذا لم يستجب الغرب للشروط الإيرانية في محادثات فيينا بشأن التوصل إلى اتفاق نووي، فإن طهران ذاهبة شرقاً نحو روسيا والصين. وهذا ما لا يريده الغرب، وعندما تنتهج إيران هذا السلوك، فإن هدفها الأساسي هو دفع الغرب إلى تقديم تنازلات لها أو على الأقل الاستجابة لشروطها في أي اتفاق نووي جديد. ولعل روسيا تنتهج هنا السلوك الإيراني نفسه في التلويح بأوراق إقليمية في مواجهة الغرب و"الناتو"، لاسيما في ظل اشتداد الأزمة بشأن أوكرانيا.

2- نظر طهران إلى موسكو كطرف ضامن في ملفها النووي، ليس على صعيد مفاوضات فيينا فحسب؛ بل في مجمل نشاطها المتعلق بهذا الملف، لاسيما في قضية حفظ مخزونها من اليورانيوم المتراكم في حال التوصل إلى اتفاق النووي، فضلاً عن استمرار المساعدة الروسية في هذا المجال، حيث أنشأت موسكو مفاعل بوشهر النووي الإيراني. 

3- تطلع إيران إلى شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع روسيا، وذلك من خلال التوقيع على اتفاقية في هذا المجال لمدة 20 عاماً، كما نصت مسودة مشروع قدمتها إيران بهذا الخصوص، على غرار الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بين إيران والصين لمدة ربع قرن؛ وبموجبه تحصل الأخيرة على النفط الإيراني المُخفض السعر، مقابل استثمارات صينية بنحو 400 مليار دولار في مجموعة واسعة من المشاريع في إيران. وفي الحالة الروسية، تتطلع طهران لنقل التكنولوجيا من موسكو إليها، والحصول على الأسلحة والمعدات العسكرية، فضلاً عن زيادة الاستثمارات الروسية في مجال البنية التحتية. وعلى الرغم من أن روسيا تجد في هذه الشراكة مع إيران مدخلاً مهماً لزيادة نفوذها الإقليمي، وتعزيزاً لمصالحها الاقتصادية والتجارية؛ فإنها تبدو غير مشجعة حتى الآن، ولعل السبب الأساسي هو الخشية من تداعيات العقوبات الغربية على موسكو إذا ما شكل ذلك خرقاً للعقوبات المفروضة على طهران.  


ملفات خلافية:        

على الرغم من توافق الجانبين الإيراني والروسي على أهمية التعاون في مواجهة الخصم الأمريكي والأطلسي عموماً، لا يبدو أن الأهداف الإيرانية السابقة تحققت من زيارة رئيسي إلى موسكو، وهو ما يكشف حساسية العلاقة بين البلدين حتى مع تعاونهما في عدد من الملفات الإقليمية المهمة. ولعل سبب هذه الحساسية هو المصالح المتباينة بين طهران وموسكو من جهة، وتعارض الرؤية السياسية إزاء عدد من الملفات الإقليمية من جهة ثانية. إذ ما يتم الاتفاق عليه في الشكل، كثيراً ما يتم الاختلاف بشأنه في المضمون والهدف النهائي. ومن الملفات التي تؤكد هذه المعادلة في العلاقات بين طهران وموسكو ما يلي:

1- الصراع السوري: كان واضحاً تركيز التصريحات الإيرانية والروسية خلال مباحثات بوتين – رئيسي، على التجربة المشتركة للبلدين في سوريا، سواء لجهة دعم نظام الرئيس بشار الأسد أو محاربة التنظيمات المسلحة والإرهابية. لكن على الأرض، ثمة تناقضات واضحة في سياسة البلدين في سوريا؛ فإلى جانب الصراع بينهما على النفوذ هناك، ثمة قضية خلافية جوهرية تتعلق بالموقف من السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا، لاسيما الاستهداف العسكري الإسرائيلي للوجود العسكري الإيراني هناك، إذ لا تتوانى إسرائيل عن قصف مقار ومراكز القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها في سوريا. وهنا ترى طهران أن هذا القصف الإسرائيلي غير بعيد عن التفاهمات الروسية - الإسرائيلية، خاصة في ظل السعي الروسي لتعزيز العلاقات مع تل أبيب من جهة، وقناعة موسكو بأن المشروع الإيراني يعيق عملية السلام والاستقرار بين إسرائيل والدول العربية من جهة ثانية.

2- البرنامج النووي الإيراني: على الرغم من وقوف روسيا إلى جانب إيران في مفاوضات الملف النووي، وضغطها على طهران للدخول في الجولة السابعة من مفاوضات فيينا؛ فإن موسكو في العمق تخشى من البرنامج النووي الإيراني، وتحديداً لجهة إمكانية تصنيع إيران أسلحة نووية، لاسيما في ظل تخصيبها لليورانيوم بدرجات عالية من النقاء وبكميات كبيرة. فروسيا في النهاية لا تريد دولة تمتلك أسلحة نووية على حدودها الجنوبية، وتشكل تهديداً بعيد المدى لها، خاصة في ظل الصراع التاريخي بين البلدين على مناطق واسعة من القوقاز الغنية بالطاقة والمهمة للتجارة والنقل.

3- تحولات القوقاز: أدت هزيمة أرمينيا في الحرب الأخيرة مع أذربيجان على إقليم ناغورني قرة باغ، إلى بروز خريطة جيوسياسية جديدة في جنوب القوقاز، حيث بدت إيران، التي كانت تدعم أرمينيا تاريخياً، الخاسر الأكبر في هذا الصراع. ولعل ما يزيد من هول الخسارة الإيرانية هو التقارب الجاري بين تركيا وأرمينيا لتطبيع العلاقات بين البلدين، على وقع مجموعة من المشاريع الإقليمية في مجال النقل والطاقة والتجارة، تربط بين تركيا وأذربيجان عبر الأراضي الأرمينية؛ وهو ما يمهد لجسر تجاري بري حيوي بين تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى. واللافت أن روسيا بدت موافقة على هذه الجهود، حيث استضافت الجولة الأولى من المحادثات التركية – الأرمينية. 

وفي كل هذا تبدو إيران خاسرة، إذ إنها ستفقد ممرات تجارية برية كانت تربط بين تركيا وأذربيجان. ولعل من شأن هذه الخريطة الجيوسياسية للمصالح الإقليمية في جنوب القوقاز، زيادة حجم الفتور بين طهران وموسكو، خاصة أن إيران تعد هذه المناطق جزءاً من جغرافيتها التاريخية التي سيطرت عليها روسيا القيصرية قبل أكثر من قرن، وبالتالي كيف لها أن تبقى خارج الترتيبات الجديدة التي تحدث في جنوب القوقاز.    


لا ثقة كاملة:

إن التوافق الإيراني - الروسي على الاستفادة المتبادلة لمواجهة الخصم الغربي وعقوباته وضغوطه، لا يعني بالضرورة تطابق في سياسات البلدين حتى النهاية، والظروف الحالية التي تدفع بهما إلى التوافق قد لا تستمر إلى ما لا نهاية، لاسيما في ظل البرجماتية التي تتبعها طهران في سياستها الخارجية. ولعل لسان حال موسكو يسأل في سره؛ ماذا لو توصلت إيران والغرب إلى اتفاق نووي جديد؟ هل ستتمسك إيران وقتها بخطابها الداعي إلى شراكة استراتيجية مع روسيا؟ وهذا سؤال لابد أن يعود بصانع القرار الروسي إلى ما جرى من تعاون بين الولايات المتحدة وإيران خلال الغزو الأمريكي لأفغانستان في عام 2001، وتكرار السيناريو نفسه خلال الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003.

وعليه يمكن القول إن ثمة قناعة عميقة لدى موسكو بأن طهران فور وصولها إلى اتفاق نووي مع واشنطن، ستغير من خطابها السابق، وتنخرط في مصالح كبرى مع الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة أن الغرب يمتلك مفاتيح المال والتجارة والاستثمار والخبرة والتكنولوجيا.. إلخ، وجميع هذه الدول تشكل عناصر جذب لإيران في إطار سعيها لإلغاء العقوبات المفروضة عليها أولاً، والتطلع إلى المزيد من المشاريع والنفوذ ثانياً. وبالتالي يمكن القول إنه لا ثقة نهائية لموسكو في الخطاب الإيراني الداعي إلى شراكة استراتيجية، فالأولى تدرك جيداً أن هذا الخطاب أقرب إلى تكتيك سياسي فرضته ظروف التوتر في العلاقات مع الغرب، وأن إيران تسعى من وراء كل ذلك لتقوية موقفها في مفاوضات فيينا وباقي الملفات الخلافية.                                           

ختاماً، تبدو العلاقات الروسية - الإيرانية وكأنها تسير فوق حبل مشدود، حيث يحاول كل طرف التمسك بالآخر للسير أطول مدة ممكنة في مواجهة الصعوبات والتحديات، وزيارة رئيسي إلى موسكو الأيام الماضية لم تخرج عن هذا السياق. فإيران تمارس أقصى برجماتية للتوفيق بين توجهها شرقاً نحو موسكو وبكين، وبين تمسكها بالمفاوضات في فيينا بحثاً عن اتفاق نووي جديد؛ يكون بمنزلة عقد سياسي جديد مع الغرب. وطهران في ممارساتها هذه البرجماتية، تبدو بحاجة إلى الكثير من التوازن للوصول إلى أهدافها. فيما الثابت أن روسيا التي تتباين سياساتها مع إيران في العديد من الملفات الإقليمية الحيوية لها، تدرك حقيقة سياسة طهران هذه وخلفياتها وأبعادها، ومن كل ذلك يمكن فهم التريث الروسي في التوقيع على اتفاقية شراكة استراتيجية مع إيران.