شهدت تركيا هجومًا إرهابيًا وقع صباح يوم الأحد، الأول من أكتوبر 2023، استهدف مديرية الأمن التابعة لوزارة الداخلية بالقرب من مقر البرلمان فى العاصمة أنقرة. وبعد ساعات من وقوع الهجوم، أعلن حزب العمال الكردستانى المحظور فى تركيا مسؤوليته عن هذا الهجوم الذى نفذته وحدة يُطلق عليها اسم «لواء الخالدين»، وفقًا للبيان الصادر عن قيادة مقر مركز الدفاع الشعبى على موقع «وكالة أنباء فرات» الإخبارية الموالية لحزب العمال الكردستانى.
من جانبها، كشفت وزارة الداخلية التركية عن هوية المنفذ الأول لهجوم أنقرة، وهو المدعو حسن أوغوز المُلقب بـ«كانيفار أردال»، والمنفذ الثانى هو المدعو أوزكان شاهين، وهما عضوان فى حزب العمال الكردستانى. فيما أوضح وزير الخارجية التركى، هاكان فيدان، يوم 4 أكتوبر الجارى، أن منفذى الهجوم دخلا البلاد من الأراضى السورية وتلقيا تدريبات فى الداخل التركى.
مقارنات إرهابية:
يُعد الهجوم الإرهابى الواقع فى 1 أكتوبر الجارى هو الأول من نوعه فى أنقرة منذ عام 2016، عندما اجتاحت حينها سلسلة من الهجمات البلاد. ووقع آخر هجوم كبير فى تركيا فى شارع للتسوق فى إسطنبول يوم 13 نوفمبر 2022، وأدى إلى مقتل 6 أشخاص وإصابة العشرات، ولم تعلن حينها أى جهة مسؤوليتها عنه، لكن السلطات التركية نسبته إلى حزب العمال الكردستانى.
ويُلاحظ وجود قواسم مشتركة بين هجوم أنقرة الأخيرة وسلفه فى إسطنبول العام الماضى، حيث إن كليهما وقع فى يوم عُطلة رسمية (الأحد)، وكانا فى الربع الأخير من العام مع اقتراب موسم أعياد رأس السنة وهو ما قد يكون له تأثير سلبى فى موسم الرواج السياحى فى تركيا، فضلًا عن أن السلطات التركية وجهت تهمة ارتكابهما لحزب العمال الكردستانى.
وعلى صعيد التباين بين هجومى أنقرة هذا العام وإسطنبول العام الماضى، فقد وُجّهت عملية إسطنبول إلى مدنيين بشارع الاستقلال، وفى ساعة مزدحمة من اليوم (الرابعة عصرًا)، بينما وُجّهت عملية أنقرة إلى مديرية الأمن التركية وفى ساعة مُبكرة من اليوم (التاسعة صباحًا). وبينما أنكر حزب العمال الكردستانى ضلوعه فى هجوم إسطنبول، فإنه أعلن من تلقاء نفسه مسؤوليته عن هجوم أنقرة. أيضًا، ثمة اختلاف فى طريق تنفيذ الهجومين الإرهابيين وعدد الضحايا، حيث نُفذ هجوم إسطنبول على يد امرأة واحدة وبزرع قنبلة وسط المارة فى شارع الاستقلال وتفجيرها من بُعد، مما أدى إلى مقتل 6 أشخاص وإصابة 81 آخرين بجروح. فيما نُفذ هجوم أنقرة على يد رجلين، أولهما قام بتشتيت قوات الأمن وإلقاء عبوة ناسفة صغيرة فى حين قام الآخر بفتح النيران على حراس المديرية قبل أن يقوم بتفجير نفسه، وهو ما نتج عنه جرح شرطيين قبل مقتل المهاجمين الاثنين.
رسائل ضاغطة:
ثمة رسائل مختلفة انطوى عليها هجوم أنقرة الأخير سواءً على صعيد المكان أم التوقيت الزمنى، ويمكن توضيحها كالتالى:
1- اختيار عمق العاصمة أنقرة لتنفيذ الهجوم الإرهابى وفى حى يضم مقار عدد من الوزارات إضافة إلى البرلمان، يُعد نقلة نوعية فى صراع حزب العمال الكردستانى مع النظام التركى، ورسالة تهديد مباشرة للأخير بأن الحزب قادر على الوصول إلى العمق التركى، بخلاف عملياته السابقة.
2- تزامن هذا الهجوم مع افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة وبمقربة شديدة من مقر البرلمان، وقد يكون الهدف من ذلك إرسال رسالة ضاغطة تدفع البرلمان التركى إلى عدم المصادقة على انضمام السويد لحلف شمال الأطلسى «الناتو». ويتوافق هذا الدافع مع مواصلة أنصار حزب العمال الكردستانى فى السويد تنظيم مظاهرات ضد تركيا تحت حراسة قوات الشرطة، وكان أحدثها يوم 7 أكتوبر الجارى، وذلك فى اتجاه إفشال الصفقة المُحتملة بين ستوكهولم وأنقرة.
وسبق أن استضافت العاصمة الليتوانية فيلنيوس، فى منتصف يوليو الماضى، اجتماعًا ثلاثيًا ضم الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء السويدى، أولف كريسترسون، وأمين عام «الناتو»، ينس ستولتنبرج. وعقب هذا الاجتماع أكد بيان ثلاثى أن أنقرة ستحيل بروتوكولات انضمام السويد للحلف إلى البرلمان للتصديق عليه، وأن ستوكهولم ستدعم جهود إحياء عملية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى.
وبالتالى قد لا تُمانع تركيا انضمام السويد لحلف «الناتو»، إلا أنها لا تزال تعلّق مصادقة برلمانها على هذه الموافقة دون تحديد سقف زمنى لذلك، فى ظل الخلاف الحالى بين أنقرة وستوكهولم. فالسويد فى نظر تركيا تأوى عناصر مرتبطة بحزب العمال الكردستانى، فضلًا عن رفض الأولى منع مسيرات ينظمها على أراضيها أعضاء حزب العمال ومناصرون له ضد تركيا. ومسألة عدم كفاية الإجراءات المُتخذة من قِبل السويد ضد الأكراد، تحدث عنها مؤخرًا جودت يلماز، نائب الرئيس التركى، حيث أكد أهمية اتخاذ ستوكهولم «مزيد من الخطوات الملموسة ضد الإرهاب للحصول على دعم أنقرة لمحاولتها الانضمام إلى الناتو».
3- توقيت الهجوم الإرهابى مع بداية الربع الأخير من العام، وهو ما قد يُفهم منه سعى منفذيه لإفساد موسم السياحة فى تركيا، والتأثير سلبًا فى الأوضاع الاقتصادية فى البلاد، وبما قد يفرض مزيدًا من الضغوط على النظام التركى قبل الانتخابات المحلية المُقرّرة فى مارس 2024. وكان قطاع السياحة فى تركيا قد تعافى من توابع كارثة الزلزال فى فبراير الماضى، وارتفعت إيراداته بنسبة 23.1% فى الربع الثانى من هذا العام.
4- حجم الأضرار المحدود يُظهر العملية الإرهابية وكأنها مجرد رسالة تحذيرية للنظام التركى، حيث جاء فى البيان الصادر عن حزب العمال الكردستانى: «يجب على كل شخص أن يعلم أن أعضاء لواء الخالدين كان بإمكانهم تحقيق نتيجة مختلفة تمامًا مع تغيير بسيط فى توقيتهم إذا أرادوا ذلك». وأضاف: «لكن مثل هذا القرار لم يتخذ عمدًا وتم الحفاظ على الهدف الرئيسى وهو إرسال الرسالة اللازمة إلى الجهات المعنية وتحذيرها بجدية».
وبالتالى كأنه لم يكن مقصودًا تفجير مديرية الأمن أو إلحاق خسائر فى الأرواح أو فى المدنيين على وجه الخصوص، بل يمكن النظر للعملية باعتبارها أداة ضغط واستعراض للقدرات من قِبل حزب العمال الكردستانى، ودفع النظام التركى لإعادة النظر فى سياسته تجاه الكُرد، خاصةً فى ظل وجود مزاعم متعلقة بسوء المعاملة فى السجون والتضييق عليهم بداعى انتمائهم لحزب العمال الكردستانى. ومعلوم أن تركيا تقوم بين حين وآخر بشن عمليات عسكرية فى العراق وسوريا ضد عناصر مرتبطة بحزب العمال الكُردستانى، ترى أن لهم دورًا فى تفجيرات الأعوام السابقة.
5- تلويح حزب العمال الكردستانى، فى بيانه، بأن هجماته مستمرة ضد النظام التركى إذا واصل الأخير سياساته المتشددة ضد الأكراد. وهذا ما يُوصل رسالة للسلطات التركية بأن عليها بذل المزيد من الجهد فى سبيل استتباب الأمن بالبلاد، خاصةً أن التحقيقات كشفت أن منفذى هجوم أنقرة الأخير قتلا طبيبًا بيطريًا فى ولاية قيصرى قبل الاستيلاء على سيارته والتوجه بها إلى العاصمة التركية لتنفيذ الهجوم المسلح، دون أن يستوقفهم أحد.
تصعيد قادم:
ثمة عدد من التداعيات والانعكاسات المُحتملة لهجوم أنقرة الإرهابى، سواءً على الداخل التركى أم سياسات أردوغان الخارجية، ومنها الآتى:
1- زيادة التصعيد ضد حزب العمال الكردستانى: يُتوقع أن يقوم النظام التركى بتوسيع عملياته الأمنية من أجل ضبط الوضع الداخلى، وإحكام القبضة على المشتبه بصلتهم بحزب العمال الكردستانى. وبالفعل منذ وقوع هجوم أنقرة، نفذت السلطات التركية مداهمات وعمليات فى أنحاء البلاد، وألقت القبض على العشرات. كما شنت القوات التركية وابلًا من الضربات الجوية والهجمات على أهداف للمسلحين فى شمال سوريا والعراق. وأعلنت وزارة الدفاع التركية، يوم 7 أكتوبر الجارى، أن قواتها قتلت 58 مسلحًا كرديًا فى هجمات على مواقع للمسلحين فى شمال سوريا. وقد تسرع الحكومة التركية فى إنشاء منطقة آمنة (Safe Zone) بطول 30 كم على طول حدودها مع سوريا، لتأمين حدودها الجنوبية من الهجمات.
2- تأخير انضمام السويد لحلف «الناتو»: يُتوقع أن يكون لهجوم أنقرة أصداء خارجية متمثلة فى تشدد تركيا وإصرارها على مطالبها التى تضمن من خلالها جدية السويد فى مساعدتها على تطويق الإرهاب الذى يهدد تركيا، ومن بين ذلك سُبل تعامل ستوكهولم مع أى من المشتبه فى صلتهم بحزب العمال الكردستانى. فعلى الرغم من إعلان السويد أنها أوفت باتفاقها مع تركيا، بما فى ذلك إصدارها قانون مكافحة الإرهاب الذى دخل حيز التنفيذ فى يونيو الماضى، وبموجبه حكمت محكمة سويدية فى يوليو الماضى على رجل تركى بالسجن بتهمة تمويل حزب العمال الكردستاني؛ فإن أنقرة ترى أن هذه الإجراءات غير كافية، وخاصةً فى ظل سماح ستوكهولم بالمظاهرات المُناهضة لتركيا.
وفى هذا الإطار، لم يُقدم الرئيس أردوغان، فى خطابه بالدورة البرلمانية الجديدة، أى إشارة بشأن الموعد الذى قد يصادق فيه البرلمان على عضوية السويد فى «الناتو»، ما يؤكد أن أنقرة ليست راضية بما يكفى عن جهود السويد بخصوص مساعدتها على ملاحقة أشخاص منتمين لحزب العمال الكردستانى على أراضيها. وبالتالى مع استمرار الخلافات الحالية بين أنقرة وستوكهولم، من المُتوقع أن يُعطل البرلمان التركى إجراءات المصادقة على انضمام السويد لـ«الناتو».
ختامًا، من المُتوقع أن يُوظف النظام التركى هجوم أنقرة الإرهابى فى تحقيق أهداف مختلفة له؛ من حيث تكثيف حملاته الأمنية والعسكرية ضد عناصر حزب العمال الكردستانى فى الداخل والخارج، وأيضًا التواصل مع الغرب لضمان اتخاذ إجراءات صارمة ضد المنتمين لهذا الحزب، وربط تلك الخطوة بموافقة أنقرة على انضمام السويد لحلف «الناتو». علاوة على التوظيف السياسى لهذا الهجوم الإرهابى من قِبل الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية فى محاولة إضعاف موقف أحزاب المعارضة خلال الانتخابات المحلية المُقررة العام المقبل.
* باحث فى دراسات السلام والصراع