عندما انتُخب إيمانويل ماكرون رئيساً لفرنسا، قطع وعوداً بإقامة علاقات جديدة مع القارة الأفريقية. وبالفعل اتخذ ماكرون موقفاً ليبرالياً متعمداً عندما ندد بإرث نظام "Françafrique" أو النفوذ الفرنسي في أفريقيا في فترة ما بعد الاستعمار، وهو نظام وضعه الرئيس الأسبق شارل ديغول، ويقوم على دعم قادة الدول الأفريقية المستقلة حديثاً، التي كانت واقعة تحت الحكم الاستعماري الفرنسي، الذين هم على أتم الاستعداد لخدمة المصالح الفرنسية. أما القادة الذين قاوموا نظام الحماية الفرنسية، تعرضوا إما للإطاحة أو القتل، كما حدث مع سيكو توريه الرئيس الغيني الأسبق، وسيلفانوس أوليمبيو رئيس توغو الأسبق.
ولقد تضمنت هذه السياسة الفرنسية في أفريقيا نظاماً سرياً بالكامل يعتمد على شبكات غير دبلوماسية، منها أجهزة الاستخبارات وقادة الأعمال والمستشارون العسكريين ورؤساء الدول، وهو ما أتاح للسلطات الفرنسية التدخل مباشرةً في الشؤون الداخلية لمستعمراتها السابقة.
مع ذلك يتعرض النفوذ الفرنسي في أفريقيا للتراجع المضطرد في السنوات الأخيرة، لصالح قوى منافسة من بينها روسيا، وهو ما برز جلياً في التصويت الأفريقي في الأزمة الأوكرانية الأخيرة، حيث مال عدد من الدول الأفريقية إلى الامتناع عن إدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة مثل السودان، وجنوب أفريقيا، وجنوب السودان، ومالي، وبروندي، وموزمبيق، وزيمبابواي، وغيرها، أو دعمت روسيا مثل إريتريا، أو غابت عن التصويت كالمغرب.
استراتيجية ماكرون
لذا أراد ماكرون التخلي عن إرث هذا النظام، من خلال الاعتماد على الجيل الجديد من الشباب الأفارقة، والتعامل المباشر مع فصائل المجتمع المدني، وإنشاء مجلس رئاسي لأفريقيا يتألف في الأساس من فرنسيين من أصول أفريقية.
قام ماكرون منذ البداية بلفتات رمزية تصالحية من أجل تحسين صورة باريس في أفريقيا، ففي مايو 2021، سافر إلى رواندا للاعتراف علناً بفشل فرنسا أثناء الإبادة الجماعية التي وقعت في عام 1994. وأمر كذلك بإصدار قانون يوصي بإعادة الأعمال الفنية التي تم الاستيلاء عليها خلال الحقبة الاستعمارية، كما أمر بالقيام بإصلاحات تاريخية في العلاقات المالية بين فرنسا وأفريقيا، حيث ستتوقف فرنسا بموجبها عن الاحتفاظ بنسبة 50٪ من الاحتياطيات في الخزانة الفرنسية. علاوة على ذلك، بذلت باريس في السنوات الأخيرة جهوداً مدروسة لزيادة ميزانيتها الخاصة بمساعدة أفريقيا وتنميتها كوسيلة لتعزيز نفوذها المتضائلة.
وعلى الرغم من جهود ماكرون، كان التحول في مسار العلاقات الفرنسية-الأفريقية كان طفيفاً، فلقد قوبلت فرنسا بموجة كبيرة من عدم القبول لم تشعر بها منذ عقود، وتجلى ذلك من خلال المشاعر المعادية لفرنسا التي انتشرت في الآونة الأخيرة في بوركينا فاسو ومالي، وعلى نطاق أوسع في منطقة غرب أفريقيا من دون الإقليمية. وهكذا يبدو أن تحدي ماكرون للهياكل الاستعمارية لم يكن كافياً، حتى بالنسبة لمؤيدي التغيير في سياسة النفوذ الفرنسي في أفريقيا.
وكان من بين أهم الأخطاء الدبلوماسية والسياسية التي قوضت العلاقات الفرنسية-الأفريقية هو رد فرنسا العسكري بخصوص مشكلة الجهاديين في منطقة الساحل، وقرارات باريس أحادية الجانب فيما يتعلق بمجموعة دول الساحل الخمس (جي 5)، وإحباطها للمبادرات المحلية غير العسكرية لمواجهة التطرف، وتبنيها لمعايير مزدوجة بشأن هذه المسألة.
اخفاق "برخان"
ظلت القوات الفرنسية تقاتل المسلحين الجهاديين في منطقة الساحل منذ عام 2013. ومع ذلك، وعلى الرغم من الجهود العسكرية الهائلة والمتواصلة التي بذلتها فرنسا – حيث أرسلت ما يزيد عن 5000 جندي – لم تتمكن من إضعاف التهديد الجهادي على نحو قاطع، بل اشتدت الهجمات على المجتمعات المحلية في وسط مالي وجنوب بوركينا فاسو أكثر من ذي قبل.
علاوة على ذلك، بدأ تهديد الجهاديين في منطقة الساحل في الانتشار تدريجياً من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، متجهاً نحو الدول الساحلية بخليج غينيا. ولقد أكدت سلسلة الغارات الحدودية في ساحل العاج وبنين وتوغو على مدار العامين الماضيين على تزايد تهديدات الجماعات المتطرفة العنيفة، بالرغم من محاولات التدخل العسكرية التي تقوم بها فرنسا حالياً.
ويُعد الخلاف المتزايد بين فرنسا وحكومتي مالي وبوركينا فاسو هو العامل السياسي المباشر في التحديات الأمنية المعقدة في منطقة الساحل، فسياسو كلتا الدولتين الأفريقيتين كانوا يبحثون تطوير برامج للتوعية المجتمعية والدينية لا تلجأ بالضرورة إلى ردود فعل عسكرية لمواجهة أزمة الجهاديين. وهذا هو سبب تفكير حكومتي مالي وبوركينا فاسو في التفاوض مع نفس الجهاديين الذين تقاتلهم فرنسا في محاولة لتهدئة المناطق الأكثر تضرراً من العنف الطائفي. لذا هددت باريس بإنهاء الدعم العسكري لهاتين الدولتين في حال سعيهما إلى إجراء أي محادثات مع الجهاديين.
ومن المثير للاهتمام أنه في الوقت الذي تتزايد فيه التهديدات الجهادية، تخطط فرنسا لتقليص قواتها في عملية برخان، وهي عملية مناهضة للجهاديين يتعاون فيها الجيش الفرنسي مع الدول الواقعة على طول الساحل والصحراء، وهي موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو، والتي تعمل ضمن إطار مؤسسي يسمى مجموعة دول الساحل الخمس (جي 5). وتخطط فرنسا لخفض أعداد قواتها إلى النصف بحلول عام 2023.
ولقد تزايدت الشكوك في الأشهر الأخيرة حول قدرة فرنسا على إضعاف تهديد الجهاديين في منطقة الساحل، فلقد وصف رئيس النيجر، محمد بابو، منهج العمليات الفرنسية العسكرية في تصريح رسمي بأنها غير فعالة، قائلاً: "العدو يتحرك على دراجات نارية وفي مجموعات صغيرة. وما إن تنشر فرنسا مواردها العسكرية الهائلة، حتى تلاحظها تلك المجموعات ويختبئون على الفور، ويختفون عن الأنظار تماماً. وقد تجوب القوات الفرنسية الأنحاء لأيام من دون أن ترى عدواً واحداً، وهذا أمر عديم الجدوى".
ولقد تجلت هذه الشكوك مؤخراً بين مواطني تلك الدول من خلال الأعمال العدوانية العلنية ضد الجيش الفرنسي، ففي نوفمبر 2021، تم اعتراض القافلة اللوجستية العسكرية الفرنسية في بوركينا فاسو أثناء مغادرتها كوت ديفوار. وكانت هذه القافلة مكونة من عشرات المركبات بغرض إرسال الإمدادات للقواعد العسكرية الفرنسية في غاو في مالي عن طريق المرور عبر بوركينا فاسو والنيجر أولاً.
وكانت تظاهرات نوفمبر التي شهدتها كايا، الواقعة على بعد 100 كيلومتر شمال شرق واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، هي الأبرز، فلقد رفع المتظاهرون لافتات مناهضة للفرنسيين، فقوات برخان صارت في نظرهم الآن مجرد قوات احتلال، لا حلفاء في القتال ضد تهديد الجهاديين المتزايد.
التوظيف الروسي
ندد جان إيف لودريان، وزير الشؤون الأوروبية والخارجية الفرنسي، بدور "المتلاعبين الاجتماعيين والإعلام الحزبي" في نشر أخبار كاذبة لتشويه سمعة فرنسا، والتي تأتي أحياناً من وسائل الإعلام الأوروبية، في إشارة إلى موسكو.
وتتزايد الاتهامات الموجهة لمنظمة تحالف الوطنيين الأفارقة (Copa-BF) ببوركينا فاسو بنشر المشاعر المعادية لفرنسا. ولأن هذه المنظمة معروفة بخطابها القومي والمناهض للإمبريالية، قامت في أكتوبر 2021 بدعوة كيمي سيبا الناشط البنيني-الفرنسي الشهير المناهض للإمبريالية، والذي يُزعم أنه تربطه علاقة برجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوزين وأنه يعمل تحت رعايته.
وفي تحقيق صحفي قامت به بي بي سي عام 2019، تبين أن منظمة يفغيني بريغوزين لديها فريق متخصص من المستشارين والنشطاء السياسيين الذين يسعون وراء طرق للتدخل في السياسة الأفريقية عن طريق وكلاء محليين لنشر المشاعر المعادية للغرب في أفريقيا.
وعلى الرغم من روسيا ليست السبب الوحيد في تأجيج المشاعر المعادية لفرنسا في منطقة الساحل، فمن شبه المؤكد أن موسكو تستعين بتلك المشاعر وتستغلها.
فلا تزال فرنسا تؤيد الحرس القديم، وهو ما يتضح من خلال دعم فرنسا العلني لعقوبات المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) ضد المجلس العسكري في مالي. وهذا يعزز فكرة أن فرنسا تعرقل نمو الحركات المحلية الشعبية في أفريقيا من خلال تطبيقها لمعايير مزدوجة فيما يتعلق بمسألة الديمقراطية. ومن الملحوظ أن باريس، شأنها في ذلك شأن مجموعة إيكواس، قد دعمت ضمنياً قادة غرب أفريقيا الذين عدّلوا دساتير دولهم لتمديد فترات ولايتهم، مما أدى إلى تفاقم المشاعر المعادية للفرنسيين في العديد من دول غرب أفريقيا.
وتعتمد موسكو على الموجات المناهضة لفرنسا بوضوح وعلى أزمة الشرعية والمصداقية التي تواجهها فرنسا في المنطقة. وفي خضم هذه البيئة التي يسودها عدم الثقة والتشكيك تجاه فرنسا، أرسلت روسيا 500 مرتزق من مجموعة فاغنر (وهي شركة عسكرية روسية خاصة) إلى مالي في نهاية عام 2021.
وتؤكد باماكو أن وجود "المدربين الروس" على أراضي مالي كان في إطار اتفاق ثنائي بين البلدين. ومع ذلك، فإن تصريح رئيس الوزراء المالي، شوغيل مايغا، تضمن تغييراً متعمداً في الاستراتيجية يوضح التعاون العلني مع روسيا على حساب الحليف القديم فرنسا.
فقد رأى مايغا أن الوضع الجديد الناتج عن إنهاء عملية برخان قد وضع مالي أمام أمر واقع جديد، وقفت فيه الدولة وحدها من دون أي دعم وكان عليها اكتشاف السبل والوسائل التي تضمن حماية أمنها الوطني على نحو أفضل، سواء أكانت بمفردها أو بالتعاون مع شركاء آخرين.
وعلى الرغم من أن تصريحات رئيس الوزراء تعكس الخطاب القومي السائد في باماكو والمشاعر المعادية للفرنسيين على نطاق أوسع في مالي، فمن الجليّ أنه منذ تولي المجلس العسكري المالي السلطة في أغسطس 2020، كانت هناك رغبة واضحة في إعادة صياغة التوجه الاستراتيجي في باماكو. وأكد سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، أن لجوء السلطات في مالي إلى شركة عسكرية روسية خاصة كان على أساس شرعي، ولكنه أكد أن موسكو لا علاقة لها بالقوات التي أرسلتها مجموعة فاغنر.
وبغض النظر عن كل ذلك، فإن مجموعة فاغنر تعمل بالتأكيد لصالح روسيا – شأنها في ذلك شأن يفغيني بريغوزين – وهي على الأرجح تفعل ما تفعله بموافقة ضمنية من الكرملين.
في الختام، يمكن القول إن العلاقات الدبلوماسية بين مالي وفرنسا تراجعت في الآونة الأخيرة إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، خاصةً بعد وصف لودريان المجلس العسكري في باماكو بأنه "خرج عن السيطرة"، كما وصف المجلس بأنه غير شرعي، وهي تصريحات أدلى بها بعد شهور من المشادات اللفظية بين الدولتين.
هذا فضلاً عن تدفق آلاف المتظاهرين المناهضين لفرنسا إلى شوارع العاصمة المالية باماكو للتعبير عن فرحتهم عقب طرد السفير الفرنسي من مالي.
ويمثل انسحاب فرنسا وإعلانها إنهاء عملية برخان نقطة تحول ليس في العلاقات بين فرنسا ومالي فحسب، بل أنها ستقوض على الأرجح أسس العلاقات بين فرنسا وأفريقيا.