أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

فجوة التضامن:

دروس إدارة المساعدات الإنسانية الدولية في ظل كورونا

29 ديسمبر، 2021


تشير الخبرة السابقة في مجال المساعدات الإنسانية الدولية إلى أن الكوارث الإنسانية التي حتمت استجابات دولية غالباً ما كانت تضرب دولاً بعينها (زلزال هاييتي) أو أقاليم دون الأخرى (وباء إيبولا في غرب أفريقيا). بيد أن جائحة كوفيد-19 شكلت خبرة مختلفة على الصعد كافة، فقد ضرب الوباء الدول كافة في كل أنحاء العالم، وتفاوتت تداعياتها باختلاف جاهزية الدول لمواجهة ما فرضته من تحديات. وقد شكلت جهود مواجهة تداعيات الوباء على مستوى العالم تحدياً كبيراً، استدعى زيادة الحاجة إلى المساعدات الإنسانية بنحو 40% في عام 2020 مقارنة بعام 2019. وبينما استمرت الحاجة إلى المساعدات الإنسانية في زيادة مضطردة في عام 2021، فإن هذه الزيادة لم تقابلها زيادة مماثلة في تمويل المساعدات من قِبل الدول المانحة الكبرى والمؤسسات متعددة الأطراف. 

وتعتبر الدول التي تعاني أوضاعاً هشة أو صراعات، هي الأكثر تأثراً بجائحة كورونا، حيث إن فرض حالات الإغلاق العام وما ترتب عليها من تباطؤ اقتصادي في هذه الدول أدى إلى ضياع فرص العمل ومصادر الدخل، وصعوبة الاستفادة من برامج شبكات الدعم الاجتماعي، فضلاً عن غياب الأمن الغذائي، وصعوبة الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية؛ الأمر الذي وضع مزيداً من الناس في مواقف صعبة استدعت الحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة. وأشارت التقديرات إلى أن نحو 70% من القاطنين في هذه السياقات الهشة والمتأثرة بالصراعات، قد تدهورت أوضاعهم المعيشية، مما يستلزم مزيداً من المساعدات الإنسانية لهم. 

وتطرح مسألة المساعدات الإنسانية في ظل جائحة كورونا، العديد من التساؤلات بخصوص مدى قدرة الدول المانحة على توفير التمويل اللازم للاحتياجات الإنسانية المتزايدة، فضلاً عن أهداف الدول المانحة من وراء إعطاء هذه المساعدات، وأخيراً التغيرات التي طرأت على آليات إدارة هذه المساعدات. 

فجوة المساعدات الإنسانية:

بحلول ديسمبر 2020، التزم المانحون الدوليون بتوفير ما يقرب من 7 مليارات دولار للاستجابة العاجلة لمواجهة تداعيات جائحة كورونا، وتضمن هذا المبلغ ما يقرب من 4 مليارات دولار تم تخصيصها في إطار خطة الاستجابة الإنسانية العالمية. وتشير الإحصاءات المختلفة إلى وجود فجوة كبيرة بين الاحتياجات الفعلية، والتمويل الذي نجحت الدول المانحة في الوفاء به. فمن بين 52 دولة صُنفت على أنها الأكثر احتياجاً للمساعدات الإنسانية، فإن 5 دول فقط تلقت 75% من احتياجاتها الفعلية، بينما تلقت 12 دولة أقل من 25% من هذه الاحتياجات. كما أن فجوة التمويل تلك كانت أكثر وضوحاً في بعض الأقاليم دون الأخرى، فعلى سبيل المثال تلقت الدول المستحقة للمساعدات الإنسانية في شرق أوروبا نحو 83% من احتياجاتها، فيما انخفضت هذه النسبة إلى ما دون 25% في الكاريبي وأمريكا اللاتينية. 

وقد أثر نقص التمويل المتاح على قدرة المنظمات العاملة في مجال الإغاثة الإنسانية على الوفاء بمتطلبات إدارة عملياتها، وأجبر بعض المنظمات العاملة في المجال على تعليق برامجها بالكامل مثل المنظمة الدولية للهجرة، بينما اضطرت منظمات أخرى إلى إنهاء برامجها في عدد من الدول، مثل "أوكسفام" التي أعلنت في عام 2020 عن إغلاق برامجها في 18 دولة بعد انخفاض تمويلها بما يقدر بنحو 16 مليون جنيه استرليني، وهو الأمر الذي سيؤثر حتماً على الشراكات التي تجمعها بنحو 700 منظمة محلية في الدول التي تعمل بها.  

إشكالية التوازن:

على صعيد الدول المانحة للمساعدات الإنسانية، تعد الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا أكبر دولتين مانحتين؛ إذ قدمتا سوياً 47% من المنح الإنسانية المُقدمة من الحكومات لمواجهة تداعيات وباء كورونا. وتباينت مساهمات الدول المانحة ما بين دول رفعت من سقف مساهماتها مثل كندا وفنلندا وفرنسا والنرويج، وأخرى تراجعت مساهماتها، مثل أستراليا وإيطاليا والبرتغال، على سبيل المثال. ومع الضغوط الشديدة التي واجهت العديد من الدول المانحة على أثر الركود الاقتصادي الذي صاحب أزمة كورونا، ظهر جدل داخلي في بعض هذه الدول بين اتجاه يرى تقليص المساعدات وإعادة توجيهها للاستجابة للمتطلبات والتحديات الداخلية، واتجاه آخر يرى ضرورة الإبقاء على هذه المساعدات باعتبار أن التضامن الدولي هو المخرج الوحيد لمواجهة تداعيات الجائحة. 

ويعد تحقيق التوازن الدقيق بين اعتبارات التضامن العالمي والاستجابة إلى الاحتياجات الإنسانية والتنموية من جانب، وبين تحقيق المصالح الوطنية للدول المانحة من جانب آخر؛ إحدى القضايا الأساسية في مجال المساعدات الإنسانية. وثمة اتفاق عام على أن الدول المانحة الملتزمة بالمساعدات هي تلك التي تعطي أولوية للتضامن العالمي من خلال تغليب الاعتبارات الإنسانية والتنموية والمصالح الاستراتيجية طويلة المدى، وليس المصالح قصيرة المدى. 

وقد شهد هذا التوازن الدقيق تحديات بالغة إبان جائحة كورونا، فقد كشف "مؤشر المعونة المبدئي" principled Aid Index، عن تراجع في التزام الدول المانحة بالمساعدات الإنسانية، وميلاً إلى ربط المساعدات بتأمين المصالح قصيرة المدى للدول المانحة مثل تأمين المصالح التجارية والجيوسياسية. ويسعى هذا المؤشر إلى ترتيب الدول فيما يتعلق بالتزامها المبدئي بالمساعدات، من خلال 3 متغيرات أساسية؛ أولها هل يتم توجيه المساعدات لتلبية الاحتياجات الحقيقية للمستفيدين. وثانيها، مدى مساهمة المساعدات في معالجة القضايا التي لا يمكن حلها إلا من خلال تعاون دولي. وثالثها، إلى أي مدى ترتبط المساعدات المقدمة بالمصالح التجارية والاسترايجية للدول المانحة. وقد عكس هذا المؤشر في عام 2020 تراجعاً في الالتزام المبدئي بالمساعدات، يمكن أن يعزى إلى قيام الدول المانحة بتخصيص المساعدات بطرق تؤمن مصالحها المباشرة قصيرة المدى. ولعل تركيز اليابان وأستراليا لمساعداتهما في دول الجوار المباشر، ومن ثم ربط المساعدات بمصالحهما الاستراتيجية في دوائر حركتهما المباشرة؛ مثالاً دالاً في هذا الشأن. 

وقد سعت دول أخرى مثل الصين إلى استخدام مساعداتها الإنسانية كأداة من أدوات سياستها الخارجية، للرد على حملات الدعاية السلبية التي استهدفتها وحمّلتها مسؤولية نشر وباء كورونا. ولعل المساعدات الإنسانية التي قدمتها الصين لإيطاليا دالة في هذا الشأن، إذ لم تخل تصريحات المسؤولين من رمزيات أشارت إلى الصداقة بين البلدين. كما أن المساعدات الصينية التي استفادت منها دول ومنظمات دولية وإقليمية، هدفت إلى تصوير الصين كدولة قادرة على ملء فراغ القيادة في وقت انكفأت فيه العديد من الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، على نفسها لمواجهة تحدياتها الداخلية. وهذا الانكفاء الذاتي دفع الكثير من مواطني وحكومات الدول الأوروبية إلى الحديث عن "التضامن الأوروبي الغائب"، أو توصيف هذا التضامن باعتباره "خرافة".  

تحولات كاشفة:

فرضت جائحة كورونا تحديات بالغة لآليات إدارة المساعدات الإنسانية بدءاً من حشد التمويل، مروراً بكيفية توزيع هذه المساعدات على المجتمعات المستفيدة، وغيرها. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى التحولات التالية:


1- التركيز على المساعدات العاجلة في ظل كورونا: حظيت البرامج والمبادرات الهادفة إلى الاستجابة لتداعيات جائحة كورونا بالجانب الأكبر من التمويل، بالمقارنة بمجالات المساعدات الإنسانية الأخرى. فعلى سبيل المثال، خصصت الدنمارك ما يقرب من 20% من مساعداتها الإنسانية في عام 2020 لبرامج ذات صلة بالوباء، وينطبق الأمر ذاته على المانحين الآخرين مثل الولايات المتحدة وألمانيا. وقد ترتب على إعادة التخصيص تلك، قيام العديد من المنظمات العاملة في مجال العمل الانساني بتغيير أولويات مجالات العمل من برامج التنمية طويلة المدى إلى الاستجابات الإنسانية الطارئة والتركيز على البرامج التي تُوصف باعتبارها "عاجلة" و"حيوية" وتلك "المنقذة للحياة". وهذا التحدي أعاد إلى الواجهة مجدداً جدلية العلاقة بين التنمية والمساعدات الإنسانية. فضلاً عن ذلك، يثير هذا التحول تساؤلات حول من الذي يحدد أهمية وجوهرية هذه المشروعات بالنسبة للدول المتلقية والمستهدفين من المساعدات. 

2- أهمية الاعتماد بشكل أكبر على المنظمات المحلية في توزيع المساعدات: كشفت الظروف الاستثنائية التي فرضتها جائحة كورونا، عن عدم المساواة والتفاوت في هيكل المساعدات الدولية، لاسيما فيما يتعلق بالأدوار التي تلعبها المنظمات الدولية (الحكومية وغير الحكومية) في مقابل المنظمات الوطنية والمحلية في الدول المتلقية للمساعدات الإنسانية. فهيكل المساعدات الحالي يسمح بضخ النسبة الأكبر من التمويل إلى المنظمات الدولية التي تتولى مسؤولية توزيعها على المجتمعات المستهدفة، في مقابل نسبة أقل تحصل عليها المنظمات الوطنية والمحلية بشكل مباشر. 

بيد أن ظروف الجائحة كشفت عن مثالب هذه السمة، فمع القيود التي فُرضت على حرية الحركة بين الدول وداخلها (بعض هذه القيود هدفت إلى الحد من انتشار الفيروس، والبعض الآخر هدف إلى تعزيز سيطرة الحكومات الوطنية على توزيع المساعدات)، واجهت المنظمات الدولية قيوداً شديدة على دخول العديد من الدول، وواجه العاملون بها صعوبات تتعلق بالانتقال بحرية داخل هذه الدول؛ الأمر الذي قوض من قدرتهم على الوصول إلى المجتمعات المستهدفة الأكثر احتياجاً للمساعدات. 

وهذه المتغيرات دفعت إلى ضرورة الاعتماد على المنظمات الوطنية والمحلية التي تركها الهيكل الحالي لإدارة المساعدات عاجزة عن الوفاء بهذا الدور، لاسيما وأن احتياجاتها قد تمت تلبيتها بنسبة ضئيلة جداً لا تتجاوز 4%. وبالتالي فإن أزمة كورونا أحيت النقاش حول التحول إلى الاعتماد بدرجة أكبر على الشركاء المحليين الأكثر قدرة على توصيل المساعدات إلى المجتمعات المستهدفة لاسيما في الظروف الاستثنائية. 

3- الميل إلى تقديم المساعدات النقدية: فرضت أزمة كورونا تغييراً على شكل المساعدات المقدمة، ففي ضوء القيود على الحركة بين الدول على النحو المذكور آنفاً، ومع صعوبة نقل المساعدات العينية؛ باتت الدول المانحة أكثر قبولاً لتقديم المساعدات النقدية، وذلك بالتنسيق مع برامج الحماية الاجتماعية وبرامج الضمان الاجتماعي التي دشنتها الدول لتخفيف آثار الجائحة على الفئات الأكثر احتياجاً. وتحقق المساعدات النقدية جملة من الفوائد، منها دعم الأسواق المحلية، وتعزيز الاقتصادات الوطنية، وتمكين الفئات المستهدفة من خلال إتاحة الفرصة لهم لتحديد أولوياتهم الخاصة وفقاً لاحتياجاتهم الفعلية وليس وفقاً لما تقدمه المنظمات العاملة في مجال العمل الإنساني. 

كما أصبحت الدول المانحة أكثر قبولاً لما يُعرف بـ "التمويل المرن" والذي يعني عدم تخصيص المساعدات لمجالات أو برامج معينة، وترك قرارات التخصيص للهيئات العاملة في مجال تنفيذ المشروعات. وفي هذا الإطار، فإن نحو 30% فقط من المساعدات المُقدمة في إطار خطة الاستجابة الإنسانية العالمية تم تخصيصه، فيما اتسم الجزء المتبقي بالمرونة.  

ختاماً، يمكن القول إن جائحة كورونا كشفت الكثير من جوانب الضعف في هيكل إدارة المساعدات الإنسانية، كما أنها كشفت عن دروس مهمة وتوصيات يجب العمل بها مستقبلاً؛ ومنها ضرورة أن تطور الدول المانحة خططاً عاجلة ومرنه تتيح لها الاستجابة لمثل حالات الطوارئ هذه وبما يسمح لها بتلبية متطلبات الدول الأكثر احتياجاً على المديين القصير والطويل، وأهمية زيادة التمويل المباشر للمنظمات الإنسانية المحلية والوطنية وتمكينها من لعب أدوار أكبر في تنفيذ البرامج والمشروعات، فضلاً عن تعزيز الشفافية فيما يتعلق بكيفية توزيع المساعدات الإنسانية بين الجهات المختلفة وسرعة توزيعها، وأخيراً بناء قدرة المجتمعات على الصمود بدلاً من التوسع في توزيع المساعدات الإنسانية.