شهدت دولة نيجيريا الاتحادية انتخابات رئاسية تاريخية تنافست فيها رموز سياسية كبيرة، وانتهت في نهاية فبراير الماضي بفوز مرشح الحزب الحاكم، السيناتور بولا أحمد تينوبو، الذي حصل على 8.8 مليون صوت، متقدماً على منافسيه الرئيسيين عتيق أبو بكر، مرشح حزب الشعب الديمقراطي "6.9 مليون صوت"، وبيتر أوبي، مرشح حزب العمال "6.1 مليون صوت"، كما حصد أكثر من 25% من الأصوات في ثلثي ولايات البلاد "24 من 36 ولاية على الأقل" ، بالإضافة إلى أصوات العاصمة أبوجا، والتي يشترط أن يفوز بها المترشح بالرئاسة.
وتأتي نتائج هذه الانتخابات منافية لتوقعات كثيرين حيث كانت تميل التحليلات إلى احتمالية صعود الأحزاب المعارضة، نظراً للثقل السياسي والاقتصادي والقبلي الذي يتمتع به المتنافسون خاصة، بيترا أوبي مرشح حزب العمال وعتيق أبو بكر مرشح حزب الشعب الديمقراطي. وعلى الرغم من الأغلبية الفارقة التي فاز بها الرئيس الجديد إلا أن التفاعلات التي تزامنت مع الانتخابات وما بعدها تشير إلى بعض التحديات التي قد تواجه الرئيس الجديد.
دلالات السلوك الانتخابي
يُعد عاملا القبيلة والجهة من العوامل الأكثر تأثيراً في توجهات الناخبين خاصة في مناطق جنوب غرب البلاد من "اليوروبا"، والذين يعدون فوز أحمد تينوبو فرصة ذهبية لاستعادة حظ أبناء قبيلتهم في حكم البلاد. غير أن الدعم الشعبي الذي تلقاه تينوبو من عموم "الهوسا" في شمال البلاد لا يقوم على أسس قبلية، وقد يعود إلى الثقة في شخصية بولا تينوبو وإمكاناته القيادية رغم تنافسه مع عتيق أبو بكر، السياسي الثري الشهير، والذي ينحدر من إحدى بطون القبائل "الهوساوية" في الشمال.
على الجانب الآخر استطاع تينوبو كسب الأصوات المتأرجحة في الولايات التي كانت تمثل منطقة نفوذ لحزب الشعب الديمقراطي، خاصة بعد أن تسبب المرشح الخاسر بيتر أوبي فيما يعرف بظاهرة تفتيت الأصوات، وهو ما أضر المرشح الآخر عتيق أبو بكر؛ وأدى إلى خفض الأصوات المؤيدة له، خاصة أن أوبي قد تمكن من الفوز في بعض مناطق نفوذ حزب الشعب الديمقراطي، لاسيما الولايات الشمالية الوسطى، كما كانت تلتف حوله فئات شبابية عديدة، خاصة في المدن الكبرى ومن الشباب الأكثر تعليماً. على الرغم أن المعيار العمري لا يمثل المتحكم الوحيد في حركة هؤلاء الشباب كما أن البعدين الديني والإثني يتحكمان إلى حد بعيد في حركة الشباب كعنصر ضغط اجتماعي وسياسي.
من الأمور اللافتة للنظر أيضاً، وقد تكون ذات دلالة غير مريحة للسلطات النيجيرية محاولات التشويش على هذه الانتخابات لعرقلة سيرها، ودعوات إلغاء نتائجها وتنظيم انتخابات جديدة؛ بسبب فقدان بعض الأحزاب الثقة بنتائج الاستحقاقات الرئاسية، فقد طالب الحزبان المنافسان الرئيسيان للحزب الحاكم، الرئيس بخاري بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، وإقالة رئيس اللجنة الوطنية للانتخابات محمود يعقوب.
في المقابل، كان هناك عدد من المؤشرات الإيجابية لهذه الانتخابات وأهمها اتسامها بالطابع السلمي العام في مجمل مسيرتها مقارنة بسابقاتها منذ عام 1999، خاصة أنه لم يسجل خلال سير العملية الانتخابية هجمات إرهابية أو قتل للناخبين، رغم تنامي المخاوف من تداعيات رفض المعارضة لقبول النتائج، ورغم ذلك لا زالت هناك مخاوف من قيام المعارضة بالدعوة للخروج إلى الشوارع، الأمر الذي قد يترتب عليه توترات أمنية وسياسية في مناطق عديدة بالبلاد.
سمات القوة والضعف
يمتلك تينوبو القدرة على التخطيط طويل الأمد، ويعتبره البعض "ملك اللعبة الطويلة" حيث كان يخطط لصعوده إلى الحكم منذ سنوات بعيدة. فهو لم يكن مجرد حاكم لولاية كبرى مثل لاغوس، بل قام أيضاً بالتخطيط لمن يأتي من بعده لحكم الولاية. واستخدم نفوذه وموارده الهائلة لبناء قادة وإقامة نفوذ سياسي، بدأ في الجنوب الغربي ثم امتد إلى شمال نيجيريا. فهو يتمتع بنفوذ كبير في الجنوب الغربي حيث يُنظر له هناك بأنه عراب سياسي وصانع ملوك. فلقد عمل نائباً في مجلس الشيوخ الفدرالي النيجيري وتولى منصب حاكم ولاية لاغوس لفترتين متتاليتين 1999-2007، وله جهود وبصمات واضحة في مسيرة الحياة السياسية في نيجيريا وقد حقق إنجازات اقتصادية وتنموية غير مسبوقة لمدينة لاغوس العاصمة الاقتصادية لنيجيريا فهو من أنشأ وزارة للمهمات الخاصة State Ministry of Special Duties، ويُنسب إليه الفضل في الإصلاحات الرائدة التي أدت إلى تحول الولاية، التي أصبحت الآن المركز الاقتصادي لنيجيريا. وقد قام باختيار كل حكام لاغوس منذ تركه لهذا المنصب في عام 2007، وكان له دور فعال في انتخاب الرئيس السابق، بخاري، في محاولته الرابعة في عام 2015.
وبعد عقود من العمل بصفته الرجل الثاني، أعلن تينوبو أن دوره الآن قد حان للخروج من الظل إلى الرئاسة. وكان شعار حملته هو "Emi Lokan"، والذي يعني "حان دوري" بلغة "اليوروبا".
ففي واقع الأمر، يُعد أحمد بولا تينوبو شخصية سياسية محنكة حظيت بالقبول والإجماع الشعبي، نظراً لما يمتلكه الرجل من رؤية في الإدارة وقدرة على قيادة الجماهير، وعدم إبداء أي تصريحات أو ممارسات تمييزيه سواء على المستوى الحزبي أو الديني أو القبلي. كما أن له أفكاراً تقدمية عصرية مع إبداء احترام للتراث وللرموز الاجتماعية والوطنية من الملوك والأمراء والقيادات الدينية من العلماء والأئمة ورجال الدين المسيحي، وما يعطيه تميزاً في هذا الأمر أيضاً أنه مسلم الديانة وزوجته مسيحية.
وعلى الرغم من ذلك يواجه تينوبو العديد من الاتهامات، منها مزاعم الفساد بسبب ثروته الطائلة والممتدة حيث له مصالح في العديد من القطاعات بما في ذلك العقارات ووسائل الإعلام. واتهامه بأنه يمتلك شاحنة من السبائك الذهبية في منزله في منطقة ثرية من لاغوس منذ انتخابات 2019. كما توجه له انتقادات متكررة على خلفية عدم تعامله بالشفافية بشكل مقنع مع المخاوف بشأن صحته، لأنه في بعض الأحيان يظهر مرتبكاً وغير متماسك أثناء الحديث.
تحديات داخلية متشابكة
تواجه إدارة الرئيس تينوبو مجموعة كبيرة ومتنوعة من التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية فضلاً عن الدينية الطائفية، ومن أبرز تلك التحديات ما يلي:
1- الانقسامات القبلية الداخلية: لا زال على الرئيس المنتخب أن يواصل مهمة توحيد أطياف المجتمع والمكونات المتعددة لهذا البلد الذي يعاني من أعراض التمزق على أسس دينية وعرقية وقبلية. فقد فرضت طبيعة المجتمع النيجيري متعدد الأعراق والديانات؛ وضعية معقدة، إذ تضم البلاد أكثر من 250 مجموعة عرقية، وتشهد استقطاباً بين الشمال ذي الغالبية المسلمة والجنوب ذي الأكثرية المسيحية.
2- مشاكل مجتمعية مزمنة: هناك مجموعة من المشاكل التي يعاني منها المجتمع النيجيري في مقدمتها نقص الوقود، والكهرباء التي باتت أزمة مزمنة ومتكررة بسبب السياسات المتبعة من قبل الإدارات السابقة.
3- التصدعات داخل الحزب الحاكم: من المنتظر من الرئيس الحالي بعد توليه لمقاليد الحكم السعي الجاد للمصالحة بين الرموز وأصحاب النفوذ داخل الحزب التقدمي لعموم النيجيريين الحاكم، لإعادة الترتيب وللتخلص من التصدعات داخله والتي كادت أن تُفشل جهود مرشح الحزب للفوز بالانتخابات الأخيرة.
4- أنشطة الجماعات الإرهابية: والتي بدأت منذ 2009 ممثلة في عناصر جماعة بوكو حرام في شمال شرقي البلاد، والتي خلفت أكثر من 40 ألف قتيل وأكثر من مليوني نازح، وذلك رغم تعهدات الإدارات المتعاقبة بملاحقتها. وليس هذا فحسب، بل إنها أسست جبهات جديدة في الشمال الغربي ووسط البلاد، والتي تنشط فيها عصابات إجرامية تهاجم بلا رادع الرعاة والمزارعين في المناطق الريفية، وتقوم كذلك بعمليات الخطف من أجل الحصول على فدية.
كما أجبرت حالات انعدام الأمن وعمليات الخطف الجماعي السلطات على إغلاق أكثر من 11 ألف مدرسة منذ نهاية 2020، مما تزايدت معه نسبة الأطفال غير الملتحقين بالمدارس "18,5 مليون في 2022، و60% منهم من الفتيات" حسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة.
5- ظاهرة سرقة النفط الخام: تواجه أيضاً الإدارة الجديدة ظاهرة سرقة النفط المنتشرة على نطاق واسع، حيث فقدت نيجيريا بسببها مؤقتاً مكانتها كأكبر منتج للنفط في إفريقيا لصالح أنغولا في الربع الثالث من 2022 قبل أن تعود إلى القمة وفقًا لأحدث أرقام منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك". ومن ثم، يتحتم على إدارة الرئيس الجديد العمل بشكل جدي لتعافي القطاع النفطي النيجيري وتحقيق التزاماتها الوطنية والإقليمية والدولية حيث تنص ميزانيتها لعام 2023 على استئناف إنتاجها من النفط عند 1,69 مليون برميل من النفط الخام يومياً، وهو مستوى أقل من حصتها البالغة 1,8 مليون برميل التي حددتها منظمة "أوبك".
6- التنظيمات الإجرامية الخليطة: فمن المتوقع من الإدارة الجديدة أن تجد صيغة فعالة للتعامل مع تنظيمات إجرامية خليطة ذات غطاء مدني، حيث تدعي بأن لها مطالب وطنية مشروعة، وتنشط في الجنوب الشرقي من البلاد بمحاذاة عصابات الجريمة المنظمة في منطقة دلتا نهر النيجر، التي تعد منطقة استراتيجية لتصدير النفط النيجيري، وتنتشر بها عصابات سرقة وتهريب النفط، فضلاً عن وجود جماعات انفصالية بالمنطقة.
7- امتداد تداعيات "كوفيد19" والحرب الأوكرانية: يضاف إلى التحديات السابقة التداعيات الكارثية المثقلة جراء جائحة "كوفيد19" التي دفعت اقتصاد البلاد إلى الركود في منتصف 2020 للمرة الأولى منذ أربع سنوات، وكذلك تداعيات الحرب في أوكرانيا التي ضاعفت من معاناة المعيشة للمواطنين حيث تجاوزت نسبة التضخم 20%، وذلك رغم التوقعات الإيجابية الضئيلة للنمو من قبل صندوق النقد الدولي والتي تشير إلى نمو الناتج المحلي بنسبة 3.2% في 2023 بعد 3% في 2022.
اتجاهات المشهد السياسي
حسب المعطيات العامة وعلى ضوء التفاعلات التي صاحبت عملية التصويت وسير الانتخابات ووفقاً لطبيعة العلاقات المتشابكة بين مكونات المجتمع النيجيري المدني وانعكاساتها الواضحة خلال هذه الجولة من الاستحقاقات الرئاسية والحملات الانتخابية بين الأحزاب السياسية والقوى الفاعلة في المشهد السياسي يمكننا القول بالتالي:
1- ما زال الفرقاء السياسيون في نيجيريا يحافظون على شعرة معاوية، والمتمثلة في إدارة البلاد على مبدأ التوافق السياسي بين الفاعلين الكبار، على الرغم من الاختلافات في الانتماءات والمصالح المحركة لهم.
2- إن مبادئ اللعبة الديمقراطية لا تزال محل قبول واحترام لدى جميع الأطراف "الفائز والخاسر"، واللجوء إلى الوسائل القانونية للاحتجاج عبر القضاء هو المنطق السائد على الرغم من بعض الممارسات العنيفة، التي تبقى محدودة وغير معكرة للجو العام.
3- ستبقى السياسة النيجيرية الخارجية، في مجملها، على النهج الذي سلكته في عهد الرئيس محمد بخاري خاصة فما يتعلق بالعالم العربي إلا أنها ستشهد تغيراً في الاتجاه الإيجابي بالنسبة لعلاقات نيجيريا بالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بسبب وجود علاقات ارتباط قوية بين الرئيس المنتخب تينوبو وشبكة من المصالح ترجع لفترات بعيدة، ولفترة اللجوء لأمريكا.
4- إن سيطرة الحزب الحاكم في نيجيريا تبقى لفترة طويلة، ومؤثرة في مجمل الأوضاع السياسية، وليس الاستحواذ على الرئاسة فقط، بل حسم الحزب الحاكم سيطرته على مجلس الشيوخ النيجيري بحصوله على 49 مقعداً من أصل 89 مقعداً، وهو ما يضمن له الأغلبية في المجلس.
5- إن الدين لا يزال يحظى بنفوذ مؤثر في المشهد السياسي النيجيري ولدى الناخب النيجيري رغم محاولات توظيف عامل الانتماء القبلي لدى أبناء "اليوروبا" التي ينتمي إليها مرشح الحزب الحاكم، فعلى سبيل المثال صوتت الجماهير المسيحية من الطوائف المختلفة لصالح بيتر أوبي المدعوم من المرجعية العليا للقيادة المسيحية في مدينة لاغوس.
6- إن العمل بمقررات التداول السلمي والتناوب على رئاسة البلاد على أساس مبدأ المناطقية "مبدأ الأقاليم الجيوسياسية الستة لنيجيريا"، والذي انتهى إليه المؤتمر الوطني للإصلاح السياسي والدستوري عام 2000 هو مبدأ نظري فحسب، بينما عاد العمل بمبدأ أقاليم الهوية الثلاثة الرئيسة للدولة والمبينة على كبريات القبائل، حيث الشمال لـ"الهوسا"، والجنوب الغربي لـ"اليوروبا"، بينما الجنوب الشرقي لقبائل "الإيبو".