مع تصاعد الصراع الحالي بمنطقة الشرق الأوسط، على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، وما ارتبط بها من تصعيد متبادل بين إسرائيل وإيران، فضلاً عن استمرار استهداف الملاحة في البحر الأحمر؛ تثار تساؤلات حول موقف دول أوروبا من هذه التطورات التي تؤثر في مصالحها. وبينما يبذل قادة أوروبا جهوداً لمنع اندلاع حرب شاملة وأوسع نطاقاً في الإقليم؛ فإن الدور الأوروبي في هذا الصراع ظل يواجه قيوداً وتحديات عديدة.
مخاطر التصعيد:
لا شك في أن استمرار الصراع الحالي في الشرق الأوسط ستكون له ارتدادات خطرة على مصالح وأمن أوروبا؛ نظراً للارتباط الجغرافي والتاريخي بين الإقليمين؛ مما يفرض على دول أوروبا ضرورة إعادة تقييم استراتيجياتها في المنطقة. ومع اتساق نطاق وحدة هذا الصراع، تمتد العواقب والمخاطر على أوروبا لتشمل ما يلي:
1- انعكاسات أمنية: تتمثل التهديدات الأمنية التي تواجه أوروبا عبر الشرق الأوسط في الهجرة، والإرهاب. وتُظهر السوابق التاريخية أن عدم الاستقرار في المنطقة وتصاعد العنف فيها، غالباً ما يؤدي إلى زيادة ضغوط الهجرة على أوروبا. كما لا يزال تهديد الإرهاب المرتبط بالجماعات التي تنشط بشكل أكبر في مناطق الصراع، يمثل مصدر قلق أمني رئيسي لأوروبا. ويُمثل هذان التهديدان الأرضية الخصبة التي تبني عليها الأحزاب الشعبوية في أوروبا شعبيتها، والتي استطاعت من خلالها زعزعة أسس العديد من الأنظمة السياسية الأوروبية؛ ومن ثم تحتاج أوروبا في التعامل مع مثل هذه التهديدات إلى معالجتها من المنبع؛ لتجنب ارتداداتها السلبية عليها.
2- تداعيات جيوسياسية: على الرغم من القرب الجغرافي والروابط التاريخية بين الشرق الأوسط وأوروبا، فقد تضاءل النفوذ الأوروبي في المنطقة خلال السنوات الماضية. وبصرف النظر عن الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع؛ فإن اتساع نطاق الصراع الإقليمي قد يُشجع قوى دولية أخرى، خاصةً روسيا والصين، إلى جانب الولايات المتحدة بالأساس، على توسيع نفوذها بالمنطقة؛ مما يؤثر في المصالح الأوروبية ويحد من تحركاتها الدبلوماسية، خاصةً أن المعايير المزدوجة لأوروبا وموقفها من الحرب الإسرائيلية على غزة مقارنةً بنظيره من الحرب الروسية على أوكرانيا، قد ألحقت الضرر بمصداقيتها، وربما تؤدي إلى تراجع علاقاتها مع دول الجنوب العالمي.
3- خسائر اقتصادية: يفرض امتداد الصراع في الشرق الأوسط مخاطر اقتصادية كبيرة على أوروبا؛ إذ إن الاضطرابات في سلاسل إمدادات النفط من المنطقة قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة. ففي نهاية أكتوبر 2023؛ أي في أعقاب اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، حذَّر البنك الدولي من أن هذا الصراع قد يؤدي إلى "صدمة" اقتصادية عالمية، بما في ذلك ارتفاع أسعار النفط إلى 150 دولاراً للبرميل؛ وهو ما سيؤدي بدوره إلى تفاقم التضخم وارتفاع أسعار السلع كالحبوب، وعدم الاستقرار الاقتصادي في جميع أنحاء أوروبا، فضلاً عن زيادة تكاليف الشحن مع تجنب السفن في البحر الأحمر الهجمات الصاروخية من قِبل الحوثيين. إضافة إلى ذلك؛ فإن اتساع نطاق الصراع الإقليمي ستكون له تأثيرات سلبية في الاستثمار الأجنبي في المنطقة؛ بما يؤثر بدوره في الشركات الأوروبية التي لديها مصالح اقتصادية هناك.
من ناحية أخرى، على الرغم من أن العلاقات الاقتصادية الأوروبية مع إسرائيل مهمة بشكل خاص؛ فإن استمرار التصعيد قد يؤدي إلى دعوات لمراجعة الاتفاقيات التجارية معها، مثلما فعلت إسبانيا في 14 أكتوبر الجاري ودعت الاتحاد الأوروبي لتعليق اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل، على أساس أنها "قد تنتهك بند حقوق الإنسان المُدرج في الاتفاقية"؛ وهو ما سيزيد من الارتدادات السلبية للصراع على أوروبا في ظل أزمة الطاقة التي تسعى لتجاوزها منذ بداية الحرب الأوكرانية.
مساران رئيسيان:
تعني المخاطر المُشار إليها سابقاً أن أوروبا تحتاج، ربما أكثر من غيرها من الأطراف الدولية، إلى ضرورة وقف الصراع المتصاعد بالمنطقة، أو على الأقل تخفيف حدته بالدرجة التي لا تنتج عنها عواقب خطرة تتجاوز قدرة أوروبا على التعامل معها؛ ومع ذلك، جاءت الجهود الأوروبية امتداداً للخط المُعتاد من التفكير الأوروبي في التعامل مع الأزمات المتكررة بالإقليم؛ بحيث اقتصرت على مسارين رئيسيين، هما كالتالي:
1- مساعٍ دبلوماسية لوقف إطلاق النار: تمحورت الجهود الدبلوماسية الأوروبية حول ضرورة وقف إطلاق النار، وتجنب اتساع نطاق الصراع في المنطقة؛ لذلك كانت العواصم الأوروبية، بما في ذلك باريس وبرلين وروما، استباقية في التواصل مع الفاعلين الإقليميين مثل: إسرائيل وإيران ولبنان. وتستثمر فرنسا وإيطاليا، اللتان لديهما قوات متمركزة في لبنان كجزء من قوة الأمم المتحدة المؤقتة "اليونيفيل"، بشكل خاص في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة. كما كان الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل صريحاً بشأن ضرورة وقف إطلاق النار الفوري، ودعا جميع الأطراف المعنية إلى الالتزام بمسؤولياتها القانونية الدولية. وبينما يدعم الاتحاد الأوروبي بوضوح ما يسميه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"؛ فإنه يؤكد دوماً أيضاً أهمية حماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية ضمن القانون الدولي الإنساني.
2- تقديم المساعدات الإنسانية: استجابةً للأزمة الإنسانية التي تفاقمت نتيجة الحرب على غزة، زاد الاتحاد الأوروبي بشكل كبير من مساعداته للسكان المتضررين في القطاع إلى 103 ملايين يورو لعام 2023، بما شمل إطلاق جسر جوي إنساني لتسهيل وصول المساعدات الغذائية والطبية وغيرها. وفي عام 2024، بلغ إجمالي المساعدات الإنسانية الأوروبية للفلسطينيين المحتاجين داخل غزة وفي جميع أنحاء المنطقة 193 مليون يورو، وفقاً لبيان صادر عن الاتحاد الأوروبي يوم 26 إبريل الماضي. بالإضافة إلى ذلك، تعهَّد الاتحاد الأوروبي بأكثر من 104 ملايين يورو كمساعدات إنسانية للبنان وسط الحرب المندلعة بين حزب الله وإسرائيل. وهذا يعكس طبيعة النهج الأوروبي في محاولة التخفيف من معاناة المتضررين في مناطق الصراع.
ولم ينجح هذان المساران الأوروبيان في تخفيف حدة الصراع في المنطقة. ومع ذلك، يُلاحظ حتى الآن أنهما المساران الوحيدان اللذان يمكن تحقيق وحدة أو توافق بين الدول الأوروبية بشأنهما، خاصةً في ظل الانقسامات بين دول أوروبا منذ اندلاع الصراع فيما يتعلق بالاستجابة لتطوراته، وطبيعة الانحيازات الأوروبية المتباينة تجاه ذلك، وهي الانقسامات التي أعاقت بالضرورة القدرة على صياغة موقف أوروبي موَّحد تجاه هذا الصراع.
وفي هذا الإطار، يُثار تساؤل مهم بشأن مدى قدرة أوروبا، من الأساس، على التأثير في مجريات الصراع الإقليمي، وإذا كان يمكنها ذلك، فأية خيارات في جعبتها تُمكِّنها من إحداث ذلك التأثير؟ وما التحديات التي تواجهها في إطار تحقيق هذا الهدف؟
قيود أوروبية:
تمتلك أوروبا مجموعة من الخيارات والأدوات التي يمكنها من خلالها الضغط على إسرائيل لوقف التصعيد أو على الأقل تخفيف حدته، من بينها خيار وقف تصدير الأسلحة الأوروبية لإسرائيل؛ وهو ما تطالب به حالياً إسبانيا وفرنسا باعتباره "الرافعة الوحيدة التي يمكنها اليوم وضع حد لما يحدث"، وفقاً لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال قمة "ميد 9" في قبرص يوم 11 أكتوبر الجاري. أما الخيار الثاني فربما يكون عبر استخدام النفوذ الاقتصادي من خلال وقف اتفاقية التجارة الحرة مع تل أبيب، على سبيل المثال، أو على الأقل تعليقها، ومراجعتها لحين تهدئة الصراع، مثلما دعت إليه إسبانيا مؤخراً.
نظرياً قد تكون هذه الخيارات فعَّالة في توجيه مسار الصراع نحو التهدئة، لكن عملياً ربما لا يمكن لأوروبا اللجوء إليها؛ وذلك لعدة أسباب، هي كالتالي:
1- إشكالية الإجماع: فهذه القرارات حتى تكون فعَّالة، يجب أن تتم على مستوى الاتحاد الأوروبي، وليس على مستوى الدول منفردة. والمشكلة هنا أن ديناميكية اتخاذ القرار في الاتحاد تتم بالإجماع؛ وهو ما سيعرقل بالضرورة اتخاذ مثل هذه الخطوة؛ نظراً للانقسام الأوروبي بشأن الصراع بالمنطقة من الأساس، وتباين مصالح الدول الأعضاء. وهنا أيضاً تبدو أحد دوافع التوجه الفرنسي "الحاد" نحو إسرائيل مؤخراً، في كونه مرتبطاً بالتهديدات الإسرائيلية للقوات الأوروبية التابعة لليونيفيل في لبنان ومطالبتها بإخلاء مقراتها، وبعدها مهاجمتها في 14 أكتوبر الجاري.
2- تراجع التأثير: تراجعت المكانة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي من حيث التأثير في تطورات الشرق الأوسط، وليس الصراع الحالي فحسب؛ وذلك لصالح قوى دولية أخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا والصين. ولا شك في أن أوروبا نفسها تُدرك هذه الحقيقة، خاصةً في ظل الانقسامات المتزايدة بين دولها بشأن معظم قضايا السياسة الخارجية، والتي تضع قيوداً مباشرة على إمكانية القيام بدور أوروبي مستقل ومُوَّحد وفعَّال في أوقات الأزمات؛ ومن ثم ينصرف التركيز الأوروبي إلى محاولة التأثير في أطراف أخرى مؤثرة في المنطقة، مثل: الولايات المتحدة وبعض الفاعلين الإقليميين، على أمل أن يمارسوا ضغطاً أكبر على إسرائيل وبقية أطراف الصراع، بما يُجنِّب المنطقة تبعات تفاقم وانتشار الحرب الحالية.
3- متغير الطاقة: في ظل تحرك أوروبا نحو تنويع مصادر الطاقة وتجنب الاعتماد على روسيا بشكل أساسي، ظهرت إسرائيل كأحد البدائل للحصول على الغاز إلى جانب خيارات أخرى، ولاسيما مع استمرار الحرب الأوكرانية، وما يرتبط بها من تشدد في العقوبات الغربية المفروضة على موسكو؛ ومن ثم فإن متغير الطاقة هو الآخر قد يحد من قدرة أوروبا على التحرك والضغط على إسرائيل لوقف تصعيدها الراهن.
ختاماً، يخلص هذا التحليل إلى أن دول أوروبا ربما لا يمكنها القيام بأكثر مما تفعل في الأزمات الحالية في الشرق الأوسط. بمعنى آخر؛ سيظل دور أوروبا قاصراً على توفير المزيد من المساعدات الإنسانية للمتضررين من الصراع الإقليمي الراهن، والدعوات السياسية "الخجولة" لوقف إطلاق النار، وذلك بالرغم من أن أوروبا تُعد من المتضررين جراء استمرار الوضع الحالي وتفاقمه، بما يفرضه من مخاطر سياسية واقتصادية وأمنية عليها. وطالما لا يمكن لأوروبا توظيف أدوات نفوذها وأوراق الضغط لديها، فلا يمكن التعويل على دور أوروبي حاسم في التوترات التي تمر بها المنطقة حالياً.