أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تزايد الفقر:

تأثير الأزمة الاقتصادية على المستوى المعيشي للأتراك

30 نوفمبر، 2020


مر الاقتصاد التركي بتحولات دراماتيكية خلال السنوات الأخيرة، في ظل الصعوبات المالية التي تواجهها الحكومة، بجانب الشركات الخاصة، مع تزايد وتضخم حجم المديونيات، ووصولها إلى مستويات قياسية، باتت تمثل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الكلي، ووصلت تبعاتها إلى الحياة اليومية للأتراك، الذين عانوا، ومازالوا، من ارتفاع غير مسبوق في تكلفة المعيشة، وبشكل لم يسبق له مثيل منذ ما يقرب من عقدين من الزمان.

وقد كشفت بعض البيانات والمؤشرات الاقتصادية حجم المعاناة التي بات يعايشها الأتراك، في ظل تلك المعطيات السلبية. ولا ريب أن هذه المعاناة قد تزايدت وتيرتها بشكل ملحوظ خلال الشهور الماضية، لاسيما مع اندلاع أزمة كورونا، التي اجتاحت العالم، وألقت بظلالها على الاقتصادات العالمية الأكثر اعتماداً على التدفقات النقدية الآتية من الخارج، كالاقتصاد التركي الذي يعتمد بشكل كبير على إيرادات القطاع السياحي، وكذلك على الاستثمارات الأجنبية، فضلاً عن استغلال الدولة لموقعها الجغرافي وجعل نفسها مركزاً لعبور مصادر الطاقة من دول الإنتاج إلى أسواق الاستهلاك.

ضغوط مباشرة:

نتيجة للظروف الاستثنائية التي مر بها الاقتصاد التركي خلال السنوات الأخيرة، برزت العديد من مظاهر الضعف والسوء في الأداء، منها ما يكون له في العادة انعكاس مباشر على الحياة اليومية للمواطنين، ومن أهمها الانهيار السريع لسعر صرف العملة (الليرة) وارتفاع معدلات التضخم، وقد صُنِّفت الليرة خلال الأسابيع الماضية كإحدى أسوأ عملات الأسواق الناشئة أداءً على المستوى العالمي، بعد تراجعها بشكل متواصل في مواجهة الدولار الأمريكي، وخسارتها نحو 26% من قيمتها منذ بداية عام 2020، ووصول سعر صرفها إلى مستويات قياسية بلغت أكثر من 8.5 ليرة لكل دولار في ختام تعاملات الأسبوع الماضي.

وفي الحقيقة، فإن تراجع الليرة لم يبدأ في مطلع العام الجاري فقط، بل إنها تتبنى اتجاهاً عاماً تنازلياً منذ أبريل من عام 2016، عندما بلغ سعر الصرف 2.85 ليرة للدولار، وبذلك تكون قد فقدت أكثر من 66% من قيمتها على مدار السنوات الأربع الماضية. وقد أدى تراجع قيمة الليرة إلى ارتفاع معدل التضخم إلى مستويات ذات وقع صعب على مستويات المعيشة في البلاد، حيث كشفت بيانات هيئة الإحصاء التركية في مطلع نوفمبر 2020 أنه وصل إلى نحو 12%. ويمثل وصول التضخم إلى هذا المستوى في تركيا، في ظل أزمة كورونا، مؤشراً على أن الاقتصاد يعاني من مشكلات معقدة، وحالة من عدم الاستقرار المالي والنقدي، لاسيما أن ظروف كورونا تسببت في تراجع معدلات التضخم في معظم دول العالم، مع تراجع مؤشرات الطلب الاستهلاكي بسبب ظروف الإغلاق الاقتصادي.

وقد بدت الآثار السلبية للأوضاع الاقتصادية في تركيا على مستويات المعيشة في البلاد في المؤشرات التي كشف عنها اتحاد نقابات العمال التركية خلال الفترة الماضية، ومنها ارتفاع حد الجوع وحد الفقر في البلاد، حيث قال الاتحاد أن حد الجوع في تركيا، الذي يشير إلى مقدار ما تنفقه أسرة مكونة من 4 أفراد من أجل الحصول على نظام غذائي صحي ومتوازن وكافٍ، يبلغ 2,517 ليرة تركية (296 دولار). وقدَّر الاتحاد أن حد الفقر للأسر في البلاد، وصل إلى 8,198 ليرة (965 دولار)، ويمثل هذا المبلغ تكلفة المصروفات المطلوبة للمأكل والملبس والمسكن والمواصلات والتعليم والصحة وما شابه ذلك. 

ووفق بيانات الاتحاد، فقد ارتفع الحد الأدنى من الإنفاق على الطعام للأسر التركية من 4 أفراد بنسبة 1.39% في نهاية أكتوبر 2020 مقارنة بالشهر السابق، بينما بلغت نسبة الزيادة السنوية لأسعار الطعام 15.47%، وهو ما يعكس حجم الارتفاع الكبير في تكلفة المعيشة في تركيا في الوقت الراهن، والذي إن كان يعود في جزء منه إلى الظروف الاستثنائية الناتجة عن تداعيات أزمة كورونا، لكن النسبة الأكبر منه كانت بسبب الأزمة الاقتصادية الداخلية، والتي سبق الإِشارة إليه، ولاسيما معدل التضخم، الذي يعكس بشكل غير مباشر الارتفاع في تكلفة المعيشة.

وإبان ذلك، أظهرت العديد من التحليلات والتقارير التركية والدولية مستوى المعاناة التي تعيشها العديد من الفئات الاجتماعية في تركيا، بسبب ظروف التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، ولاسيما الموظفين الحكوميين والمدرسين، والذين يعانون معضلة حقيقية بسبب بقاء دخولهم ورواتبهم من دون تغيير. وبحسب تقديرات عديدة، فإن راتب كل مدرس يعمل لدى المؤسسات التعليمية الحكومية في تركيا يصل إلى نحو 4,900 ليرة (نحو 623 دولار)، وهذا يعني أن هذا الراتب لم يعد يكفي لتغطية تكلفة المصروفات الضرورية المطلوبة لتأمين المأكل والملبس والمسكن والمواصلات والتعليم والصحة وغيرها، والذي يمثله حد الفقر للأسر في البلاد. وبعبارة أخرى، فإن معظم المدرسين العاملين في المؤسسات التعليمية الحكومية في تركيا باتوا الآن يعيشون تحت خط الفقر، الذي حدده اتحاد نقابات العمال التركية في تقريره الأخير.

وقد صرح صدر الدين كايا رئيس فرع نقابة المعلمين بمقاطعة ديار بكر التركية، لموقع "العربية نت" في 29 نوفمبر الجاري، بأن "الراتب الذي يتقاضاه المدرس في تركيا الآن، والذي يقع في الترتيب الخامس من معدل الرواتب التي يحصل عليها المعلمون في الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، هو راتب يضع أصحابه (المعلمين) تحت خط الفقر"، مضيفاً أن "60% من المدرسين العاملين في مدارس الدولة لا تكفيهم رواتبهم لمعيشتهم بشكل كلي".

في النهاية، تشير هذه المعطيات إلى أن الظروف التي يمر بها الاقتصاد التركي الآن تدفع المزيد من الأتراك يوماً بعد يوم إلى الانزلاق تحت خط الفقر. وبرغم أن هذا الأمر له وقعه الصعب على الأتراك أنفسهم ومستويات معيشتهم ومعاناتهم اليومية، فإنه أمر سيكون له انعكاساته السلبية على فرص التعافي الاقتصادي التركي خلال الفترات المقبلة، لاسيما أن تراجع مستويات المعيشة على هذا النحو سيؤدي إلى تراجع القدرات الشرائية والطلب الاستهلاكي للأتراك، وهو ما سيضيق هامش النمو المتاح أمام الاقتصاد التركي.