أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

ثمن التعددية:

مساءلة الفجوة بين الأخلاق والسياسة في حفل الأوسكار

29 مارس، 2024


جاء حفل جائزة الأوسكار هذا العام، 2024، في وقت تشهد فيه الساحه الدولية توترات عنيفة على عدة جبهات، أبرزها الحرب الإسرائيلية على غزة، واستمرار الحرب الأوكرانية، فضلاً عن زيادة حدة سباق الانتخابات الأمريكية التي اقتربت من الحسم، وغيرها من الملفات الدولية الأخرى التي فرضت حضورها على الحدث الثقافي الأهم في العالم، حفل جائزة الأوسكار، الذي قدم عبر جوائزه وأفلامه صورة للذات الأمريكية في إطار معركة السردية التي باتت إحدى أهم الأدوات في إدارة ملفات العلاقات الدولية.  

تحرر السردية؟

منذ أحداث السابع من أكتوبر 2023، يمكن ملاحظة أن ثمة حلحلة في السردية التي كانت مهيمنة على قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقد انعكس ذلك بصورة كان يصعب توقعها من قبل في حفل الأوسكار. إذ ارتدى بعض من أبرز الحضور شارات تحمل شعار "فنانين من أجل وقف إطلاق النار" (Artists for Ceasefire)، من بينهم: رامي يوسف الممثل الأمريكي ذي الأصول المصرية، ومارك روفالو، وماهرشالا علي، وآفا دوفيرناي، وبيلي إيليش، التي استلمت جائزة أوسكار أحسن أغنية -عن أغنية فيلم باربي- وهي ترتدي تلك الشارة. وقد ارتبط هذا الشعار بخطاب حمل نفس العنوان وقام الفنانون بتوجيهه إلى الرئيس بايدن؛ لحثه على وقف إطلاق النار، ووقع على الخطاب حوالي 400 فنان منهم: برادلي كوبر، وبن أفليك، وجولييت بينوش، وجينيفر لوبيز.

جاءت كلمة مخرج فيلم منطقة الاهتمام (The Zone of Interest) الحاصل على جائزة أحسن فيلم عالمي، في ذات السياق، ويتناول الفيلم الحياة اليومية لقائد معسكر أوشفيتز، وقدرته هو وعائلته على المضي قدماً في حياتهم دون أي اكتراث بالفظائع التي تحدث في المعسكر النازي الملاصق لمنزلهم؛ إذ أكد المخرج البريطاني، جوناثان غليزر، في كلمته أثناء تسلمه الجائزة أن الفيلم وإن كان يتناول أحداثاً تاريخية إلا أنه يحاكي الحاضر، وأضاف: "الآن نقف هنا كرجال يرفضون اختطاف هويتهم اليهودية، والهولوكوست، واستخدامهما من قبل قوى احتلال في إطار صراع أودى بحياة الكثير من الأبرياء. سواء ضحايا السابع من أكتوبر أم ضحايا الحرب المستمرة على غزة، كل هؤلاء ضحايا التخلي عن الإنسانية. فكيف لنا أن نقاوم؟" بالطبع أثارت هذه الكلمة حملات غضب واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي تجاه المخرج، وتم انتزاع كلامه من سياقه ووجهت له تهم عنيفة؛ إذ تُعد هذه الكلمة ثورية إلى حد كبير؛ إذ تتخطى ملامح الصورة النمطية عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الولايات المتحدة عموماً وهوليوود خصوصاً. على الجانب الآخر، تعكس هذه الكلمة صعود تيار داخل الجماعة اليهودية يرفض بشدة استخدام الهوية اليهودية أو المحرقة لتبرير حرب غزة، وهو ما تم التعبير عنه من خلال انطلاق مظاهرات حول العالم نظمها أو شارك فيها يهود منددين بالحرب، وأبرز هذه المظاهرات قادها يهود في الولايات المتحدة نفسها؛ الأمر الذي يُعد تحولاً جذرياً في معركة السردية. 

على الجانب الآخر، حصل فيلم 20 يوماً في ماريوبول (20 Days in Mariupol) على جائزة أحسن فيلم وثائقي، ويتناول الفيلم أحداث الأيام الأولى من الحرب الأوكرانية في مدينة ماريوبول، وقال المخرج إنه ربما يكون المخرج الوحيد الذي كان يتمنى ألا يقوم بإخراج فيلمه وألا تقوم روسيا بشن الحرب ضد بلده، وسط تصفيق حاد من الحضور.

رسخت هذه المشاهد صورة هوليوود القادرة دون غيرها على حمل قصص وأصوات وسرديات متعلقة بقضايا دولية إلى العالم أجمع مع التركيز على الشق الإنساني والثقافي الأكثر نفاذاً وتأثيراً في الرأي العام تجاه تلك القضايا.

تصحيح صورة الذات:

فاز فيلم "أوبنهايمر" -الذي يتناول السيرة الذاتية للعالم الأمريكي روبرت أوبنهايمر، مخترع القنبلة الذرية، في إطار تاريخي، يحمل الكثير من الإسقاطات والمقاربات على الحاضر- بسبع جوائز أوسكار هي: أحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن ممثل وأحسن ممثل مساعد وأحسن تصوير وأحسن مونتاج وأحسن موسيقى، ليصبح بذلك الفيلم الحاصل على أكبر عدد من الجوائز هذا العام. كما كان قد حصل على أكبر عدد من الترشيحات بـ13 ترشيحاً في فئات مختلفة مما جعله واحداً من أعلى الأفلام حصولاً على أكبر عدد من الترشيحات في تاريخ الأوسكار. هذا الفوز بهذا العدد من الجوائز، بالإضافة للنجاح الجماهيري الساحق للفيلم في دور العرض حول العالم -إذ وصل مجموع إيراداته لقرابة بليون دولار عالمياً- له دلالته في السياق العالمي الحالي، وقد عبر عن ذلك كيليان ميرفي بطل الفيلم، أثناء تسلمه جائزة أحسن ممثل؛ إذ أكد أننا نعيش اليوم في عالم أوبنهايمر، وأهدى الجائزة لصناع السلام في كل مكان.

 تناول الفيلم مراحل اختراع القنبلة والصراع النفسي الذي عاشه أوبنهايمر بعد إلقائها على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانية، ورؤيته لآثارها التدميرية غير المسبوقة. بالإضافة، لمحاولاته للتأثير في دوائر صناعة القرار بالولايات المتحدة، للحد من آثار اختراعه الكارثية، ورفضه للعمل على القنبلة الهيدروجينية وتعرضه لحملات تشويه وتهم تشكك في وطنيته، بالإضافة لتجريده من امتيازاته حتى تم رد اعتباره بعد سنوات. 

في هذا الإطار يطرح الفيلم تساؤلات حول الخطر النووي وحول دور الولايات المتحدة في إدارة الصراعات الدولية والفجوة بين الاعتبارات الأخلاقية التي تدعي الولايات المتحدة الدفاع عنها وقرارتها السياسية على أرض الواقع، وصورة الولايات المتحدة لدى العالم جراء ما تتخذه من خيارات، وهي ذات التساؤلات الحاضرة الآن؛ إذ تتجدد المخاوف بشأن الخطر النووي في ظل تأجج بعض الصراعات الدولية، مثل: حرب أوكرانيا والمناوشات بين الصين وتايوان وأخيراً حرب غزة. فقد حذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، على مدار الأشهر الماضية وفي عدة محافل، من أن خطر وقوع كارثة نووية بلغ أعلى مستوياته منذ فترة الحرب الباردة، بالإضافه لخطر تحكم الذكاء الاصطناعي بالأسلحة النووية.

في هذا السياق، يحاول الفيلم بفوزه الكاسح ونجاحه الجماهيري تأكيد صورة ذهنية عن المجتمع الأمريكي بكونه قادراً على نقد سلطته، بينما يركز على بطولة الفرد –أوبنهايمر- وعلى القدرة على تصحيح المسار. هذه الصورة قادرة على إثارة مشاعر احترام وتعاطف سواء بشكل واعٍ أو غير واعٍ. 

تكلفة "التدويل":

أثار عدم ترشح بطلة فيلم باربي مارغو روبي، في فئة أحسن ممثلة وعدم ترشح مخرجة الفيلم جريتا جرويج في فئة أحسن إخراج غضباً عارماً، انطلقت على إثره حملات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، اشتركت فيها شخصيات بارزة فنية وسياسية منددة بعدم ترشح البطلة والمخرجة رغم ترشح الفيلم في فئة أحسن فيلم. ولم نر هذا الغضب تجاه حالات أخرى مماثلة، ولفهم هذا الغضب في سياقه الأكبر؛ لا بد من الرجوع للخلف عدة سنوات؛ إذ كانت هناك انتقادات واسعة لجائزة الأوسكار لكونها جائزة مركزية ومتمحورة حول الذات الأمريكية؛ ترتب على ذلك تصاعد الاتجاه عبر السنوات الماضية نحو "تدويل الجائزة"، أي جعلها أكثر عالمية وانفتاحاً، وأسفرت تلك الجهود عن وصول عدد المصوتين هذا العالم إلى حوالي 11 ألف عضو من 93 دولة حول العالم، وهو الأمر الذي انعكس في الترشيحات التي جاءت نوعاً ما مغايرة وأكثر تنوعاً. على سبيل المثال، في فئة أحسن فيلم، هناك 3 أفلام غير ناطقة بالإنجليزية بشكل كامل -أجزاء من بعض تلك الأفلام كانت بلغات أخرى- وهي تشريح سقطة (Anatomy of a fall) ومنطقة الاهتمام (The Zone of Interest) وحياة الماضي (Past lives). 

في هذا السياق، جاء عدم حصول مخرجة فيلم باربي وبطلته على التصويت الكافي للحصول على الجائزة ليعكس حالة مغايرة. خاصة وأن الفيلم شهد نجاحاً جماهيرياً ومثل جزءاً من الثقافة الجمعية الأمريكية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو عن مدى استعداد الولايات المتحدة لقبول ثمن الانفتاح والتخلي عن المركزية وما يترتب على ذلك؛ إذ إن حالة الغضب التي ظهرت بين الجماهير والشخصيات البارزة في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم ترشح الفيلم في فئة أحسن فيلم؛ نابعة من التعلق بالمركزية الأمريكية والتمحور حول الذات، على الرغم من محاولات تبرير ذلك بأنه انحياز لقضايا المرأة، وما يعزز تلك الفرضية مقارنة مخرجة الفيلم غريتا جيرويج مع المخرجة الفرنسية جوستين تريت، التي ترشحت لفئة أحسن مخرجة، إلى حد أن أحد المواقع السينمائية المعروفة وصف ترشح الأولى واستبعاد الثانية بالصدمة. كما شاركت هيلاري كلينتون في حملة الغضب تلك، ودعمت مخرجة الفيلم وبطلته في إطار الدفاع عن حقوق المرأة، وقد انهالت الردود عليها من مختلف أنحاء العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ متسائلة عن حقوق النساء الفلسطينيات تحت القصف والمجاعة وغياب الخدمات الطبية، فضلا ًعن معاناة النساء في مناطق أخرى من العالم وحتى داخل الولايات المتحدة، وجاءت هذه الردود معبرة عن غضب المجتمع العالمي خارج الولايات المتحدة، تجاه الانحياز الانتقائي لقضايا المرأة، وغيرها من القضايا الحقوقية. 

في السياق العالمي الحالي، من الصعب على الولايات المتحدة الاستمرار في دورها الذي لا يضاهيهيا فيه أحد من ناحية تفعيل السينما كأداة للقوة الناعمة دون الاتجاه نحو التعددية والانفتاح على الآخر. لكن يبقى السؤال حول مدى الاستعداد لتقبل ثمن التعددية فعلياً. 

ختاماً، يمكن القول إن دور أدوات الاتصال الثقافي بات أكثر أهمية في إطار إدارة ملفات العلاقات الدولية اليوم. وقد عكست حفلة أوسكار لهذا العام قدرة للولايات المتحدة المتجددة على تفعيل تلك الأدوات. فقد حقق الحفل قرابة 19.5 مليون مشاهدة وانطلقت مقاطع منه عبر وسائل التواصل الاجتماعي حاملة معها صورة متجددة للحلم الأمريكي وللقدرة على طرح السردية الأمريكية بأدوات العصر. في هذا الإطار تتصاعد أهمية تخلي الولايات المتحدة عن مركزيتها نحو انفتاح حقيقي لمعرفة الآخر بعيداً عن الصور النمطية، ولا يمكن التفكير في وسيلة أكثر فاعلية من السينما للقيام بتلك المهمة.