اتجهت الدول الأوروبية في الفترة الأخيرة إلى ممارسة ضغوط أقوى على تركيا، حيث صوَّت أعضاء البرلمان الأوروبي، في 26 نوفمبر الفائت، على مشروع قرار إدانة تركيا بالأغلبية المطلقة. وقد دعا المشروع القمة الأوروبية التي ستعقد في ديسمبر الجاري، إلى فرض عقوبات على تركيا دون تأخير، رداً على محاولاتها فرض أمر واقع في قبرص ومياهها الإقليمية، فضلاً عن تحركاتها في منطقة شرق البحر المتوسط وخلافاتها التي تتسع تدريجياً مع اليونان.
كما صوَّت مجلس الشيوخ الفرنسي، في 25 من الشهر نفسه، على قرار غير ملزم يحث الحكومة على الاعتراف بإقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان كجمهورية مستقلة، لافتاً إلى أن سياسة تركيا التوسعية هى العامل الرئيسي لزعزعة الاستقرار في شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط والآن في جنوب القوقاز، وتشكل تهديداً لأمن فرنسا وأوروبا ككل.
وبالتوازي مع ذلك، أوقفت الفرقاطة الألمانية "هامبورغ" في 22 من الشهر الفائت، سفينة الشحن "إم في روزلين إيه" التي ترفع العلم التركي في البحر المتوسط، لمحاولة تفتيشها بعد تشككها في قيامها بنقل أسلحة إلى ليبيا، ويأتي ذلك في إطار عملية "إيريني" الأوروبية التي تسعى إلى ضمان الامتثال لحظر نقل الأسلحة إلى ليبيا الذي فرضته الأمم المتحدة.
ورغم ذلك، بدا لافتاً أن تركيا سعت إلى التهدئة مع الدول الأوروبية بالتزامن مع تصعيد الأخيرة ضدها، إذ دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 22 نوفمبر الفائت (خلال خطابه بالمؤتمر الإقليمي السابع لحزب العدالة والتنمية) الاتحاد الأوروبي إلى الوفاء بالوعود المقدمة لتركيا، من أجل تأسيس تعاون أوثق ومثمر، لافتاً إلى أن بلاده "مكانها في أوروبا وليس في مكان آخر، وأنها تعمل على تأسيس مستقبلها مع أوروبا".
وأكد المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن في 21 نوفمبر الجاري، خلال لقاءه مع مسئولي الاتحاد الأوروبي في بروكسل لبحث العلاقات الثنائية وتطورات شرق المتوسط وليبيا وسوريا وإقليم قره باغ، أن بلاده ترى أن عضويتها في الاتحاد الأوروبي تعد أولوية استراتيجية وتحتاج إلى دفعة ديناميكية.
أسباب مختلفة:
تتمثل أهم أسباب السياسة التصعيدية التي تتبناها الدول الأوروبية تجاه تركيا في التالي:
1- دعم الأعضاء: وذلك بعد تصاعد حدة التوتر بين تركيا من جهة، وكل من فرنسا واليونان وقبرص من جهة أخرى، خاصة وأن ذلك التوتر انصب على عدة ملفات متشابكة ترتبط بموارد الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط، حيث تسعى أنقرة إلى توسيع نطاق نفوذها في تلك المنطقة على حساب نفوذ الدول الأوروبية، وهو ما رد عليه مجلس الشيوخ الفرنسي بتأكيد أن الطموح التركي يشكل تهديداً لأمن فرنسا وأوروبا ككل، مما يشير إلى أن القضايا محل الخلاف بين الطرفين تمس بشكل مباشر العمق الاستراتيجي لدول الاتحاد، خاصة تلك الواقعة في الجنوب الأوروبي.
2- الحفاظ على تماسك الاتحاد: تبدي الدول الأوروبية حذراً من أن يسفر تباين وجهات نظر الدول الأعضاء بالاتحاد حول كيفية التعامل مع أنقرة، عن حدوث انقسام يؤدي إلى تحييد القرارات الصادرة من الاتحاد تجاهها. فعلى سبيل المثال، تدفع فرنسا والنمسا الاتحاد إلى رفع مستوى التصعيد تجاه أنقرة بأى شكل، بينما ترى دول أخرى مثل أسبانيا وإيطاليا أن التوافق السياسي مع أنقرة هو الحل الأمثل، في حين يتأرجح الموقف الألماني تارة نحو التصعيد وتارة أخرى تجاه التهدئة، الأمر الذي دعا الاتحاد إلى مواجهة ذلك الانقسام عبر اتخاذ خطوات جدية خلال الفترة المقبلة لممارسة ضغوط أكبر على تركيا.
3- التماهي مع الإدارة الأمريكية الجديدة: يأتي التصعيد الأوروبي بعد فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية، والذي من المتوقع أن ينتهج سياسة أكثر تشدداً مقارنة بسلفه دونالد ترامب تجاه أنقرة على نحو بدا جلياً في التصريحات التي أدلى بها قبل فوزه في الانتخابات. وفي هذا السياق، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى توجيه رسالة إلى بايدن يدعوه فيها إلى عدم تجاهل مخاطر التوسع التركي، مطالباً إياه، بشكل ضمني، بتوحيد جهودهما للضغط على تركيا.
4- توظيف تأزم الاقتصادي التركي: ترى اتجاهات عديدة أن تراجع الاقتصاد التركي يشكل فرصة يحاول الاتحاد الأوروبي استثمارها للضغط على أنقرة، وهو ما اتضح في دعوة البرلمان الأوروبي لفرض عقوبات قاسية على أنقرة في القمة الأوروبية التي ستعقد في ديسمبر الحالي، لدفعها إلى إجراء تغيير في سياستها إزاء القضايا الخلافية المتعددة في المنطقة.
5- احتواء التمدد التركي في أفريقيا: يأتي التصعيد الأوروبي، والفرنسي على وجه التحديد، بعد إدراك أن أنقرة تحاول جاهدة تقليص تواجد باريس في مناطق نفوذها التقليدية خاصة القارة الأفريقية، وهو ما انعكس في تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 20 نوفمبر الفائت (خلال حوار له مع مجلة "جون أفريك" الفرنسية)، والتي قال فيها أن أنقرة "تتبع سياسات لتأجيج مشاعر معادية لفرنسا في أفريقيا، من خلال إثارة مشاعر الضغينة تجاه حقبة الاستعمار"، موضحاً أن تركيا تمول حملة تشويه، خاصة في الدول الإسلامية ذات النفوذ الكبير في أفريقيا.
تنامي التوتر:
من الواضح أن العلاقات الأوروبية- التركية تشهد نمطاً متنامياً من التوتر على عكس طبيعة علاقاتهما المتأرجحة خلال السنوات الماضية، ويؤجج من ذلك التوتر احتمال انخراط الولايات المتحدة الأمريكية بقوة في هذا التصعيد بعد تولي جو بايدن الرئاسة الأمريكية في 20 يناير القادم، الأمر الذي سوف يدعم من اتخاذ خطوات إضافية ضد تركيا التي تهدد تحركاتها المصالح الغربية في الشرق الأوسط والقارة الأفريقية بشكل مباشر.