يعيد مشهد السقوط المدوي لعدة محافظات يمنية في يد جماعة "أنصار الله" الحوثية خريطة الترتيبات السياسية والأمنية في اليمن، فلم يسيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء فقط، وعلى المواقع الاستراتيجية بها خاصة الرئاسة ومجلس الوزراء والمطار، بل امتدت سيطرتهم لتشمل سبع محافظات من إجمالي 20 محافظة يمنية، أي ما يزيد على ثلث مساحة اليمن تقريباً.
ويبدو واضحاً أن معظم الأطراف الفاعلة باليمن، وفي مقدمتهم جماعة الحوثيين، قد تجاوزت المبادرة الخليجية التي كانت الإطار الأشمل للخروج من مأزق اليمن السياسي بعد ثورة 2011، كما أنها قد تغاضت أيضاً عن الالتزام بمقررات المسار السياسي للحوار الوطني العام، والمتعلق بتطبيق النظام الفيدرالي الذي يؤسس لقيام ستة أقاليم تتكون منها دولة اليمن؛ ما فتح الطرق واسعاً ليس أمام غياب الدولة فقط، وإنما بداية التأسيس لواقع يمني جديد يقوم على الانقسام الفعلي إلى عدة أقاليم.
وربما لن يفلح أي إطار يسعى اليمنيون إليه لإعادة حركة المسار السياسي إلى ما قبل استيلاء الحوثيين على العاصمة في 21 سبتمبر الماضي، فعلى الرغم من محاولة معالجة تداعيات هذا الاحتلال "الحوثي" للعاصمة عبر توقيع اتفاق السلم والشراكة الوطنية والملحق الأمني الخاص به، بين الرئيس عبد ربه منصور هادي من جانب، وبين الحوثيين من جانب آخر، وتحت رعاية مبعوث الأمم المتحدة جمال بنعمر، فلم يتمخض الاتفاق عن أي ترجمة على أرض الواقع بعد أن بسط الحوثيون سيطرتهم على عدة مدن يمنية، في ظل موافقتهم على تسمية خالد بحاح رئيساً جديداً لحكومة لاتزال تواجه مصاعب في الاتفاق على تركيبتها، بل إنها سوف تواجه تحديات لا قبل لها بمعالجتها في ظل ما تمر به اليمن من تطورات؛ وهو ما يقود إلى الجزم بأن مستقبل اليمن بات مجهولاً، خاصة في ظل التحركات الجديدة التي يقوم بها الحراك الجنوبي للاستقلال والانفصال التام عن حكومة صنعاء في الشمال.
دولة الميليشيات
تشير هذه التطورات إلى خطورة الواقع الأمني والسياسي اليمني، فمع انتشار الفوضى والميليشيات، لم تعد الأجهزة الأمنية الرسمية تلعب أي دور يذكر في اليمن، وبات الأمن من اختصاصات الميليشيات الحوثية المسلحة التي تكون اللجان الشعبية، وتنشر نقاط التفتيش في غالبية شوارع العاصمة اليمنية كبديل لنقاط الجيش والأجهزة الأمنية الرسمية، فضلاً عن قيامها باقتحام منازل سياسيين وشخصيات عامة معروفة بقربها من حزب التجمع اليمني للإصلاح - الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين - ومن ثم أصبح يوكل لها تلك المهام، وهو ما يهدد بشكل واضح فكرة الدولة وقدرتها على السيطرة على كامل إقليمها في اليمن.
يضاف لذلك، إدراك المكونات السياسية اليمنية كافة أن الاحتكام للإكراه والقوة المسلحة أصبح العامل الحاسم في أي عملية تفاوضية، وهو ما من شأنه إشاعة مناخ عدائي بين الأطراف كافة حتى بعد انتهاء عملية التسوية. ويعزز من ذلك الاتجاه انتشار ظاهرة الشارع المسلح في اليمن، فوفقاً للعديد من التصريحات الرسمية، فقد بلغ عدد قطع السلاح في اليمن ما يقرب من 50 مليون قطعة سلاح تتنوع بين الثقيل والمتوسط والخفيف.
وتكشف هذه التطورات من جانب آخر التغير الواضح في خريطة التحالفات، فقد ساهم التعاون الوثيق بين الحوثيين والرئيس السابق علي عبدالله صالح وحزبه المؤتمر الشعبي العام، فيما آلت إليه الأوضاع باليمن، فعلى الرغم من وجود خصومة قديمة بين صالح والحوثيين كشفت عنها ستة حروب سابقة، وما تمخض عنها من الدعم الحوثي للثورة التي أطاحت بصالح عام 2011؛ فإن مصالح الطرفين التقت بشكل جذري خلال الأشهر الأخيرة، وظهر أن ثمة تنسيقاً مشتركاً برزت ملامحه في قيام الحوثيين بعد بسط نفوذهم على صنعاء بحماية بيت علي عبدالله صالح، والدخول في تفاهمات مع حزب المؤتمر الشعبي العام حول مستقبل المشاركة في الترتيبات السياسية المقبلة، فضلاً عن قيام بعض قيادات الجيش المعروفة بولائها لصالح بتسليم بعض المناطق التي كانت خاضعة للحوثيين من دون مقاومة.
ويذكر أن هذا التحالف قد أشار إليه الرئيس اليمني الحالي عبد ربه منصور هادي بشكل ضمني حينما صرح بوجود مؤامرة تهدف لإسقاط صنعاء؛ وهو ما يشير إلى إمكانية عودة صالح وحزبه إلى المشهد السياسي بشكل أكثر تأثيراً في المرحلة المقبلة، خصوصاً في ضوء توافقه مع جماعة الحوثي على تسمية بحاح رئيساً للوزراء.
أما جماعة الإخوان، وحزبها التجمع اليمني للإصلاح، فتعد هي الخاسر الأكبر من تزايد نفوذ الحوثيين بعد سيطرتهم على مساحات واسعة من البلاد، فبعد أن حظيت الجماعة بنفوذ كبير على كافة المستويات عقب ثورة 2011 وتحالفها مع قبائل بني الأحمر التي تعد من أكبر القبائل اليمنية على حساب حزب المؤتمر، فإنها قد بدأت تخسر في المعادلة السياسية الجديدة التي تميل بقوة إلى صالح الحوثيين وحزب المؤتمر الشعبي العام.
بداية النهاية للدولة الموحدة
على الرغم من أن مؤتمر الحوار الوطني اليمني قد أقر نظام الدولة الفيدرالية الموحدة في اليمن، والمكونة من ستة أقاليم (يضم الأول محافظات المهرة وحضرموت وشبوة وسقطرى، ويسمى إقليم حضرموت، وعاصمته المكلا والثاني يضم محافظات الجوف ومأرب والبيضاء، وعاصمته سبأ، فيما يضم الثالث محافظات عدن وأبين ولحج والضالع، ويسمى بإقليم عدن، وعاصمته مدينة عدن. ويشمل الرابع محافظتي تعز وإب، ويسمى إقليم الجند، وعاصمته مدينة تعز، ويضم الخامس محافظات صعدة وعمران وصنعاء وذمار، ويسمى إقليم آزال، وعاصمته صنعاء، ويتضمن السادس محافظات الحديدة وريمة والمحويت وحجة، وعاصمته الحديدة)؛ فإن هذا السيناريو التقسيمي في مضمونه، الدستوري في شكله، يبدو هو الآخر مهدداً إلى حد بعيد، حيث أضحى مستقبل وحدة الأراضي اليمنية أمام خطر محدق يجعل مسألة الانقسام والتفتت سيناريو مطروحاً بشكل كبير، نظراً لعدة أسباب، من أبرزها:
1 ـ تزايد واتساع النفوذ الحوثي ليشمل ليس فقط صعدة في الشمال بل أيضاً عمران، وصنعاء في الوسط، إضافة للمنطقة الغربية على ساحل البحر الأحمر بعد الاستيلاء على محافظة الحديدة، فضلاً عن إمكانية تمدد الحوثيين للسيطرة على تعز في الجنوب؛ وهو ما يعد من أبرز المخاوف ليس فقط لدى اليمنيين، وإنما لكافة بلدان العالم، لاسيما مع وجود مضيق باب المندب الذي يعد أحد أهم الممرات المائية الدولية، حيث تمر منه الصادرات النفطية من دول الخليج إلى مختلف مناطق العالم. وبالتالي فإن النفوذ الحوثي لم يعد قاصراً على الشمال فحسب، مما يجعل مسألة تخليهم عن أي جزء منه ستكون مستحيلة من دون خوض معارك أهلية، خاصة مع اعتراضهم على تقسيم الأقاليم السابق في إطار النموذج الفيدرالي الموحد.
2 ـ استغلال الحراك الجنوبي لتلك الأجواء الملتبسة، وإحياء حلم الحصول على دولة مستقلة، وهو ما دفع قوى الحراك الجنوبي لاتخاذ خطوات تصعيدية تهدف من خلالها إلى الضغط على حكومة صنعاء من أجل تحقيق الانفصال التام عن الشمال، وهو ما يسعى إليه الجنوبيون منذ اندلاع الثورة في عام 2011. وبرز ذلك مع التظاهرات والاعتصام في ساحة العروض بمحافظة عدن للمطالبة بانفصال الجنوب واستعادة دولة ما قبل عام 1990، وإصدار شخصيات وقوى عديدة بالحراك بيانات تطالب أبناء المحافظات الشمالية مغادرة محافظات الجنوب خلال فترة شهر ونصف الشهر تنتهي في 30 نوفمبر القادم، تمهيداً لإعلان الاستقلال.
ويبدو أن الحراك الجنوبي جاد في ذلك خاصة مع ضعف حكومة صنعاء، والغياب شبه التام لكافة أجهزة الدولة الأمنية. ويعني ذلك أن التحركات الحوثية ساهمت عن عمد في إذكاء هذه المطالب الجنوبية للانفصال والاستقلال عن شمال اليمن.
3 ـ اتخذ الصراع بين الحوثيين وصنعاء منذ البداية بعداً طائفياً ومذهبياً، وعمدت إيران إلى استغلاله وسط تقلب الظروف الإقليمية، فباتت المواجهة كأنها حتمية بين الحوثيين "الشيعة" في مواجهة صنعاء "السنية" والإخوان المسلمين، تزامناً مع مناخ إقليمي يتسم بإذكاء الروح الطائفية والمذهبية؛ وهو ما يعتبر أحد العوامل المحفزة لعملية تقسيم اليمن.
سيناريو تقسيم اليمن
انطلاقاً من ذلك، فإن سيناريو تقسيم اليمن إلى عدة دويلات شمالية وجنوبية، وليس فقط إلى دولتي شمال وجنوب، بات أمراً غير مستبعد، وإن كان لا يمكن تحديد الوقت المنتظر لذلك، فهو السيناريو الأوفر حظاً في المستقبل إذا لم تحدث مفاجآت داخلية أو إقليمية ودولية مستجدة، فالوقائع على الأرض وما يدور من كر وفر وحركة سياسية مرتبكة، توحي بأن هناك ثلاث دويلات شبه قائمة بالفعل حالياً، ويمكن أن يزداد عددها في المستقبل طبقاً لتطورات الأحداث، وهذه الدويلات هي:
الدويلة الأولى: دولة حوثية في الشمال والمنطقة الغربية: تضم كلاً من محافظات صعدة، وعمران، والحجة، والجوف، وإب، والمحويت، والحديدة. ويمكن أن تخرج عمران منها في حالة استمرار الضغوط الدولية خاصة من مجلس الأمن الدولي على الحوثيين للانسحاب منها، غير أن هذه "الدويلة الحوثية" حال تكوينها ستواجه تحديات عديدة يمكن أن تساهم في حدوث انقسامات جزئية داخلها نتيجة رفض سكانها للسيطرة الحوثية المسلحة.
الدويلة الثانية: دولة في الوسط والغرب: تضم محافظات صنعاء، وذمار، ومأرب، وتعز، وعمران في حالة انسحاب الحوثيين منها وخروجها من الدولة الأولى وهو المسار الأقرب. وتخضع هذه الدولة مباشرة للحكومة في صنعاء. فانسحاب الحوثيين من صنعاء قادم لا محالة، وهو قد بدأ بالفعل مع قيام الحوثيين بتفكيك مخيماتهم الموجودة على حدود المحافظة. كما ستظل تعز بأهميتها الاستراتيجية محور خلاف في إطار عملية التقسيم؛ وبالتالي فإن القوى الإقليمية المجاورة لليمن لن ترضى بسيطرة الحوثيين عليها مهما كان الثمن.
الدويلة الثالثة: دولة في الجنوب: تشمل كلاً من محافظات حضرموت، وشبوة، وأبين، ولحج، والمهرة، والبيضاء، والضالع، وعدن. وعلى الرغم من وجود تباينات بين مختلف القوى والمكونات السياسية الجنوبية حول العديد من القضايا، لكن تظل القضية المركزية للجنوبيين هي الحصول على دولة موحدة على الأقل مرحلياً، ثم بعد ذلك يمكن أن ينقسم الجنوب إلى دولتين أو أكثر. ولذا يتوقع أن تنشأ سريعاً خلافات جنوبية - جنوبية حول تقاسم الموارد الطبيعية خصوصاً مع مساهمة محافظة حضرموت بالنسبة الأكبر من الموارد النفطية إذا ما قورنت، ليس فقط بالمحافظات الجنوبية، وإنما بالشمالية أيضاً.
وتبدو خلاصة ما سبق، أن مستقبل الدولة اليمينية قد بات مجهولاً مع وجود مؤشرات عن إمكانية قيام الحوثيين بتوسيع سيطرتهم إلى شرق ووسط البلاد بعد إحكام سيطرتهم على ساحل البحر الأحمر، واحتمال توافق قوى الحراك الجنوبي على الانفصال؛ وبالتالي فإن سيناريو الانقسام بات وشيكاً.
ومع ذلك فثمة عقبات ربما تقف أمام عملية التقسيم، منها ما يرتبط بالبعد الداخلي ويتمثل في الرفض التام لصنعاء لهذا الخيار باعتباره ينقص من سيادتها من جانب، وأنه سيقود حتماً إلى حرب أهلية من جانب آخر. وعلاوة على ذلك لم يعد خيار التقسيم في اليمن داخلياً فحسب، بل أصبح إقليماً ودولياً على حد سواء، مما يعنى أنه يحتاج لتوافق إقليمي في أقل تقدير بين إيران الداعم الرئيسي للحوثيين وبين دول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية؛ وهو ما لم يتحقق حتى الآن ليس فقط لوجود تباينات وخلافات جوهرية بين تلك القوى، ولكن لأن الموافقة على تقسيم اليمن فعلياً تعني بالضرورة، وبفعل الأثر الانتشاري، انتقال النزاعات الانفصالية إلى معظم دول الإقليم التي تعاني دول كبرى به من اهتزاز وتآكل غير مسبوق لمكونات الدولة الوطنية.