أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

القصور الإدراكي:

من الثورات إلى ترامب.. لماذا يخفق المحللون في التنبؤ بالواقع؟

10 نوفمبر، 2016


فوجئ ملايين المتابعين حول العالم بفوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية، إذ إن أغلب التحليلات واستطلاعات الرأي رجحت على مدار فترة طويلة حسم منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون للسباق الانتخابي بفارق كبير، وهو ما أثار عاصفة من الجدل حول أسباب إخفاق أغلب الخبراء ومتخصصي التحليل السياسي في التنبؤ بنتيجة الانتخابات.

ولم تكن الانتخابات الأمريكية السابقة الأولى لسقوط توقعات المحللين السياسيين، فعلى مدار العقد الماضي كانت حركة الواقع أسرع بكثير من قدرة الخبراء على المتابعة، وهو ما كشف عنه عجز المتخصصين الأكثر ظهورًا في الإعلام عن توقع أحداث مثل: تصويت غالبية البريطانيين لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وتمكن مؤيدي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من التصدي لمحاولة الانقلاب العسكري، والانتشار الإقليمي للثورات العربية، والأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2007.

تعقيدات الواقع:

ترتبط معضلة التنبؤ في مجالات السياسة بالتحولات الاستثنائية التي شهدها العالم على مدار السنوات الماضية، حيث أصبح واقع التفاعلات الداخلية والإقليمية والدولية يتسم بالتغير المتواصل، والتعقيدات المتداخلة، وسيولة الاتجاهات، مع اندثار الحدود الفاصلة بين المستويات الداخلية والإقليمية والعالمية، وتآكل التمايزات التقليدية بين الفاعلين والتصنيفات الأكثر شيوعًا في ظل التعدد اللا نهائي للقضايا والتطورات والمعطيات التي تتسبب متابعتها في إنهاك قدرات المحللين السياسيين والمتابعين للشئون العامة. وفي هذا الإطار تتمثل أهم خصائص هذا الواقع السياسي المعقد فيما يلي:

1- التعدد اللا نهائي للمعطيات: تتسم التحولات الصاعدة في العالم بالتعدد اللا نهائي لأبعادها وعناصرها بصورة غير قابلة للاستيعاب، مع تداخل هذه العناصر عضويًّا، وعدم إمكانية إخضاعها للفصل التحكمي لدراستها، أو تثبيت بعض العوامل لملاحظة التغير في العوامل الأخرى، وهو ما يرتبط بوجود شبكات معقدة من التفاعلات تحكم تطور هذه الظواهر.

2- التداخل الزمني: تتسم الظواهر السياسية المعقدة بتجاوز التصنيفات الزمنية التقليدية، حيث تتداخل مسارات الماضي والحاضر بصورة غير قابلة لتحديد نطاقات زمنية للظواهر أو نقاط بداية ونهاية زمنية محددة، مما يزيد من عجز المحللين على تتبع مسارات تطور الظواهر والترابط الزمني فيما بينها.

وتتسم الظواهر المعقدة بالتغير المتواصل نتيجة تعدد العوامل والأبعاد في إطار شبكات متداخلة وعلاقات غير خطية، والانفتاح الدائم على السياقات المحيطة، مما يزيد من صعوبة التنبؤ بمسار تطور الظواهر وتداعياتها المستقبلية.

3- انتفاء السببية: تتسم الظواهر المعقدة بعدم وجود علاقات خطية واضحة بين الأسباب والنتائج، كما أن التفسيرات المطروحة للظواهر عادةً ما تكون مجرد اجتهادات منطقية من جانب المحللين أكثر منها علاقات ارتباطية واقعية بين الأسباب والنتائج، فقد تتسبب أحداث محدودة في بقاع بعيدة من العالم في تفجير موجات متتابعة من التغييرات في مناطق أخرى بعيدة جغرافيًّا.

 4- انعدام اليقين: تقع أغلب التحولات السياسية والاجتماعية المعقدة ضمن فئة التطورات غير المعروفة في ظل السيولة والغموض وعوامل المفاجأة التي تحيط بتفجر هذه التحولات، وهو ما دفع البعض إلى إطلاق اسم "عصر اللا متخيل" على الأوضاع الراهنة، حيث أضحت كافة دول العالم معرضة لأحداث مفاجِئة وغير متوقعة، مثل: الهجمات الإرهابية الكبرى، والهجمات العسكرية من دول الجوار، وانهيار الأسواق العالمية، والكوارث الطبيعية، وتفجر موجات ضخمة من الاحتجاجات السياسية، أو حالات الفوضى الأمنية والصراعات الداخلية الممتدة، مما يصيب مؤسسات صنع القرار بالعجز الوظيفي في ظل الخسائر المادية والبشرية الضخمة المصاحبة لهذه التطورات.

5- اندماج السياقات: لا يمكن عزل التطورات والأحداث الجارية عن السياقات المحيطة، حيث تتسم الظواهر المعقدة بعدم وجود حواجز أو حدود فاصلة بين السياقات المحيطة، مما يؤدي إلى تدفق المُدخلات بصورة ضخمة إلى منظومات التفاعلات.

ويمكن اعتبار اندثار الحدود الفاصلة بين الداخل والخارج، وتصاعد مستويات الانكشاف المتبادل بين الدول، من أهم تجليات الاندماج العالمي، ومن ثم أصبحت أحداثٌ داخلية في بعض الدول تتسبب في موجات عاتية من التحولات الإقليمية والدولية، مثل: الثورات العربية، والأزمات المالية العالمية، وتأثيرات تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي على الاستقرار الداخلي للدول.

إشكاليات الإدراك: 

لا تنفصل معضلة التوقع في التحليلات السياسة عن "تدني مستويات الخيال" لدى الخبراء والمتابعين للتحولات العالمية، وهو ما يرتبط بالقصور الإدراكي للبشر في مواجهة تدفقات هائلة ولحظية من المعلومات التي تتفاوت في مدى دقتها وتعبيرها عن الواقع، مما يتسبب في اتساع الهوة الفاصلة بين ما يدركه المحللون والتطورات الواقعية الحقيقية، بحيث تصبح توقعاتهم أقرب إلى حدس شخصي أكثر من كونها تحليلا متماسكًا لمعطيات واقعية، وتتمثل أهم العوائق الإدراكية للتوقع في الآتي:

1- التماثل الزائف: يميل المتابعون لعقد مقاربات إدراكية بين التطورات الراهنة وبين السوابق الماضية للظواهر، في محاولة للتنبؤ بالمسارات المتوقعة للظواهر، والادعاء بأن التشابه في السياقات والمعطيات بين أحداث ماضية والوضع الراهن سيؤدي للتشابه في النتائج، هذا التماثل الافتراضي بين الماضي والحاضر يدفع بعض المحللين للادعاء بيقينية وحتمية توقعاتهم المستقبلية، وعادةً ما تُثبت تطورات الأحداث عدم دقة هذه التوقعات بسبب إغفالها تفرد وخصوصية الحدث الراهن واختلافه عن السوابق التاريخية رغم التشابه في السياقات. 

2- الانتقائية الإدراكية: تؤدي التدفقات الضخمة والسريعة للمعلومات، والعجز عن متابعة التطورات الواقعية، إلى تفضيل المتابعين لاتباع نهج انتقائي يقوم على التركيز على بعض المعطيات الواقعية التي تعد الأكثر أهمية من وجهة نظرهم، وبناء تحليلاتهم على أساس تقييمهم الذاتي للمعلومات، كما يسعى المحللون للوصول إلى نقاط ثبات في مسار التطورات، وهو ما يدفعهم لوقف تدفق المعلومات تحكميًّا عن لحظة معينة، والاعتماد على خبراتهم السابقة ومهاراتهم الذاتية في تحليل المواقف، مما يتسبب في الانفصال بين الواقع والتحليل.

3- افتراضات الرشادة: يعتمد المحللون على نماذج تقليدية لتوقع السلوك السياسي للأفراد والمؤسسات، من بينها نموذج الاختيار الرشيد الذي يقوم على افتراض ضمني أن الأفراد يقومون بتحليل التكاليف والعوائد المترتبة على قراراتهم، واختيار البدائل الأقل في التكلفة والأعلى في العوائد.

وتتسبب هذه الافتراضات الضمنية في عدم دقة التوقعات التي يتبناها المحللون، إذ يتحكم في السلوك السياسي مجموعة ضخمة من العوامل والأبعاد المادية وغير المادية قد يتسم بعضها باللا عقلانية والغموض وفق التفسيرات المنطقية التقليدية. فعلى سبيل المثال قد تكون دوافع اختيارات الناخبين التصويت العقابي ضد مرشح معين، أو الغضب تجاه النظام السياسي الذي لا يحقق تطلعاتهم، أو مجرد الرغبة في كسر رتابة الوضع الراهن، والخروج عن المألوف في النظام السياسي.

وعلى الرغم من أن البديل الذي تختاره الأغلبية قد يكون الأقل كفاءة وفق كافة المعايير المنطقية، لكن التطلع للتغيير، والسخط على الواقع السياسي، والرغبة في الثورة على الوضع الراهن، أو مجرد السخرية من السياسات النخبوية، قد تكون دوافع كافية لتبرير هذا الاختيار من وجهة نظر الأفراد. 

4- التشبث بالوضع الراهن: يفضل الخبراء التعامل مع الوضع الراهن باعتباره نقطة انطلاق ثابتة في توقعاتهم المستقبلية، وهو ما يزيد من معضلة الإنكار لديهم في مواجهة المؤشرات الأولية لحدوث تغيير جذري غير مسبوق في الواقع السياسي، إذ ينشأ بين الخبراء والوضع الراهن حالة من الارتباط الإيجابي تقوم على التفضيل الشخصي للمألوف، والتخوف من مخاطر التغيرات المفاجئة غير المتوقعة.

5- معضلة الاعتراف بالخطأ: أورد "دان جاردنر" في كتابه "ثرثرة المستقبل: لماذا تفشل توقعات الخبراء" تجربة قام بها فيليب تتلوك المتخصص في علم النفس السياسي في عام 1984 حينما قام باستطلاع آراء حوالي 284 خبيرًا وأكاديميًّا وعالم اقتصاد وباحثًا في مراكز التفكير حول الاتجاهات الاقتصادية والسياسية التي ستحكم المستقبل، ثم قام بتقييم مدى دقة هذه التوقعات بعد 20 عامًا، وكانت المفاجأة أن الغالبية العظمى من هذه التوقعات لم تقترب نهائيًّا من التحولات الواقعية التي حدثت خلال هذه الفترة، وكانت أغلب توقعات الخبراء بمثابة "تسديد عشوائي للسهام في الفراغ" نتيجة تشبثهم بالوضع الراهن في توقعاتهم.

إلا أن النتيجة الأهم لهذه التجربة تمثلت في رد فعل الخبراء حول إخفاق توقعاتهم؛ حيث اتجه أغلبهم إلى تبرير اختياراته باعتبارها صحيحة أو محاولة إعادة تأويلها لتبدو أكثر قربًا مما حدث في الواقع، واتجه بعضهم للدخول في سجالات جدلية حول مدى التطابق دون الاعتراف بخطأ توقعاتهم، مما يعكس تدني مستويات التواضع لدى الخبراء في متابعة الواقع.

6- المتابعة عن بعد: تعتمد أغلب التحليلات والتوقعات على متابعة مصادر المعلومات مفتوحة المصدر، ووسائل الإعلام، وجميعها مصادر غير مباشرة للمعلومات، وقد تتسم هذه المعلومات بكونها مجتزأة ومشوهة ومغلوطة ولا تعكس تعقيدات التحولات الواقعية، في المقابل فإن المتابعة الدقيقة تتطلب المعايشة الميدانية للأحداث، والاعتماد على مصادر مباشرة للمعلومات، بالإضافة إلى تجنب التعميم بناءً على الملاحظة الميدانية الجزئية للظاهرة.

أزمات العلوم الاجتماعية:

لا تدعي الأدبيات المركزية المؤسسة للعلوم الاجتماعية القدرة على التنبؤ بمسار التحولات الواقعية إدراكًا لتعقيدات الظواهر الاجتماعية والإنسانية، واستعصائها على التوقع، إذ تتركز الغايات الأساسية في رصد ومتابعة هذه التحولات وتفسيرها اعتمادًا على المعلومات والمعطيات الأكثر دقة، وهو ما يتطلب وجود مسافة زمنية بين الحدث والتحليل للحصول على الوثائق الرسمية والمعلومات المثبتة وإجراء المقابلات والملاحظة الدقيقة للواقع.

وعلى الرغم من ذلك، دفعت الطفرة في الدراسات الميدانية واستطلاعات الرأي عددًا كبيرًا من المتخصصين لتجاوز اعتبارات "الحذر الأكاديمي"، واستخلاص تنبؤات تقوم على مؤشرات ميدانية متعددة، كما دفع انتشار المؤشرات الكمية التي تسعى لقياس بعض الظواهر مثل "مؤشر الديمقراطية" و"مؤشر حرية الصحافة" و"مؤشرات التنافسية الاقتصادية" للتجرؤ وادعاء محاولة التنبؤ اعتمادًا على تجميع المؤشرات وصياغة نماذج نظرية تقوم على علاقات السببية والارتباط بين المتغيرات وتحولات الواقع.

فعلى سبيل المثال، أشار أحد الأكاديميين إلى أن التنبؤ إمبريقيًّا بإخفاق الانقلاب العسكري في تركيا يقوم على تجميع صياغة معادلة كمية للمتغيرات المركزية التي قد تحدد مصير الانقلابات العسكرية في أي دولة، مثل: الأداء الاقتصادي للدولة، ومستوى معيشة المواطنين، والتنوع العرقي، وحالة الديمقراطية بالنظام السياسي، وخبرات الانقلابات السابقة، وحالة القوات المسلحة بالدولة.

ولا تراعي كافة هذه العوامل في المجمل خصوصية الحالة التركية أو خصوصية الحدث والتطورات الفريدة للواقع وتعقيدات وتداخل السياقات المؤثرة على التطورات الميدانية، وهو ما يزيد من اختلال وتفاوت نتائج الاعتماد عليها من حالة لأخرى، كما أن ادعاء القدرة على التنبؤ بناء على الاتجاه العام للأحداث، مثل اتخاذ صعود النظم الشعبوية والقومية اليمينية كمؤشر لترجيح فوز ترامب، لا يعدو كونه "تسديدًا للسهام في الفراغ" في ظل احتمالات مخالفة حادثة واحدة للاتجاه العام.

وتُعد هذه النزعة الإمبريقية للتعميم، والسعي لبناء نماذج نظرية صالحة لتفسير حالات متعددة، من أهم مسببات إخفاق تحليلات الخبراء، في ظل الاعتماد على مؤشرات جزئية في بناء تعميمات على حالات غير متشابهة في خصائصها الأساسية، والتركيز على النماذج الكمية في التفسير، وهيمنة اتجاهات اختزال الظواهر الاجتماعية والإنسانية في مؤشرات كمية تجميعية، والإيمان المطلق بحتميات التعادل والاتساق بين أطراف المعادلات، وهو ما يؤدي لإغفال كافة التعقيدات الإنسانية والاجتماعية غير القابلة للتعبير الكمي.

ويدفع هذا الانفصال الواضح بين النظريات المركزية في العلم، ووتيرة التغير في العالم، وقصور أدوات التحليل السائدة عن استيعاب تحولات الواقع، للقول بأننا قد نكون بصدد لحظة تحول في المنظور الإرشادي الحاكم للعلوم الاجتماعية تتضمن مراجعة لفلسفة العلم والغايات الأساسية والوظائف التي يمكن للبحث العلمي أداءها وأدوات التحليل ومسارات التعامل مع الواقع.