تزايد الحديث مؤخرًا عن إمكانية تشكيل كلٍّ من روسيا وتركيا وإيران تحالفًا أو جبهة موحدة، في أعقاب تعرضها لعقوبات أمريكية، وتضامنها فيما بينها في مواجهة هذه العقوبات، والتنسيق القائم بين الدول الثلاث في سوريا منذ يناير 2017 من خلال "محادثات أستانة"، فضلًا عن تبنيها سياسات إقليمية مناهضة لتلك التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يبرز بوضوح في الحالة الكردية. وبالرغم من وجود عوامل تدفع باتجاه تشكيل هذا التحالف بين الدول الثلاث، إلا أنه توجد مجموعة من المعوقات قد تُشكل تحديًا لنجاحه، خاصة في ظل الخلاف الذي بدا مؤخرًا بين روسيا وإيران من جهة وتركيا من جهة أخرى حول كيفية التعامل مع ملف مدينة إدلب آخر معاقل جماعات المعارضة السورية المسلحة.
محفزات التقارب :
يمكن القول إن هناك مجموعة من العوامل تحفز تحالف الدول الثلاث، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:
1- مواجهة العقوبات الأمريكية: فرضت الإدارة الأمريكية في شهر أغسطس الماضي فقط، عقوبات على كل من روسيا وتركيا وإيران. حيث فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات جديدة على موسكو، في 8 أغسطس، على خلفية تورطها في تسميم العميل الروسي السابق "سكريبال" وابنته بغاز الأعصاب في بريطانيا.
وعلى الصعيد التركي، جمّدت واشنطن، في الأول من أغسطس، أموال وزيري الداخلية والعدل التركيين بالولايات المتحدة، ومنعتهما من دخول الأراضي الأمريكية، وفي 13 أغسطس، ضاعفت واشنطن الرسوم على واردات الألومنيوم والصلب من تركيا لتصبح 20% و50% على الترتيب، وذلك على خلفية رفض تركيا الإفراج عن القس الأمريكي "أندرو برانسون" المحتجز لديها منذ ديسمبر 2016، والذي يحاكم بتهمتي التجسس والإرهاب. كما وافق الرئيس "ترامب"، في 14 أغسطس، على مشروع قانون موازنة الإنفاق الدفاعي لعام 2019، والذي يتضمن تأخير تسليم مقاتلات "إف 35" إلى تركيا، وذلك على خلفية اعتزام تركيا شراء منظومة الدفاع الصاروخية الروسية "إس-400".
وفيما يتعلق بإيران، فقد بدأ سريان الحزمة الأولى من العقوبات الاقتصادية الأمريكية عليها، في 7 أغسطس، مستهدفة النظام المصرفي الإيراني وعددًا من الصناعات الرئيسية، بعد قرار "ترامب" الانسحاب من الاتفاق النووي واستئناف فرض العقوبات على إيران، في مايو الماضي. ومن المقرر أن تدخل الحزمة الثانية من العقوبات حيز التنفيذ في شهر نوفمبر المقبل مستهدفة بالأساس قطاع النفط الإيراني.
وقد تضامنت الدول الثلاث مع بعضها في مواجهة العقوبات الأمريكية، فقد أعلنت تركيا صراحة رفضها الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران واستئناف العقوبات عليها، وأعلن وزير الطاقة التركي "فاتح دونماز"، في 8 أغسطس، مواصلة تركيا تعاملاتها التجارية مع إيران، وشراء الغاز الطبيعي منها. وفيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية تجاه روسيا وإيران، قال وزير الخارجية التركي "تشاووش أوغلو"، إن "تركيا غير مجبرة على الالتزام بالعقوبات الأمريكية". كما تضامنت إيران مع تركيا، بإعلان المتحدث الرسمي لوزارة خارجيتها "بهرام قاسمي"، في 12 أغسطس، أن "تركيا ليست وحيدة، وأن طهران مستعدة لتقديم كافة أنواع الدعم لتركيا وشعبها في مواجهة العقوبات الأمريكية". وعلى الصعيد ذاته، اتهم وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف"، خلال زيارته لأنقرة في 14 أغسطس، واشنطن بـ"استهداف روسيا وتركيا وإيران بالعقوبات".
كما تسعى الدول الثلاث لإجراء تعاملاتها التجارية البينية بالعملة المحلية بدلًا من الدولار الأمريكي، فقد أعلن الرئيس التركي "أردوغان" في 8 أغسطس، أن بلاده تخطط لإجراء التبادل التجاري مع روسيا وإيران بالعملة المحلية، وهو ما أكده وزير الخارجية الروسي، في 14 أغسطس، بالقول إن "استخدام العملات الوطنية في التبادل التجاري ظل لسنوات عديدة أحد المهام التي حددها رئيسا روسيا وتركيا، وأن عمليات متطابقة كانت تحدث في علاقاتنا مع إيران". وفي 4 سبتمبر، أفاد وزير التجارة والصناعة الروسي "دينيس مانتوروف"، بأن قطاع السيارات الروسي بدأ بتنفيذ صفقاته بالعملتين الوطنيتين مع تركيا.
2- تهديدات الانفصاليين الأكراد: تتشارك كل من تركيا وإيران المخاوف من إمكانية نجاح أكراد الشمال السوري، ممثلين في "حزب الاتحاد الديمقراطي" وذراعه العسكرية "وحدات حماية الشعب الكردية"، في تأسيس دولة لهم في مناطق سيطرتهم بشمال سوريا، وما لذلك من تداعيات سلبية على أمنهما القومي، حيث تتواجد بتركيا وإيران أقليات كردية لديها تطلعات إلى إقامة حكم ذاتي في مناطق تواجدها. وتخوض قوات الأمن التركية مواجهات عنيفة ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني الانفصالي في جنوب شرق تركيا، كما تخوض القوات الإيرانية مواجهات متقطعة مع مسلحي حزب الحياة الحرة لكردستان "بيجاك" بشمال غرب إيران والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني على الحدود مع العراق، ولهذه الأحزاب الكردية قواعد في إقليم كردستان العراق وهو ما يدفع الدولتين لتوجيه ضربات لقواعدهم هناك بين حين وآخر.
وتنسق كلٌّ من تركيا وإيران معًا لمواجهة تهديدات الانفصاليين الأكراد، ففي يونيو 2018 صرح وزير الخارجية التركي بأن تركيا وإيران على اتصال لتطوير التعاون بينهما لمواجهة مسلحي حزب العمال الكردستاني في منطقة قنديل بشمال العراق. واتفقت تركيا وإيران، في أغسطس 2017، على تـــعزيز تعاونهما العسكري والأمني والاستخباري في مواجهة الجماعات الإرهابية وتعزيز أمن الحدود بينهما لمنع مرور المسلحين الأكراد على جانبي الحدود، وذلك في ختام زيارة رئيس الأركان الإيراني "الجنرال محمد باقري" لتركيا، وهي أول زيارة لقائد الجيش الإيراني منذ ثورة 1979. كما تتعاون كل من تركيا وإيران في بناء جدار طوله 144 كلم، مزود بأبراج وأسوار حديدية، على طول الحدود التركية الإيرانية، لمنع تنقل المقاتلين الأكراد المتمركزين في جبال قنديل بشمال العراق، ومنع تهريب السلاح بين حزب العمال الكردستاني وحزب الحياة الحرة.
وعلى الرغم من أن روسيا ليست لديها عداوة مباشرة مع الأكراد، إلا أنها قلقة من علاقة المقاتلين الأكراد في شمال سوريا بالولايات المتحدة الأمريكية التي تقدم لهم دعمًا عسكريًّا، وتعتمد عليهم كقوة ميدانية لها في سوريا، وانتشار قوات أمريكية في مناطق سيطرتهم شرقي الفرات، فضلًا عن قيام الولايات المتحدة بنصب أجهزة رادار متطورة في منطقتي عين العرب (كوباني) والرميلان بريف الحسكة، تمهيدًا لإنشاء منظومة دفاعية بمناطق سيطرة الأكراد، وفقًا لما كشف عنه أحد قيادات قوات سوريا الديمقراطية في 25 أغسطس، وذلك بالتزامن مع قيام ممثل وزارة الخارجية الأمريكية "ويليام روباك"، بزيارة الأراضي الخاضعة لسيطرة الأكراد في سوريا. وهي الخطوة التي أغضبت روسيا، حيث اعتبر وزير خارجيتها "سيرجي لافروف" أن "أكبر تهديد لسيادة سوريا ووحدتها يأتي من شرق الفرات، من المناطق الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (يتشكل غالبيتها من مقاتلين أكراد) المدعومة من واشنطن، حيث تُقام تحت إشراف أمريكا هياكل تتمتع بحكم ذاتي، مشددًا على أن موسكو كانت وستظل تطالب الولايات المتحدة بوقف هذه الأنشطة غير المشروعة".
3- تأمين تدفقات الغاز: تُعد كل من روسيا وإيران أكبر موردين للغاز الطبيعي إلى تركيا، حيث تأتي روسيا في المرتبة الأولى بنحو 30 مليار متر مكعب سنويًّا، تليها إيران بنحو 11 مليار متر مكعب سنويًّا، وتحرص تركيا على إبقاء علاقتها الاقتصادية جيدة مع هاتين الدولتين، حتى في أوقات التوتر، لضمان استمرار تدفقات الغاز، خاصة في ظل الطلب المتزايد عليه في تركيا والذي يقدر بمعدل 2.3% سنويًّا. كما تشترك روسيا وتركيا في مشروع إنشاء خط أنابيب "السيل التركي" TurkStream المكون من خطي أنابيب سعة كل منهما 15.75 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا، يمتدان من روسيا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا عبر البحر الأسود، على أن يغذي الأنبوب الأول تركيا، والثاني دول جنوب شرق وجنوب أوروبا.
معوقات متعددة:
على جانب آخر، توجد مجموعة من الخلافات بينهم يمكن أن تشكل عائقًا أمام اكتمال تحالفهم، يتمثل أبرزها في:
1- تضارب المصالح في سوريا: يعد الصراع السوري أحد أبرز التحديات التي تواجه إمكانية نجاح التحالف بين الدول الثلاث، فعلى الرغم من نجاح الدول الثلاث في إنشاء آلية ثلاثية للتنسيق فيما بينهم بشأن الأزمة السورية "محادثات أستانة"، إلا أنها لم تنجح في نفي حقيقة وجود صراع أو حرب بالوكالة بين روسيا وإيران اللتين تدعمان النظام السوري من جهة، وتركيا التي تدعم جماعات المعارضة من جهة أخرى، وهو ما بدا واضحًا في اجتماع أستانة الأخير، في 7 سبتمبر. ففي الوقت الذي شدد فيه الرئيسان الروسي "بوتين" والإيراني "روحاني" على طرد المقاتلين من إدلب، واستعادة النظام السوري سيطرته على المحافظة، فقد حذر "أردوغان" من "حمام دم"، داعيًا إلى إعلان وقف لإطلاق النار في إدلب.
وقد أعلن الرئيسان التركي والروسي، في 17 سبتمبر، عقب لقائهما في سوتشي، اتفاقًا لإقامة منطقة منزوعة السلاح في إدلب، بما يضمن استقرار الوضع هناك، والذي يقضي بإقامة منطقة منزوعة السلاح بعرض يتراوح بين 15 و20 كلم على طول خط التماس بين مناطق المعارضة والنظام على طول الحدود الإدارية لإدلب، بحلول 15 أكتوبر المقبل، على أن تسحب كافة فصائل المعارضة أسلحتها الثقيلة من المنطقة، فضلًا عن انسحاب المقاتلين المتشددين بما في ذلك هيئة تحرير الشام "جبهة النصرة".
غير أن هناك مخاوف من فشل هذا الاتفاق في منع النظام وحلفائه من اقتحام إدلب، في ظل شكوك حول نجاح تركيا في إقناع مقاتلي هيئة تحرير الشام الذين يسيطرون على غالبية إدلب، ويقدر عددهم بعشرة آلاف مقاتل، بالانسحاب وتسليم سلاحهم، وعدم نص الاتفاق على آلية واضحة لتنفيذه، وهو ما جعل البعض ينظر للاتفاق على أنه تأجيل للعملية العسكرية وليس إلغاءها.
2- التناقضات الروسية التركية الإيرانية: يوجد تاريخ حافل بالصراعات بين تركيا من جهة وروسيا وإيران من جهة أخرى، وذلك منذ عهد الدولة العثمانية وقبل تأسيس الجمهورية التركية الحديثة على يد "كمال أتاتورك" في عام 1923، فإيران تعد بمثابة المنافس والعدو التاريخي لتركيا وذلك منذ الإمبراطورية الفارسية حيث الاختلافات المذهبية والصراع على الهيمنة والنفوذ، والأمر ذاته ينطبق على روسيا حيث حرب القرم (1853 -1856) بين الإمبراطورية الروسية الأرثوذكسية والدولة العثمانية. وعقب تأسيس الجمهورية التركية، حرصت تركيا على بناء علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة وأوروبا، وكانت حائط الصد الأول أمام الخطر السوفيتي وأية تهديدات قادمة من المنطقة، خاصة بعد نيلها عضوية حلف الناتو في عام 1949. واعتبرت تركيا الجمهورية الإسلامية الإيرانية "دولة إرهابية" تسعى لتصدير أيديولوجيتها المعادية للعلمانية إلى تركيا.
ورغم التحسن في العلاقات بين الدول الثلاث منذ صعود حزب العدالة والتنمية للحكم، إلا أن حالة التنافس لا تزال قائمة بصورة أو بأخرى في المنطقة، وهو ما يظهر بوضوح في كلٍّ من سوريا والعراق، ولا يزال يُنظر لتركيا على أنها حليف تاريخي وتقليدي لكل من الولايات المتحدة وأوروبا. وعادة ما تعود تركيا إلى حلفائها التقليديين بعد أي توتر في العلاقات بينهما، وتستعين بهم في مواجهة التهديدات الروسية، وهو ما برز في اتجاه تركيا لإصلاح علاقاتها المتوترة مع أوروبا والولايات المتحدة بعد إسقاطها الطائرة الحربية الروسية في نوفمبر 2015.
ومؤخرًا، سعت تركيا إلى الاستعانة بدعم أوروبي في مواجهة روسيا وإيران في الملف السوري، في ظل قلقها من اجتياح النظام بدعم روسي إيراني لمدينة إدلب. ففي يوليو الماضي، دعا "أردوغان" لقمة تركية روسية ألمانية فرنسية لبحث الملف السوري، وقد عقد الاجتماع التحضيري للقمة في 14 سبتمبر. هذا فضلًا عن الترحيب التركي بالضربة العسكرية الأمريكية الفرنسية البريطانية المشتركة ضد مواقع النظام السوري، في أبريل 2018، ردًّا على استخدامه السلاح الكيميائي، ووصف تركيا الضربة "بالإيجابية"، رغم الرفض الروسي الإيراني لها.
وختامًا، يمكن القول إن إمكانية تشكيل تحالف روسي تركي إيراني مرهون باستمرارية القضايا محل التنسيق المشترك، كمواجهة العقوبات الأمريكية، وتهديدات الانفصاليين الأكراد، فضلًا عن نجاحهم في تجنب الصدام في سوريا، يضاف إلى ذلك مواقف القوى الأوروبية والولايات المتحدة من نجاح تشكل تحالف بين الدول الثلاث والاختراقات التي يمكن أن تقوم بها للحيلولة دون ذلك، ونشير في هذا الصدد تحديدًا إلى العلاقة الأمريكية التركية وما يمكن أن تُقدِم عليه الولايات المتحدة لإنهاء حالة التقارب التركي مع روسيا وإيران.