أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

أزمة سيولة:

كيف ستؤثر الأزمة الأوكرانية على القطاع المصرفي الروسي؟

23 مارس، 2022


تلقي الحرب الأوكرانية بظلالها السلبية على القطاع المصرفي الروسي، حيث من المرجح أن تضغط بشدة على معظم البنوك الروسية، خاصة مع كثافة العقوبات الغربية المفروضة على الاقتصاد الروسي، والتي سيترتب عليها نقص محتمل في السيولة لدى الجهاز المصرفي، فضلاً عن ضعف هوامش أرباح البنوك الروسية في هذا العام، وتآكل رؤوس أموالها خاصة مع انكماش الاقتصاد الروسي وتدهور سعر صرف الروبل الروسي. 

ويتصرف البنك المركزي الروسي حيال تلك التحديات الناشئة من خلال ضخ سيولة جديدة في البنوك، وضبط حركة النقد الأجنبي، فيما ليس مستبعداً أن يقدم المركزي على دمج بعض البنوك وإعادة هيكلة القطاع ككل من أجل تعزيز استقراره المالي.    

بيئة ضاغطة:

يعمل النظام المصرفي الروسي في ظل بيئة تشغيلية ضاغطة بسبب العقوبات الغربية ضد الاقتصاد الروسي، التي سيترتب عليها حدوث انكماش اقتصادي واسع وتداع مستمر لسعر صرف الروبل في الفترة المقبلة، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1- حظر الوصول للأسواق الخارجية: فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على قطاع المصارف في روسيا شملت تجميد أصول البنوك الروسية الخارجية، بما في ذلك أصول البنك المركزي، كما تم قطع الطريق أمام إمكانية حصول البنوك الروسية على الدولار واليورو، سواء بشكل نقدي أو غير نقدي. كما امتدت العقوبات لتشمل منع أكبر بنكين في روسيا هما "سبيربنك" و"في تي بي بنك" من التعامل بالدولار الأمريكي.

2- العزل عن نظام سويفت: عزلت الدول الغربية 7 بنوك روسية عن نظام المدفوعات الدولية "سويفت"، كما حظرت البنوك الروسية من تداول السندات الأمريكية والأوروبية، بالإضافة إلى تعليق عضوية البنك المركزي الروسي في مصرف التسويات الدولية. ومن ضمن البنوك الروسية المعزولة "في تي بي بنك" (VTB Bank)، الذي يعد ثاني أكبر البنوك الروسية من حيث الأصول وبحجم قدره 19.3 تريليون روبل في ديسمبر 2021.

واتفقت الدول الغربية على استبعاد بنكي "سبيربنك" وغازبروم بنك" من عقوبات نظام "سويفت"، ويشكلان معاً نحو 40% من أصول القطاع المصرفي الروسي بأكمله، ومما سيبقي نسبياً على حيوية الجهاز المصرفي رغم ضغوط الأزمة على النظام المصرفي. ويقدر أن البنوك التي تتعرض للعقوبات الغربية بشكل مباشر، باستثناء "في تي بي بنك"، تمثل معاً نحو ربع القيمة الإجمالية لأصول النظام المصرف الروسي.


3- منع الوصول للاحتياطيات الدولية: أجرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجميد احتياطيات مملوكة للبنك المركزي الروسي في بنوكها وأسواقها بقيمة تزيد على 250 مليار دولار، وهي مبالغ تقترب قيمتها من ثلث الاحتياطيات النقدية الروسية الكلية البالغة حوالي 643.2 مليار دولار بنهاية 11 مارس. ومعنى ذلك أن الحيز المالي المتاح أمام روسيا غير كافٍ لمساندة اقتصادها ونظامها المصرفي في الأجل المتوسط، حتى مع إضافة احتياطيات صندوق الثروة السيادي الروسي البالغ أصوله نحو 174.9 مليار دولار في بداية فبراير الماضي.

4- مخاطر تشغيلية حادة للبنوك: تواجه الأنشطة المصرفية مخاطر تشغيلية غير مسبوقة مع التدهور المحتمل للنشاط الاقتصادي في روسيا بسبب العقوبات الغربية، والتي ستؤثر حتماً على جودة أصول البنوك وملاءتها المالية والسيولة المتوافرة لديها. 

ومن المحتمل أن ينكمش الاقتصاد الروسي بنسبة 8% وفق التقديرات الروسية الأولية، بينما تزيد هذه النسبة إلى 15% وفق لتقديرات معهد التمويل الدولي، وسط ارتفاع متوقع للتضخم إلى 20% هذا العام مع تعرض الروبل لتدهور مستمر في قيمته أمام العملات الصعبة بسبب العقوبات الغربية. 

تداعيات سلبية:

تفرض العقوبات الغربية ضد روسيا تداعيات سلبية عديدة على قطاع البنوك الروسي، وذلك على النحو التالي:

1- نقص السيولة: تتعرض سيولة البنوك الروسية لخطر نقص السيولة بشكل متزايد، حيث إنها آخذة في التناقص، مع استمرار سحب المودعين من الأفراد والشركات أموالهم من البنوك منذ الأيام الأولى للحرب. وبحلول 2 مارس، بلغ نقص السيولة لدى البنوك الروسية نحو 6.9 تريليون روبل ارتفاعاً من 5.4 تريليون روبل في اليوم السابق عليه، وهذا يعني أن البنوك الروسية قد تواجه صعوبات في الوفاء بجميع التزاماتها في الوقت المناسب، طالما استمر سحب المدخرات بوتيرة سريعة من قبل المودعين الروس.

2- انخفاض الجدارة الائتماية: وسط الضغوط السابقة، أجرت وكالات التصنيف الائتماني مثل "فيتش" و"ستاندرد آند بورز" تخفيضاً لتصنيف البنوك الروسية، والتي جاءت عقب خفض الجدارة الائتمانية لروسيا لحد التخلف عن سداد الديون. 

وفي هذا السياق، خفضت وكالة "فيتش" في مارس تصنيف 31 بنكاً روسياً، أي معظم الجهاز المصرفي الروسي، إلى تصنيف (CC)، مما يعكس المخاطر الجمة التي تتعرض لها الودائع وأصول البنوك الروسية بسبب الأزمة. ويلاحظ أن موسكو نفت هذه الاتهامات، بل وأكدت وزارة المالية الروسية، في 17 مارس، سداد 117 مليون دولار خدمة دين عن سندات دولية "يوروبوندز"، في مؤشر على التزام روسيا بتعهداتها المالية.

3- انخفاض هامش الأرباح: كان من المتوقع أن ينخفض صافي أرباح البنوك الروسية هذا العام إلى 2.19 تريليون روبل، مقابل أرباح صافية قياسية قدرها 2.4 تريليون روبل في عام 2021، وذلك قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية. 

وبلا شك فإن الأزمة الحالية ستضغط بشكل أكبر على هامش أرباح البنوك الروسية، خاصة في ظل توقعات بتباطؤ الأنشطة الائتمانية والمصرفية، وضعف عمليات الإقراض، خاصة بعد ارتفاع أسعار الفائدة لـ 20%. 

4- تآكل محتمل لرؤوس الأموال: يلاحظ أنه مع ارتفاع تكاليف الامتثال للعقوبات الغربية، وضعف هوامش أرباح البنوك، وسط تدهور سعر صرف الروبل، ستنخفض جودة الأصول المصرفية، وسيؤدي ذلك بالتبعية لتآكل رؤوس أموال معظم البنوك الروسية. 

5- تضرر البنوك الأوروبية: من المرجح أن تتضرر البنوك الغربية الموجودة في روسيا، خاصة التي تنكشف بشكل واسع على السوق الروسي، مما قد يسهم في حدوث مخاطر مصرفية ومالية بالقارة ككل، فلدى البنوك الأوروبية ما مجموعه 84 مليار دولار من المطالبات على الكيانات الروسية حتى أواخر فبراير الماضي، وفقاً لبنك التسويات الدولية.

التعامل مع الصدمة: 

اتخذ البنك المركزي الروسي سلسلة من الإجراءات الأخرى لاحتواء الأضرار التي ستصيب النظام المصرفي الروسي جراء العقوبات الغربية، وبدأ في 28 فبراير باتخاذ الإجراءات التالية:

1- مزادات السيولة للبنوك: أجرى البنك المركزي الروسي، منذ بداية إعلان الحرب، مزادات "الريبو" بشكل شبه يومي لتزويد البنوك الروسية بالسيولة اللازمة لها من العملة المحلية والعملات الأجنبية، وبإجمالي قدره 9.6 تريليون روبل حتى 2 مارس. وعلى ما يبدو فإن المركزي الروسي سيضطر لعقد مزيد من تلك المزادات في الأجل القريب لتعزيز استقرار النظام المصرفي. 

2- رفع سعر الفائدة: رفع المركزي الروسي الفائدة من 9.5% إلى 20%، وهو أعلى مستوى لها، منذ ما يقرب من عقدين، وذلك لتشجيع الأفراد على الادخار والإيداع. وأبقى المركزي الروسي على أسعار الفائدة عند 20% في اجتماعه الأخير في 11 مارس 2022، للحفاظ على زخم السيولة بالنظام المصرفي.

3- وضع ضوابط للنقد الأجنبي: شمل ذلك حزمة من الإجراءات، أبرزها إلزام المصدرين كافة ببيع 80% من متحصلاتهم من العملات الأجنبية إلى البنك المركزي، لتحصيل تدفقات كبيرة من الدولارات، ومن ثم طرحها في السوق لضبط قيمة "الروبل" أمام العملات الصعبة، كما حظر المركزي خروج مبالغ تزيد على 10 آلاف دولار إلى الخارج، بالإضافة إلى وضع حد أقصى لسحب الودائع المقومة بالعملات الصعبة عند حدود 10 آلاف دولار، وهي إجراءات تهدف لضبط العملات الأجنبية في السوق، والحد من تسرب العملات الصعبة خارج روسيا.

ومن جهة أخرى، قام المركزي بزيادة حجم الأموال المتاحة بالصرافات الآلية، وتكوين أرصدة إضافية من الذهب في الأسواق المحلية وحظر البنوك من بيع الذهب، وفرض حظر على بيع الأوراق المالية الروسية من قبل الأجانب من أجل تعزيز السيولة، علاوة على قصر دفع التحويلات المالية من الخارج بالروبل.

4- التوسع في إصدار الأصول الرقمية: تسعى روسيا للتوسع في استخدام الأصول الرقمية في السوق الداخلي، ليس من أجل الالتفاف على العقوبات الغربية، وإنما تعزيز انسيابية المعاملات المالية بين الأفراد والشركات داخل السوق. 

وفي هذا السياق، منح المركزي الروسي "سبيربنك" رخصة لإصدار وتداول أصول رقمية يمكن استخدامها من قبل الشركات. وسبق أيضاً أن أجرى البنك المركزي الروسي في فبراير الماضي معاملات أولية لتداول الروبل الرقمي.

وإجمالاً، يمكن القول إن الإجراءات التي اتخذها المركزي الروسي ستعزز، مؤقتاً، من تماسك البنوك الروسية ودعم استقرارها المالي، فضلاً عن الوفاء باحتياجات عملاء البنوك من الأموال، وانتظام عمل البطاقات المصرفية بشكل طبيعي، أي ما يسمى دولاب العمل اليومي للبنوك. وعلى الرغم من ذلك، فمن المرجح أن تعمل العقوبات على زيادة المخاطر الائتمانية بالاقتصاد، وستلحق الضرر بجودة الأصول المصرفية، مما قد يضطر المركزي معه لدمج البنوك وإعادة هيكلته في الأمد القريب.