أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

معركة الصورة:

كيف غيرت السينما الفلسطينية سردية الصراع مع إسرئيل؟

20 نوفمبر، 2023


"من يمتلك القصة الأفضل ينتصر".. تؤكد هذه المقولة الدور المحوري والمتصاعد للأبعاد الثقافية، وفي القلب منها "السرديات والصور" في رسم اتجاهات الرأي العام وصوره الذهنية وهو الأمر الذي يؤثر بشكل أو بآخر في إدارة الصراعات الدولية. ففي عالم اليوم الذي يتصف بالاتصال والتشابك باتت العلاقات الدولية أكثر اتساعاً. ولم يعد حسم الملفات قاصراً على الدبلوماسية الرسمية، فقد أسهمت ثورة الاتصالات وأدوات التواصل الاجتماعي في جعل الفاعلين غير الرسميين أكثر قدرة على التأثير. في هذا الإطار يبرز دور دبلوماسية المسار الثاني (Track 2 diplomacy) التي ترتكز على الأفعال والأنشطة غير الحكومية وغير الرسمية بين الأفراد والجماعات. ما زاد من أهمية الاتصال الدولي (Global communication) وأهمية أدواته المتعدية للحدود أكثر من أي وقت مضى. 

لا يوجد مثال أوضح على ذلك مما نعايشه الآن فيما يحدث في غزة، ومدى تأثير معركة الصورة في هذه القضية التي امتد تأثيرها وصداها إلى العالم أجمع. إذ تتجلى بوضوح أهمية البعد الثقافي وأدوات الاتصال ورسم الصور الذهنية كمحددات أساسية في هذا الصراع. وتُعد الأفلام إحدى أهم أدوات صناعة هذه الصور. وقد أسهمت السينما الفلسطينية على مدار عقود بدور محوري في تقديم القضية الفلسطينية للعالم. 

جيل جديد من السينما الفلسطينية  

 ترتكز الدبلوماسية الثقافية على تناقل الأفكار والمعلومات والفنون وغيرها من الأدوات الثقافية بين الأمم والشعوب. في هذا الإطار تتكون الصور المتبادلة عن الثقافات والشعوب المختلفة. ولما كانت السينما من أكثر الأدوات قدرة على خلق الصور وتشكيلها وترسيخها وكذلك خلق المشاعر والتأثير في الوعي العام، فإن دورها مهم، كإحدى أدوات القوة الناعمة في العلاقات الدولية. وهو ما قامت به السينما الفلسطينية كأداة للقوة الناعمة في دعم القضية الفلسطينية.

أدركت مختلف التشكيلات الثورية والسياسية في فلسطين أهمية السينما منذ نشأتها لذا أنشأت وحدات معنية بإنتاج الأفلام وتمويلها. وقد قامت هذه الأفلام بدور كبير ومهم في التوثيق، لكنها ظلت مقتصرة في انتشارها على الجمهور المحلي والعربي بالأساس. ولكن مع وجود لاجئين فلسطينيين حول العالم ودراسة بعضهم للسينما بالخارج ونجاحهم في إيجاد مصادر تمويل متنوعة ظهر جيل جديد من المخرجين بطرح جديد فيما أطلق عليه البعض "الموجة الجديدة للسينما الفلسطينية". 

نجح هذا الجيل في الوصول للعالمية والدفع بسردياته من خلال مشاركة أفلامه في أهم وأكبر المهرجانات السينمائية، حيث يوجد جمهور من جميع أنحاء العالم. فمنذ أن عرض فيلم "حيفا" إخراج رشيد مشهراوي عام 1996 في مهرجان كان، ظلت السينما الفلسطينية حاضرة بقوة في المحافل الدولية، حاملة القضية إلى أماكن وأشخاص لم تكن لتصل إليهم لولا هذه الأفلام التي صنعت لنفسها مكانة كبيرة على الساحة الدولية.

إضفاء الأنسنة على الفلسطيني 

أدى مخرجو تلك الأفلام دوراً محورياً في تغيير الصورة النمطية عن القضية الفلسطينية وعن المواطن الفلسطيني على عدة مستويات، ولكن كان أبرزها تحويل القضية إلى قضية إنسانية بالأساس. فقبل ذلك، كان يتم تصوير الفلسطيني بأنه لا يعبأ بحياته، بل إن حياته تختزل في البعد السياسي والنضالي بالأساس، وهو ما كان ينزع الأنسنة عن الفرد الفلسطيني بدرجة كبيرة. 

بينما ركز مخرجو هذه الموجة الجديدة على تغيير هذه الصورة، فقدموا الفلسطينيين كبشر، لكل منهم قصة وحياة يحبها ويحرص عليها، كما يعتز الفلسطيني بهويته رغم المعاناة ومرارة الحياة تحت الاحتلال. ساعد ذلك على تقريب صورة المواطن الفلسطيني لأي شخص في العالم، حيث أدى تصوير المشتركات الإنسانية من خلال عرض المعاناة اليومية للفلسطيني تحت الاحتلال، دوراً مهماً في جعل المشاهد -من أي مكان في العالم- يتعاطف شعورياً أو لا شعورياً مع الفلسطيني باعتباره مثل أي إنسان، يتطلع للحياة والعيش بحرية على أرضه. 

وهذه الصورة رأيناها في عدة أفلام منها على سبيل المثال، فيلم "الجنة الآن" إخراج هاني أبو أسعد، والمنتج في عام 2005. والذي تدور أحداثه حول شابين فلسطينيين صديقين منذ الطفولة على وشك القيام بتفجير نفسيهما في تل أبيب، لكنهما يعيدان التفكير في الأمر. إذ رشح الفيلم للأوسكار وكان أول فيلم فلسطيني يصل للقائمة النهائية لـلأوسكار في فئة أحسن فيلم أجنبي. وفي هذا الوقت قامت عدة جهات إسرائيلية بحملات ضغط حتى لا يتم الإعلان عن الفيلم كممثل لفلسطين التي لم يكن معترفاً بها كدولة مما أثار اعتراض المخرج وفريق العمل وانتهى الأمر بإعلان الفيلم كممثل "للأراضي الفلسطينية".

 وحينما ترشح فيلم "عمر" -لنفس المخرج- لـلأوسكار مرة أخرى في نفس الفئة عام 2013، كانت الأمم المتحدة قد اعترفت بفلسطين كدولة غير عضو لها صفة مراقب (Non-member observer state) وبالتالي رشح الفيلم الفلسطيني هذه المرة كممثل لفلسطين. كما تم ترشيح الفيلم القصير "الهدية" إخراج فرح نابلسي والمنتج في عام 2020 للأوسكار في فئة أحسن فيلم قصير. ويتناول الفيلم قصة أب وابنته من الضفة الغربية، يحاولان شراء هدية للأم وكيف يتحول هذا الأمر الذي من المفترض أن يكون أمراً بسيطاً إلى أمر بالغ التعقيد بسبب الحواجز وإجراءات التفتيش. 

تناولت السينما الفلسطينية الآثار العميقة للجدران والحوائط والفواصل ونقاط التفتيش وآثارها النفسية والاجتماعية البالغة على حياة الفلسطينيين، بشكل جعل المشاهد الغربى يدرك ما يعانيه الفلسطينيون يومياً. فحرية الحركة كإحدى الحريات الأساسية هي مشترك إنساني يمكن من خلاله لأي إنسان أن يفهم معاناة من يحرم منه، إذ إن ما هو يسير جداً جغرافياً قد يصبح عسيراً جداً واقعياً. مثلاً، في فيلم "200 متر" المنتج في عام 2020 والذي أخرجه أمين نايفة، تدور الأحداث حول عائلة فرق شملها الجدار العازل فالأب يعيش في جانب والزوجة والأولاد في الجانب الآخر. جغرافياً بينهما أمتار قليلة لكن واقعياً هناك الكثير من التعقيدات للم شمل هذه العائلة. وعرض الفيلم في إحدى فعاليات مهرجان فينيسيا.

وجاء في السياق نفسه، فيلم "المر والرمان" المنتج في عام 2008 للمخرجة نجوى نجار، إذ تحدى الصورة النمطية لزوجة الأسير. وشارك الفيلم في مهرجان صاندانس بالولايات المتحدة الأمريكية.

الذاكرة الجمعية وتحرير السردية

يُعد الفيلم السينمائي في حد ذاته وثيقة تأريخية، ويمتد دوره لتأمل الخيارات السياسية والاجتماعية وغيرها من خيارات الحقبة التاريخية التي يتناولها، مع قدرة السينما الخاصة على السماح للمشاهد بالولوج إلى تلك الحقبة من خلال الرؤية والسردية التي يطرحها صانعو تلك الأفلام. فالأفلام الفلسطينية كانت شاهداً على المكان والبشر بحكاياتهم وتفاصيل حياتهم لتترسخ في الذاكرة الجمعية. ويُعد حفظ الذاكرة هنا في الحالة الفلسطينية جزءاً من مهمة حفظ الهوية وتحرير السردية. وهناك عدة أمثلة على ذلك نذكر منها فيلم "الزمن الباقي" المنتج في عام 2009، والذي عرض في مهرجان كان. إذ تناول تأثير النكبة في أجيال متعاقبة منذ 1948 مروراً بالسبعينيات والثمانينيات وحتى زمن إنتاج الفيلم. والفيلم مبني على السيرة الذاتية للمخرج وعائلته. بجانب تناول الأحداث نفسها وتأثيرها في الفلسطينيين وحفظها على الشريط السينمائي، وأدى إيليا سليمان مخرج الفيلم دوراً في تقديم سردية ترتكز على استعراض تفاصيل حياة الفلسطينيين في إطار من الكوميديا السوداء معتمداً على مواقف واقعية يتعرض لها الفلسطينيون بشكل يومي توضح مدى عبثية ومرارة ما يعيشونه. وهو الأسلوب الذي اتسمت به معظم أفلامه التي لاقت نجاحاً عالمياً كبيراً، ومنها فيلم "يد إلهية"، المنتج عام 2002 والحاصل على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان، وفيلم "لا بد أنها الجنة"، المنتج عام 2019 والحاصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم بمهرجان كان.

الترشح للأوسكار والمنافسة في أكبر المهرجانات العالمية كان يعني مشاهدة تلك الأفلام من قبل أعضاء لجان تحكيم الأوسكار، ويناهز عددهم العشرة آلاف عضو حول العالم، بالإضافة لمشاهدين من مختلف أنحاء العالم من محبي السينما ومتابعي مهرجاناتها وجوائزها، ثم توزيع عالمي، وعروض لتلك الأفلام في صالات العرض داخل الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها من مناطق العالم. وأسهم ذلك بالقطع في نقل السردية الفلسطينية خارج المحيط العربي والإقليمي، غير أن مدى الانتشار هذا لا يمكن مقارنته بالمدى الذي أتاحته المنصات، مما غير قواعد اللعبة تغييراً جوهرياً.

المنصات غيرت قواعد اللعبة

تعتمد المنصات على الاشتراكات من مختلف أنحاء العالم. ويعني ذلك أن تلك المنصات تسعى لجذب جمهور عالمي وبالتالي عليها تقديم محتوى يتسم بالتعددية ويمثل ثقافات مختلفة. مما يترتب عليه في بعض الأحيان صدام كل جماعة في صراع مع أخرى حول كيفية تصوير كل منهما للأخرى. من هذا المنطلق تضع المنصات وبالأخص نتفلكس محتوى فلسطينياً بالإضافة إلى المحتوى الإسرائيلي. ويكمن التغير المفصلي هنا في مدى إتاحة المحتوى الفلسطيني لجمهور عالمي على نطاق يكاد يكون غير مسبوق مما مكن الفلسطينيين من طرح صورتهم وسرديتهم للعالم بأنفسهم لا كما عكف الآخر على تصويرهم.

في مايو 2021، اندلعت اشتباكات عنيفة، صحبها تعاطف عالمي تجاه القضية الفلسطينية بدرجة لم تكن معتادة. في هذا السياق قامت نتفلكس في أكتوبر 2021 بطرح مجموعة أعمال فلسطينية تقدر بحوالي 32 عملاً وأتاحتها للمشاهدة عالمياً فلم تكن مقتصرة على منطقة بعينها. أي أصبحت هذه الأفلام متاحة لـ247 مليون مشترك حول العالم، وهو العدد المقدر تقريبياً لمشتركي نتفلكس حتى الربع الثالث من عام 2023. 

لم يتم قبول ذلك بسهولة من الجانب الإسرائيلي واشتد الغضب مع طرح فيلم "فرحة" المنتج في عام 2021 والذي أخرجته دارين سلام، على منصة نتفلكس في ديسمبر 2022. إذ يتناول الفيلم أحداث 1948 من خلال منظور طفلة عمرها 14 عاماً تراقب ما يحدث من شقوق باب مخبئها. وانطلقت حملات ضد نتفلكس لقيامها بعرض الفيلم ودعت لإلغاء الاشتراكات. وانتهى الأمر ببقاء الفيلم على المنصة وبزيادة أعداد المشتركين في عام 2023 بحوالي ما يقارب 20 مليون مشترك عن عام 2022. 

بالنظر لأن مشتركي نتفلكس من داخل الولايات المتحدة وكندا يقدر عددهم بحوالي 77 مليون مشترك بينما باقي المشتركين حول العالم يقدر عددهم بحوالي 170 مليون مشترك، فبحسابات اقتصادية ومهنية بات من غير الممكن لـنتفلكس خصوصاً وللمنصات عموماً الخضوع لحملات جماعة ضد أخرى على حساب مصالحها التسويقية. 

أخيراً، اتفق الفرقاء على أن ثمة تغيرات عميقة تحدث في المنطقة لا يمكن فصلها عن سياق التغيرات التي تحدث في العالم وتتبلور معالمها شيئاً فشيئاً. ومن أبرز تلك التغيرات تصاعد أهمية الاتصال الدولي، وهناك عدة أبعاد متعلقة بعملية الاتصال هذه، في القلب منها الأبعاد الثقافية التي تؤثر في تشكيل الصور وبالتالي في الرأي العام العالمي الذي لم يكن متاحاً أمامه من قبل سوى السردية التي يقدمها له من يسيطر على السياسة والإعلام في بلاده. أما الآن –وبالرغم من الكثير من التحديات والصعوبات الجمة- فقد أصبحت هناك فرصة غير مسبوقة لسرديات مختلفة عن تلك التي كانت سائدة ومُتسيدة، لتصل لجموع البشر حول العالم. ولما كانت السينما من أهم أدوات تكوين الصور وطرح السرديات بطريقة ذات قدرة خاصة على النفاذ والتأثير، بات إدارك هذا الدور وتفعيله أمراً حتمياً لتعظيم الاستفادة من الفرصة المطروحة. ولم يغب ذلك عن القائمين على السينما الفلسطينية التي أدت دوراً محورياً في حمل قضيتها للعالم على مدار سنوات. أما الآن فالقدرة على تفعيل ذلك الدور بشكل غير مسبوق تتسم مع الفرصة غير المسبوقة، وستكون أمراً محورياً في معركة الصورة التي باتت جزءاً لا يتجزأ من أي معركة دولية.