لا أدري عما إذا كانت هي طبيعة العصر، أم أنها جوهر السياسة، أم أنه الإعلام العالمي المجنون الذي لا يغطي الأحداث الكبرى وحدها، وإنما يصنعها أحياناً؟
باختصار، كان العالم واقفاً على أطراف أصابعه في انتظار لقاء الرئيس الأميركي بايدن مع الرئيس الروسي بوتين. بدت زيارة الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة لبريطانيا، ولقاؤه مع مجموعة الدول السبع ودول الاتحاد الأوروبي، ثم قادة حلف الأطلنطي بما فيها لقاء مهم مع إردوغان؛ كلها محض تفاصيل يأتي في نهايتها الحدث الأعظم. بدا الأمر في الأول والآخر مشابهاً لسيمفونية عظمى تتصاعد فيها الأوتار والنغمات حتى تصل إلى قمة الانفعال الدرامي التي بعدها تكون الأعصاب جاهزة لفترة استرخاء أخاذة.
لم يخل الأداء من لحظات صارخة عندما اندفع بايدن على غير عادته من تعقل واختيار للألفاظ من اتهام رئيس الدولة العظمى الأخرى في العالم والتي تمتلك من الأسلحة النووية ما يكفي لفناء العالم بأنه «مجرم» و«قاتل»؛ وكانت استجابة بوتين صارخة في برودها، فهو لم يكن يرى في الآخر أكثر من «نائب الرئيس» الذي التقى به من قبل، لا أكثر ولا أقل. ربما لم يلحظ المراقبون كثيراً أن اتفاقاً حول الحروب السيبرانية جرى صنعه قبل انعقاد القمة بأيام قليلة؛ وفي أثنائها تم الاتفاق على استمرار الاتفاقيات الجارية الخاصة بالأسلحة النووية، والأهم كان الاتفاق على ضرورة العمل من أجل «الاستقرار الاستراتيجي»، وبالطبع التعاون في المناطق التي تتلاقى فيها المصالح من أول الاحتباس الحراري وحتى سوريا في الشرق الأوسط. لم يكن أي من ذلك مستبعداً قبل اللقاء، وهو في مجموعه يطفئ الكثير من النيران المتوقعة التي عند النظر فيها ملياً نكتشف أنها منطقية وتسير في الإطار المعتاد للعلاقات الأميركية – الروسية، حيث يوجد بينهما بالنسبة للأمن الكوني ما يهم البشرية جمعاء، وما عدا ذلك أمور تهم الجبهات الداخلية للدول، أو أنها محض تفاصيل في عالم أعيته «كورونا» والتباطؤ الاقتصادي.
ما جعل القمة مثيرة أمران: الماضي المباشر لها والمتجسد في ولاية دونالد ترمب؛ وقضية حقوق الإنسان التي علّقها الديمقراطيون الأميركيون في عنق الرئيس لكي يشنّ بها حروباً صليبية على من يراه أهلاً لها في العالم. قبل سنوات، كان دونالد ترمب هو من أذهل أعضاء الناتو في قمة بروكسل، محذراً من أنه قد يكون مستعداً لسحب الولايات المتحدة من التحالف العسكري الغربي إذا لم يقم أعضاؤه الآخرون بزيادة إنفاقهم الدفاعي. وفي القمة التي عُقدت في المدينة نفسها يوم 14 يونيو (حزيران) الحالي، وقع على عاتق جو بايدن مسؤولية إصلاح الأضرار الناجمة عن أربع سنوات من العروض المسرحية الحرة لسلفه والتي بدأها بعكس قرار ترمب بسحب 12000 جندي من ألمانيا. والحقيقة، هي أنه من الصعب تجاهل الأثر الذي يحدثه درس ترمب عن ضعف الاستقرار في السياسة الخارجية الأميركية، ولم تكن أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية مبالغة عندما ذكرت أنه قد باتت هناك ضرورة للتعامل مع الولايات المتحدة على أن سياستها تتغير كل أربع سنوات. من الناحية الخطابية، جاء إعلان الرئيس الأميركي للمادة الخامسة من معاهدة حلف الأطلنطي، والتي بموجبها يُعتبر الهجوم المسلح على عضو واحد هجوماً ضدهم جميعاً «التزاماً مقدساً» قد جاءت برداً وسلاماً على المستمعين له من الدول الأعضاء.
على أي الأحوال، فإن هذه اللغة والنبرة المحترمة تمثل علامة مميزة لبايدن منذ فترة طويلة؛ لأسباب ليس أقلها أن الولايات المتحدة تريد من الحلف، جنباً إلى جنب مع مجموعة السبع، اتخاذ موقف أكثر قوة ضد روسيا، خاصة فيما يتعلق بالحرب الإلكترونية، وحتى الصين التي لا يُنظر إليها تقليدياً على أنها خصم فقد بات مطلوباً التصدي لتحديها الأمني. وفي الحالتين حصل بايدن على ما أراد من قبل الحلفاء، وكان ذلك مقدمة جيدة لما حصل عليه في جنيف بعد ذلك؛ وبالطبع لن يعرف أحد عما إذا كان تحقيق الأمن السيبراني والاستقرار الاستراتيجي سوف يحتاج إلى هذه الدفعة من حلف الأطلنطي أم لا، خاصة أن قضية أوكرانيا الحساسة لا تزال تراوح مكانها.
في الأمر الآخر، فإن قضية التدخل في الانتخابات الأميركية، وانتخابات غربية أخرى، باتت واحدة من قضايا العصر أكثر منها موضوعاً على قائمة أعمال قمة الدول العظمي. توترات أوكرانيا ومعاملة المعارض الروسي أليكسي نافالني لم تزلزل الأرض ساعة الاجتماع، الحقيقة هي أن البيت الأبيض كان حريصاً على التقليل من التوقعات للقمة، مشدداً على عدم وجود «إنجازات» أو اختراقات كبيرة متوقعة. لذلك؛ ثبت سعي بايدن بدلاً من ذلك إلى هيكلة الاجتماع باعتباره تمريناً في «البراغماتية الدنيوية». ومن خلال ذلك، بدا أنه يعني وجوب أن تكون هناك درجة عملية من القدرة على التنبؤ فيما يتعلق بما قد تفعله واشنطن أو موسكو في سيناريوهات مختلفة وإدراك للخطوط الحمراء لكل دولة. وفيما بدا من إعلان عن القمة، فإن موضوعات الديمقراطية وحقوق الإنسان لم تكن واردة على مائدة المفاوضات بقدر ما كانت واردة في المؤتمرات الصحافية التي تلت الاجتماع والتي لم تعقد على الطريقة التقليدية لكلا الرئيسين معاً، وإنما جرى عقد كل منهما منفصلاً عن الآخر، والتي ظهرت كما لو كانت تعبيراً عن قمة أخرى تجري بين كل زعيم وأهل بلده. ويبدو هنا أنه لم تكن روسيا كما كان متوقعاً هي التي سوف تواجه قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإنما الولايات المتحدة وسلوكياتها في العراق وأفغانستان في خارجها، أما داخلها فقد كان عامراً بقضايا العنصرية وما حدث من تمرد في 6 يناير (كانون الثاني) في مبنى الكابيتول الأميركي.
قبل خمسين عاماً تقريباً انقلبت الدنيا كلها رأساً على عقب نتيجة انعقاد القمتين الأميركية - الصينية أولاً؛ ثم بعدها القمة الأميركية - السوفياتية (الروسية)، وفي الحالتين كان الإعلان واجباً عن نهاية الحرب الباردة. كانت الولايات المتحدة بقيادة نيكسون ومعه كيسنجر تريد الانسحاب من فيتنام بأقل الخسائر الممكنة؛ وكانت بكين وموسكو تريدان برهة يستنشقان فيها بعضاً من الهواء النقي خارج المنافسة الدامية مع واشنطن. كانت النتيجة ساعتها هي سياسة «الوفاق» التي تدير علاقات الخصومة بحيث لا تنفجر الحرب، وتستغل فرص المصالح والمساحات المشتركة لفائدة الطرفين. ورغم تصاعد الخلافات أحياناً، وعودة الحرب الباردة الثانية في النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين، وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي كله بعد نهاية القرن، فإن لقاءات القمة لم تتوقف وكلها تحاول الحفاظ علي الاستقرار الاستراتيجي وسلامة الكوكب. ومعها لم تتوقف المشاكسات والهجمات اللفظية، وأحياناً الشخصية كما فعل بايدن في لقائه مع بوتين، حيث أخبر الزعيم الروسي أنه لا يعتقد أن لديه روحاً. كل ذلك لا بأس به، وهو من صميم السياسة والعلاقات الدولية، ولكن الأهم من ذلك كله هو أمان العالم من حرب نووية، وفيما هو أقل من ذلك مباح.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط