هددت إيران بالانسحاب من الاتفاق النووي في حالة ما إذا أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على اتخاذ قرار مماثل في هذا الملف. ورغم أن ذلك يشير، في الغالب، إلى أنها حددت خياراتها للتعامل مع مرحلة ما بعد وقف العمل بالاتفاق، بعد 12 مايو 2018، في حالة ما إذا حدث ذلك، خاصة أنها كانت تلمح في السابق إلى أن العمل بالاتفاق قد يتواصل حتى في حالة انسحاب واشنطن وفقًا لإطار دولي جديد يسمى بمجموعة "7-1"، التي تضم إيران والقوى الدولية الخمس الأخرى المعنية بالاتفاق مع استثناء الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن ذلك لا ينفي في الوقت نفسه أن الخطوات الأخيرة التي اتخذتها الإدارة الأمريكية تسببت في إرباك حسابات طهران ودفعت مسئوليها إلى الإدلاء بتصريحات متضاربة خلال الفترة الماضية.
وقد أدى اتساع نطاق الخلافات داخل النخبة السياسية ودوائر صنع القرار تجاه الآليات المناسبة للتعامل مع التغييرات التي طرأت على السياسة الأمريكية تجاه إيران، إلى تصاعد حدة هذا الارتباك، على نحو يكشف أن الضغوط التي تفرضها الإدارة الأمريكية باتت تنتج تداعيات مباشرة على التفاعلات السياسية داخل إيران، التي يبدو أنها مقبلة على مرحلة جديدة من التوتر والاحتقان.
اتجاهات متعددة:
بدأت إيران في توجيه إشارات بأن المبادرات السابقة التي طرحتها للتعامل مع أى انسحاب أمريكي محتمل من الاتفاق النووي، على غرار تشكيل مجموعة دولية جديدة معنية باستمرار العمل بالاتفاق النووي، وهى مجموعة "7-1"، لم تعد تتوافق مع المعطيات الجديدة التي فرضتها التغييرات الأخيرة في السياسة الأمريكية.
ففي هذا السياق، قال مساعد وزير الخارجية وعضو وفد التفاوض النووي عباس عراقجي، في 17 مارس 2018، أن "موقف إيران هو أنه ليس بالإمكان بقاء الاتفاق النووي مع انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية ونقض جميع تعهداتها", مضيفًا أن "استنتاجنا أنه إذا انسحب الولايات المتحدة الأمريكية وأعادت فرض العقوبات الأحادية الجانب، فإن إيران لن تستمر في تنفيذ الاتفاق لأنه لا يُؤمِّن مصالحنا".
ويبدو أن ذلك يعود إلى أن أحد الاتجاهات الرئيسية داخل إيران بات يرى أن تعيين جون بولتون مستشارًا للأمن القومي الأمريكي ومايك بومبيو وزيرًا للخارجية يمثل مؤشرًا مهمًا على اتجاه واشنطن نحو تصعيد خيار المواجهة العسكرية من جديد، خاصة أن الأول تحديدًا لم يوجه انتقادات متواصلة لإيران بسبب برنامجها النووي والصفقة التي توصلت إليها مع القوى الدولية في يوليو 2015 فحسب، وإنما يروج أيضًا إلى أن الحل الأساسي لوقف أى مخاطر محتملة قد يفرضها هذا البرنامج هو توجيه ضربة عسكرية لها، وهو ما ظهر بوضوح في المقال الذي كتبه في صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، في 25 مارس 2015، بعنوان "To stop Iran's bomb, bomb Iran".
ومع ذلك، فإن ثمة اتجاهًا آخر ما زال حريصًا على تأكيد أن التغييرات التي طرأت على الإدارة الأمريكية ليست سوى محاولة من جانب واشنطن لشن حرب نفسية ضد طهران، من أجل ممارسة ضغوط عليها ودفعها إلى الاستجابة للمطالب الدولية الخاصة بإجراء تعديلات في الاتفاق النووي، بما يستجيب للتحفظات التي تبديها الإدارة الأمريكية عليه.
وفي رؤية هذا الاتجاه، فإن احتمال إقدام الولايات المتحدة على شن حرب ضد إيران يواجه عقبات عديدة لا تبدو هينة، خاصة في ظل ما يعتبره تضاربًا في مواقف المسئولين الأمريكيين تجاه الملفات الإقليمية المختلفة، والتي تعد إيران طرفًا رئيسيًا فيها، وخاصة الملف السوري.
وقد عبر حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة "كيهان" (الدنيا) عن هذا الاتجاه، عندما أشار، في 5 أبريل 2018، إلى أنه "يمكن اعتبار بولتون فزاعة للضغط على إيران"، من أجل الموافقة على تعديل الاتفاق، "أكثر من كونه من الصقور المندفعين للحرب".
مسارات الأزمة الكورية:
اللافت في هذا السياق، أن الجدل المتصاعد بين النخبة السياسية ودوائر صنع القرار داخل إيران حول تداعيات التغييرات في السياسة الأمريكية على مسارات الاتفاق والمواجهة مع إيران، امتد أيضًا إلى التعامل مع التطورات التي شهدتها العلاقات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، بعد الإعلان عن إمكان عقد لقاء محتمل بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جون اون في مايو المقبل، وهو الشهر نفسه الذي ستوضح فيه الإدارة الأمريكية موقفها من مواصلة تعليق العقوبات المفروضة على إيران أو البدء في إعادة فرضها من جديد.
فرغم أن التيارات المختلفة داخل إيران اتفقت على أن نتائج هذا اللقاء سوف تفرض تداعيات مباشرة على المواجهة المحتملة بين الولايات المتحدة وإيران، حتى وإن لم يعقد في النهاية، إلا أنها اختلفت في تحديد الآليات المختلفة التي يمكن أن تستند إليها إيران في تفاعلها مع الإجراءات التي سوف تتخذها واشنطن في المرحلة القادمة.
فقد اعتبر التيار المؤيد للصفقة النووية أن اتفاق الطرفين على ضرورة عقد لقاء مباشرة يضفي أهمية خاصة على آلية الحوار والمفاوضات من أجل الوصول إلى تسوية سلمية للخلافات العالقة بين الطرفين، بدلاً من التلويح بالخيارات التصعيدية المختلفة.
وربما تساهم أى انفراجة محتملة في العلاقات بين واشنطن وبيونج يانج في تعزيز موقف هذا التيار، الذي دعا في الفترة الماضية إلى عدم منح الفرصة للنخبة المؤيدة للتصعيد مع إيران داخل الولايات المتحدة، من خلال الامتناع عن اتخاذ إجراءات استفزازية، كإجراء مزيد من تجارب إطلاق الصواريخ الباليستية.
لكن ثمة تيارًا آخر يرى أن موافقة واشنطن على عقد هذا اللقاء يشير إلى أن السياسة المتشددة التي تبنتها كوريا الشمالية حققت أهدافها في النهاية، باعتبار أن إصرار بيونج يانج على التصعيد باستمرار في مواجهة التهديدات الأمريكية، هو الذي دفع الإدارة الأمريكية إلى القبول بهذا الخيار.
وهنا، فإن ذلك لا ينفصل عن محاولات بعض أنصار هذا التيار الإشارة إلى أن امتلاك كوريا الشمالية للقنبلة النووية وضع حدودًا سواء للتصعيد الذي حدث بين الطرفين خلال المرحلة الماضية، أو للخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها واشنطن في المرحلة المقبلة، بما يعني أن امتلاك القنبلة النووية بات يكتسب زخمًا خاصًا في رؤية هؤلاء، باعتبار أنه يدعم موقف إيران ويضعف من احتمال تعرضها لضربة عسكرية أو انخراطها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
واللافت في هذا السياق، أن هذا التيار لن يسع فقط للاستفادة من عقد اللقاء، بل من عدم عقده أيضًا، في ظل الشكوك التي ما زالت تبديها اتجاهات عديدة من إمكانية اتفاق واشنطن وبيونج يانج على أهداف محددة لهذا اللقاء في النهاية.
وبعبارة أخرى، فإن الفشل في عقد هذا الاتفاق سوف يدعم رؤية هذا التيار التي يزعم فيها أنه لا يمكن التعويل على إمكانية الوصول إلى تفاهمات أو صفقات مع واشنطن، حتى لو أبدت موافقتها على ذلك، حيث ما زال مصرًا على أنه لا يمكن الوثوق في أى توجه أمريكي نحو الاستناد للخيار الدبلوماسي في تسوية الخلافات بين الطرفين.
وفي النهاية، يمكن القول إن هذا الجدل سوف يتواصل خلال المرحلة القادمة، خاصة في ظل تفاقم الخلاف، بل والصراع، بين القوى السياسية الإيرانية، حول آليات التعاطي مع الضغوط الخارجية التي تتعرض لها إيران في المرحلة الحالية، بسبب تدخلاتها في الشئون الداخلية لدول المنطقة ودعمها للتنظيمات الإرهابية، وتمسكها بمواقفها في الاتفاق النووي والبرنامج الصاروخي.