أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

تهدئة أم حرب شاملة؟

مسارات الأزمة الليبية بعد اشتباكات طرابلس

31 أغسطس، 2022


شهدت العاصمة الليبية "طرابلس"، ليل الجمعة/ السبت 27 أغسطس 2022، جولة دامية من الاشتباكات بين التشكيلات والمجموعات المسلحة المصطفة بين جبهتي حكومتي الوحدة (عبدالحميد الدبيبة) والاستقرار (فتحي باشاغا). وبينما كان سيناريو الاقتتال هو الأكثر ترجيحاً في ظل معطيات المشهد الراهن بالمنطقة الغربية، إلا أن المواجهات الأخيرة جاءت كاشفة لجُملة من المُتغيرات التي تجعل تسوية الأزمة الليبية ملفاً مُرشحاً لمزيد من التأزم، وهو ما يطرح عدة سيناريوهات بالغة التعقيد لمستقبل الدولة الليبية المُنهكة منذ عام 2011.

دلالات الاشتباكات:

تشير وتيرة الاشتباكات الأخيرة في طرابلس إلى تبلور مجموعة من المُعطيات الحاكمة لتعاطي أطراف الأزمة مع بعضهم البعض، وأن تلك المحددات ساهمت في اتخاذ تلك المواجهات نمطاً جديداً من التصعيد العسكري. ومن بين الدلالات التي طرحتها المواجهات الأخيرة، يمكن الإشارة إلى أبرزها فيما يلي:


1- احتدام الصراع على السلطة التنفيذية في ليبيا: بلغت التنافسية بين حكومتي باشاغا والدبيبة، ذروتها بصورة كاشفة لتمسك كل منهما بالانفراد بالسلطة التنفيذية وإزاحة الآخر من المشهد بصورة تامة، وعدم إبداء مرونة لإعادة إنتاج نموذج "الحكومات المتوازية" التي شهدتها ليبيا في فترات سابقة. واقترن ذلك بحالة من التربص المُتبادل بين الحكومتين؛ فبينما يحاول باشاغا دخول العاصمة الليبية، تارة بالتفاهمات وأخرى بالمواجهة، يسعى الدبيبة لإضعاف وإقصاء المجموعات المُسلحة والشخصيات النافذة التي تحمل ولاءً لباشاغا، عن طرابلس، ناهيك عن تبادل الاتهامات حول أسباب وتداعيات الانسداد السياسي والحشد الميداني الجاري.

2- فقدان نقطة التوازن بين المجموعات المسلحة: تستشعر التشكيلات المسلحة في المنطقة الغربية خطر الإطاحة بها من المشهد؛ فبعدما انحازت - بشكل مُعلن أو ضمني- لأحد المتنازعين على رئاسة الحكومة، وجدت أنها تقف على أعتاب "مواجهة صفرية" عاجلاً أو آجلاً؛ بمعنى أنها إما تُضاعف مكتسباتها أو تخرج منها خالية الوفاض. ولا يقتصر ذلك على سيناريو وصول رئيس حكومة لا تحظى بدعمة، ولكن يمتد أيضاً إلى التداعيات المُحتملة لإحراز المسار العسكري تقدماً مُعارضاً لأجندة هذه المجموعات، لاسيما عملية دمج وتسريح عناصر تلك الكتائب والمجموعات المسلحة تمهيداً لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية. وهذا ما أكدته مجريات الاشتباكات الأخيرة في طرابلس؛ فكانت محاور القتال متعددة، كما عكس حجم الخسائر والضحايا توظيف الأسلحة الثقيلة بصورة لم تحدث منذ سنوات.

3- استمرار التأثيرات الخارجية في ليبيا: كشفت اشتباكات طرابلس أن الخارج مازال محتفظاً بتأثير كبير على مجريات الحالة الليبية؛ فحينما استشعرت بعض الأطراف تراجع القيود الدولية على توظيف القوة لحسم الصراع، بدأت الكتائب المسلحة في استغلال الفرصة لتغيير قواعد الاشتباك، حيث نشر الدبيبة قوات عسكرية جنوب العاصمة بعد تلويح باشاغا مجدداً بدخولها، وأعقب ذلك بأقل من 48 ساعة إطلاق الرصاصة الأولى في المواجهات. ووفقاً لما نشرته قناة "ليبيا 24"، يوم 30 أغسطس 2022، فإن القوات التركية ساهمت في صد الهجوم الذي وقع ضد القوات الموالية لحكومة الدبيبة، وأضافت أن الطيران المُسيّر التركي قام بعمليات مسح وتأمين في ضواحي طرابلس. وهذا ما يؤكد استمرار التأثيرات الخارجية كعامل حاسم في تطورات المشهد الليبي.

4- توظيف المواجهات المسلحة لحسم المفاوضات: أظهرت اشتباكات طرابلس مساعي توظيف المواجهات العسكرية لصياغة تفاهمات ضامنة لتثبيت خطوط التماس بين كتائب المنطقة الغربية؛ فمع إدراكهم لتلاشي فرص الحسم، تم التنسيق لوقف المواجهات وتمهيد الطريق للتفاوض بين المتحاربين. إذ كشفت تقارير عن مفاوضات مطولة بين أسامة جويلي وقادة كتائب موالية للدبيبة، لوقف تقدم قوات الجويلي تجاه طرابلس، وانسحابها من بعض المواقع غرب وجنوب العاصمة الليبية. وتُعد تلك السمة الرئيسية لمنهجية إدارة الفواعل الليبيين لحروبهم؛ حيث ترتبط حدود الاشتباك بينهم بالمساحة التي تمنحها القوى النافذة في المشهد - داخلية أو خارجية - لتطوير عملياتهم العسكرية، بالإضافة إلى التنوع الأيديولوجي والاجتماعي والمصلحي واسع النطاق بين تلك المجموعات، ناهيك عن المخاوف المستمرة من تحول الولاءات التي قد تُغير بين لحظة أو أخرى من توازن القوى بين المتحاربين.

5- حياد الجيش الوطني الليبي: سعى الجيش الوطني لإظهار حياده عن التوترات الجارية في الغرب الليبي، حيث أعلنت القيادة العامة أنها لا تنحاز لأي من أطراف المواجهات، بالرغم من الإشارات السابقة المُتصلة بأن الجيش الوطني داعم لتولي حكومة باشاغا المدعومة من مجلس النواب زمام إدارة الدولة في المرحلة الراهنة. ويُفسر ذلك بأن الجيش الوطني الليبي، منذ اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، يتبنى اتجاهاً لتعزيز سيطرته ودوره في المنطقتين الشرقية والجنوبية، بالإضافة إلى دعم أنشطة اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) لتوحيد الجيش. كما أن وصول باشاغا للسلطة – بالرغم من كونه الخيار الأكثر تفضيلاً - يجب ألا يكون بعمل عسكري تشارك فيه قواته، ما يعني أن يتم ذلك بصيغة يديرها باشاغا نفسه، سواء عبر حشد الدعم الدولي أو غيره من الأدوات الداخلية التي يستطيع توظيفها. كذلك تجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من توتر العلاقة بين القيادة العامة والدبيبة، فإنه في حالة استمرار الأخير بالسلطة، فالجيش الوطني قادر على إدارة مصالحه وتحقيق رؤيته - بطريقة أو بأخرى- دونما خوض حرب بين شرق وغرب البلاد.

تداعيات خطيرة:

أفرزت اشتباكات طرابلس العديد من التداعيات التي قد تعصف بهياكل الحالة الليبية المأزومة، سواء فيما يتعلق بصراع الحكومات وحلفائها، أو الأوضاع الإنسانية في مناطق الاشتباكات، بالإضافة إلى نسق التعامل الدولي مع الأزمة، وجهود التسوية في مساراتها المختلفة، وهو ما يمكن استعراضه فيما يلي:


1- انسداد الأفق السياسي للأزمة الليبية: يُعد تعقد المسار السياسي أولى التداعيات المباشرة لمواجهات طرابلس، فهناك احتمالية كبيرة لتصاعد الاستقطاب والانقسام؛ ما يعني تلاشي فرصة الوصول إلى صيغة حل مقبولة. وبالتالي، فإن استمرار دوامة الانتقال غير التام وعدم الذهاب للانتخابات ستكون نتيجة حتمية، في حالة استمرار ذات النسق التنافسي بين أطراف الأزمة.

2- تفاقم المعاناة الإنسانية: قادت المواجهات المسلحة الأخيرة إلى زيادة الأزمات الإنسانية بين الليبيين عامة، وسكان مناطق الاشتباكات بصورة خاصة. إذ أشارت تقارير هيئات الإغاثة والخدمات الطبية إلى وجود عالقين في تلك المناطق لا يستطيعون مغادرة منازلهم؛ خشية تجدد المواجهات، فضلاً عن مقتل 32 شخصاً وإصابة 159 آخرين ضمن ضحايا الاشتباكات، ونزوح عدد من السكان من بعض المناطق هرباً من القتال، وتضرر العديد من المرافق والممتلكات العامة والخاصة.

3- تعقد التنافس الدولي على إدارة الملف الليبي: سيضفي القتال بين المجموعات المسلحة بالعاصمة طرابلس، وما يتصل به من قصور بإدارة البعثة الأممية المعنية بليبيا، مزيداً من الزخم على حالة التنافسية الدولية على إدارة هذه الأزمة. وهذا ما يجعل ملف تعيين مبعوث أممي جديد لليبيا مجالاً لصراع روسي - غربي مستمر، قد يؤدي إلى تفريغ المهمة الأممية من مضمونها، وافقاد ليبيا فرصة قد تُوظف هذه المرة لصالح تحقيق استقرارها المفقود. 

4- احتمالية انهيار المسار الدستوري: يُرجح أن تنتقل ارتدادات الاشتباكات المسلحة بالعاصمة الليبية إلى أروقة المسار الدستوري، خاصةً بعد إعادة تفعيل الدائرة الدستورية في المحكمة العليا. ويطرح ذلك خطورة توظيف النفوذ الميداني للضغط من أجل استصدار أحكاماً موجهة، ما سيقضي على التوافق غير المتكمل بين المعنيين بصياغة الدستور المُتعثر منذ نحو 7 سنوات، ويعيد ليبيا إلى المربع الأول، وبالتالي الذهاب إلى مسار تجدد المواجهات المسلحة من جديد.

5- خطورة عرقلة جهود اللجنة العسكرية (5+5): صارت جهود اللجنة العسكرية المشتركة أكثر عُرضة للتضرر بسبب اشتباكات طرابلس؛ فهناك قوى تحصلت على نفوذ أكبر لدى الدبيبة، ما قد يدفع نحو تقييد أو عرقلة تحركات ممثلي المنطقة الغربية لتحقيق إنجاز بالمهام الموكلة إليهم. وهذا ما بدأت مشاهداته حينما تم تأجيل اجتماع اللجنة بمدينة "بنغازي" شرقاً. وقد تطرأ مُستجدات من شأنها تصدير إشكاليات للجنة العسكرية (5+5) لتفريغ مخرجاتها من مضمونها أو عدم تفعيلها بعد الاتفاق عليها.

سيناريوهات مُحتملة:

تطرح اشتباكات طرابلس العديد من السيناريوهات، وهي تتراوح ما بين الثلاثة التالية:


1- سيناريو تجدد الاشتباكات المسلحة: يفترض هذا المسار أن السكون الميداني القائم حالياً هو فترة قد تستغلها أطراف المواجهات لتحشيد قواتها وإدارة قدراتها تمهيداً لشن حرب شاملة، وأن يدخل الفاعلون المسلحون بالمنطقة الغربية في صراع أطول، حيث ينجح أحد التكتلات العسكرية في تحقيق مكتسبات تُضعف مواقع منافسيه. وإما ينتهي هذا المسار بانتصار معسكر على الآخر، أو الوصول إلى هدنة مؤقتة جديدة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق، ثم العودة مجدداً لخوض مواجهات أكثر شراسة وضراوة.

2- سيناريو صمود التفاهمات مؤقتاً: يتصل هذا الاحتمال بقدرة ورغبة الأطراف المتحاربة في الاحتفاظ بالوضع الراهن لأطول مدة ممكنة، وألا تدفع إحداها الأخرى لخوض قتال واسع النطاق كما في السيناريو السابق. وهذا المسار سيقود إلى أحد أمرين؛ فإما تعزيز فرصة التهدئة وتطوير مستوى التفاهمات بين الفاعلين في الأزمة بشكل عام، والمسلحين بصفة خاصة، وهو ما يعني وضع صيغة مُستدامة للتهدئة (السيناريو الثالث)، أو استشعار ضرورة استباق ترتيبات بعينها أو رد الفعل على إجراءات مضادة، وبالتالي ستتجدد الاشتباكات، وربما يتحقق مسار المواجهات المسلحة الشاملة (السيناريو الأول).

3- سيناريو صياغة إطار للتهدئة المُستدامة: يقوم هذا السيناريو على افتراض مفاده أن اشتباكات طرابلس الأخيرة قد أسست لنمط جديد من التفاعل بين المتنافسين (سياسياً وعسكرياً)، وأن الهدوء الحالي وتداعيات المواجهة ستدفعهم إلى تلافي الرهان على الدخول في "مواجهات صفرية"، وستكون عملية تطوير التفاهمات الأولية التي فضّت الاشتباك أولوية لهم خلال الفترة القادمة. وهذا ما يُعزز من فرص استدامة الوضع الراهن، وقد يُمهد استثماره جيداً لتحقيق اختراق في أي من مسارات التسوية المُتعثرة.

إجمالاً، يمكن القول إن ما شهدته العاصمة طرابلس من اشتباكات قد تكون نسخة مُصغرة من الحرب الشاملة، التي سعت الفواعل المنخرطة فيها للتلويح بقدرتها على خوضها، حال استشعارها نية للمساس بمكتسباتها. وفي ظل استمرار المعطيات ذاتها، مثل تصاعد الصراع بين الحكومات والمجموعات المسلحة، فإن ليبيا قد تكون مُرشحة لتجدد المواجهات المسلحة بعد فترة من الهدوء النسبي. لذا فإن السيناريو الثاني الموضح أعلاه ربما يكون الأكثر ترجيحاً، ولكنه سيظل محكوماً بحدود كونها "حرب ضرورة" وفقاً لرؤية الأطراف المتصارعة.