أخبار المركز
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (سيطرة تبادلية: السيناريوهات المُحتملة لانتخابات الكونغرس الأمريكي 2024)
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"

الوطنية في مواجهة الأيديولوجيات الإسلاموية

06 سبتمبر، 2017


الجماعات الإسلاموية التي تُوظّف الدين في السياسة هي حركات أيديولوجية بامتياز، حيث تبشر بصلاح الدنيا والآخرة، وتفرض على أتباعها من خلال الهيمنة الناعمة نمطاً موحداً من الحياة ومن الآمال والأحلام والأوهام، وتوظّف الجماعات الإسلاموية طاقتها الأيديولوجية في التحريض والتعبئة من أجل الثورة والتغيير، ما أدى في معظم الحالات إلى أعمال إرهابية وفوضى وعدم استقرار، وهي أمور يرفضها الإسلام الحقيقي، ولا يدعو إليها.

والثابت أن فكر وسلوك جماعة «الإخوان المسلمين»، عبر تاريخها الطويل، أو جماعات متشددة كـ «القاعدة» أو «داعش»، يؤكد الطابع الأيديولوجي البراغماتي لكل هذه الجماعات، لكن المفارقة أنها تنفي علاقتها بالمفهوم المعاصر للأيديولوجيا أو وظائفها في العصر الحديث، وتؤكد كل واحدة من تلك الجماعات أنها تمارس وتجسِّد الإسلام الحقيقي وذلك في ممارسة أيديولوجية صريحة تقوم على الادعاء وتزييف الحقائق ومحاولة التلاعب بوعي الأتباع والمتعاطفين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأيديولوجيا هي الوعي الزائف بحسب أحد أشهر تعريفات الأيديولوجيا.

وتتعدد تعريفات واستخدامات مفهوم الأيديولوجيا، وعلاقته بالواقع والوعي الاجتماعي والسلطة السياسية والعلم والمعرفة. ويعرف كارل مانهايم الأيديولوجيا بأنها نتاج عقلي، وظيفته حجب الطبيعة الحقيقية لمجتمع ما وهي تنبع من عقول الذين يستهدفون تثبيت نظام اجتماعي بعينه، وما «اليوتوبيات» إلا أحلام تلهم العمل الجمعي لجماعات المعارضة، التي تهدف إلى تغيير المجتمع تغييراً شاملاً. ويرى غرامشي أن الأيديولوجيا هي نظرة فكرية شاملة للوجود وقواعد السلوك المرتبطة بها، أي أنها تساوي الفلسفة والنظرة الكونية الشاملة والسياسة. باختصار هي مجمل الأفكار التي تحرك مجتمعاً ما أو تكون أساساً لوجوده وحركته وهي لا تشمل النظريات والأفكار العامة فقط، بل تشمل كذلك كل أنساق القيم والمعتقدات. وكشف غرامشي عن مفهوم الهيمنة الناعمة التي لا تستخدم فيها الطبقة المسيطرة العنف والقوة للسيطرة على الآخرين، وإنما تلجأ إلى الإقناع وتزييف الوعي للوصول والسيطرة، وخلص غرامشي إلى أن القومية والوطنية هما الرابطة التي يمكن للطبقة المهيمنة من خلالها أن تعبر عن تمثيلها للمجتمع ككل، وتحقق بذلك نوعاً من العلاقة بين الحاكمين والمحكومين تقوم على أساس الرضى الإيجابي العام.

لا شك أن الحركات الإسلاموية كلها وبلا استثناء اطلعت على المفاهيم المعاصرة للأيديولوجيا ووظفتها بدرجات مختلفة في سعيها المحموم للوصول إلى السلطة أو ادعاء العمل من أجل الثورة والتغيير لإقامة «الدولة الإسلامية» أو «دولة الخلافة»، كما تأثرت الحركات الإسلامية بالأيديولوجيات الكبرى التي عرفتها البشرية في القرن العشرين، علاوة على الطبعات الأيديولوجية القوموية التي سادت الفضاء العربي منذ الخمسينات من القرن الماضي كالبعث والناصرية، ومن الثابت أن الحركات الإسلاموية كأيديولوجيات نجحت في طرح نفسها بقوة بعد هزيمة الناصرية في حزيران (يونيو) 1967، وتآكل مشروعية البعث في العراق وسورية وكل التجارب القوموية والاشتراكوية في السبعينات من القرن الماضي، من هنا فإن الإشكالية التي تطرح نفسها هي: هل تؤدي هزيمة «القاعدة» و «داعش» و «الإخوان» إلى نهاية الحركات الأيديولوجية الإسلاموية كما حدث للأيديولوجيات القوموية العربية والماركسية، أم أن التهميش الاجتماعي وغياب العدالة والحرية يوفران بيئات حاضنة للأيديولوجيات الإسلاموية ربما تضمن أولاً استمرارها، أو تسهل ثانياً عملية ظهور طبعات أيديولوجية إسلاموية جديدة ربما تكون أكثر عنفاً وتشدداً؟ لا سيما أن الحركات الإسلاموية تمتلك آليات المظلومية التاريخية، وآلية القدرة على خلط الدين بالسياسة.

وبغض النظر عن البيئات أو الآليات التي قد تضمن استمرار الأيديولوجيات الإسلاموية، فإن عدم وجود بدائل أيديولوجية منافسة لها قبول وجاذبية اجتماعية، قد يشكل العنصر الأهم في ضمان بقاء واستمرار الأيديولوجيات الإسلاموية، وهنا لا بد من الاعتراف بأمرين: الأول، أن الحلول الأمنية الاستئصالية لن تؤدي إلى القضاء على الأيديولوجيات الإسلاموية، فالفكر لا يواجه إلا بفكر. والثاني، أن التراجع أو الغياب الموقت للحركات الإسلاموية سيخلق فراغاً أيديولوجياً لا بد من وعي أخطاره والعمل على سده من خلال توفير بدائل أفضل، لأن الأيديولوجيا حاجة نفسية واجتماعية مهمة مهما كانت الجوانب السلبية التي تنطوي عليها، فهي كما يقال شر لا بد منه! وأتصور أن هناك بالفعل محاولات لصياغة أيديولوجيات وطنية يجري الترويج لها وتتبنى فكرة دولة المواطنة كرابطة وهوية جامعة، وتطرح آمالاً وغايات تتعلق بالتنمية والرفاهية، من دون أن تعد بالحرية أو تداول السلطة، وقد أضيفت أخيراً إلى هذه الأيديولوجيات أفكار وتصورات خاصة بتحقيق الاستقرار ومحاربة التطرف والإرهاب، وضرورة التصدي للمؤامرة الخارجية. وهي أمور مهمة لكنها لا تحقق فكرة الإلهام، والنموذج الذي تقوم عليه غالبية الأيديولوجيات.

في هذا السياق، فإن بعض الأيديولوجيات الوطنية العربية تحاول تجديد الخطاب الديني انطلاقاً من فهم معتدل ومتسامح للإسلام، كما تحاول أيديولوجيات وطنية أخرى الفصل بين الدين والسياسة، بينما تؤكد بعض التجارب الأيديولوجية على شمولية الإسلام لكن من دون السماح بممارسة المواطن للسياسة، لأن معارضة الحاكم المسلم أو الخروج على الحاكم يؤديان إلى فتن وحروب تهدم دعائم الدولة. لكن تظل غالبية الأيديولوجيات التي تقوم على الرابطة الوطنية غير قادرة على مقاومة إلهام أو إغواء الروابط والهويات العابرة للوطنية مثل الأيديولوجيات القوموية التي تسعى للوحدة العربية وتحرير فلسطين، أو الإسلاموية والماركسية والليبرالية التي لدى كل منها تصور خاص لتحقيق العالمية كإطار أشمل وأعم من الرابطة الوطنية.

إن انتقاد الأيديولوجيات الوطنية لا يعني الدعوة إلى سرعة تصنيع أيديولوجيا ما فوق وطنية لأن الأيديولوجيات لا تظهر للوجود أو تؤدي وظائفها من خلال نشاط فكري أو ذهني منفصل عن الواقع، وإنما هي عملية اجتماعية ذات بعد تاريخي، كذلك من غير المنطقي إعادة الحياة إلى الأيديولوجيات القوموية أو الماركسية التي هيمنت على الفضاء العربي في القرن الماضي، أو تبني إحداها، لأن بعضها لم يعد صالحاً، وبعضها في حاجة إلى تطوير وتحديث، لكي يستوعب التحولات التي شهدها العالم والمنطقة العربية في القرن الحادي والعشرين، وأنا على قناعة من كون العروبة رابطة ثقافية أهم وأبقى، وبالإمكان توظيفها ثقافياً وسياسياً في إطار مشروع أيديولوجي أوسع.

إن من الضروري وجود أطر أيديولوجية تتسم بالمرونة والنسبية، ولا تعيد إنتاج جمود وانغلاق الأيديولوجيات السابقة، ويتطلب ذلك ضمان الحريات والتنوع والتعدد في دولة القانون والمواطنة الحديثة، علاوة على تحقيق العدالة الاجتماعية. إن هذه الشروط ضرورية حتى يمكن مواجهة تحدي وجود الأيديولوجيات الإسلاموية، وكذلك تحدي الفراغ الذي قد تتركه، ولا شك أن الأيديولوجيات الوطنية لن تكون كافية بذاتها لأنها قد تتعثر وتفشل في تحقيق التنمية والرخاء كما قد تتورط في شعبويات ضيقة تتأثر بتيار الشعبوية العالمي. من هنا يجب دعم الأيديولوجيات الوطنية بروابط وأبعاد فوق وطنية، إما في صيغ تعاون عربي ثقافي أو تكامل اقتصادي أو تعاون إسلامي ثقافي أو اصطفاف إنساني لحماية ودعم حقوق الإنسان والحريات في العالم. ومن شأن كل هذه الصيغ أن تسد نقصاً وتلبي حاجة إلى انتماء أوسع من الانتماء الوطني الذي يبدو ضيقاً للغاية في بعض الدول العربية الصغيرة من ناحيتي السكان أو المساحة.

*نقلا عن صحيفة الحياة