لم يكن انفجار مرفأ بيروت -على ضخامته وفداحة الخسائر المترتبة عليه- سوى أحد تجليات تصدع مؤسسات الدولة في لبنان وإخفاقها في أداء وظائفها الأساسية. فالاقتصاد اللبناني تعرض لهزات قوية في الآونة الأخيرة كان أبرزها انهيار قيمة العملة الوطنية، وتضاؤل المصادر الأساسية للدخل نتيجة لجائحة كورونا، بينما هيمن الاستقطاب السياسي والجدل حول سلوك حزب الله والتعامل الرسمي مع أنشطته العابرة للحدود على المشهد السياسي بالتوازي مع موجات متتالية من الاحتجاجات الشعبية للمطالبة بالإصلاح السياسي، ويرجح أن يكون انفجار مرفأ بيروت نقطة تحول جوهرية في المشهد اللبناني حيث سيؤدي إلى اختراق لبنان للعزلة الداخلية، وحصوله على الدعم من القوى الخارجية، مع تزايد حدة التوترات الداخلية والتي ربما أن ينتج عنها إعادة ترتيب المشهد السياسي اللبناني.
سياقات داخلية معقدة:
عانى لبنان من عدة سياقات داخلية معقدة قبل الانفجار، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:
1- هيمنة تيار واحد: حيث استغلت قوى الثامن من آذار رغبة القوى الأخرى (تيار المستقبل، والحزب التقدمي الاشتراكي، والقوات اللبنانية) بعدم المشاركة في الحكومة الجديدة تلبية لمطلب الشارع بتشكيل حكومة من المستقلين، وقامت بتشكيل حكومة جديدة موالية لقوى الثامن من آذار.
وجاءت استقالة وزير الخارجية "ناصيف حتي" في 3 أغسطس 2020 وسرعة استبداله بمستشار رئيس الجمهورية؛ لتثبت أن لا مكان للمستقلين في الحكومة، كما تم تعيين أربعة نواب جدد لحاكم مصرف لبنان، مع محاولة إقصاء الحاكم الحالي "رياض سلامة"، وأعلنت الحكومة الجديدة نيتها لإعادة هيكلة القطاع المصرفي والترخيص لخمسة مصارف جديدة .
2- مشروع "حياد لبنان": قام البطريرك "بشارة الراعي" بإعادة طرح مشروع حياد لبنان، حيث اعتبر في يوليو 2020 أنه "لا خلاص للبنان إلا بنظام الحياد"، مشددًا في حديث لاحق في يوليو أيضًا بأن "هيمنة حزب الله وتحالفاته خلقت أزمة سياسية واقتصادية ومالية حادة للغاية"، مما أدى إلى ترك لبنان "وحيدًا ومحرومًا من الأمريكي أو الأوروبي" .
ولقد تماهى موقف تيار رئيس الجمهورية من حيث المضمون مع موقف قيادة "حزب الله" عبر محاولة إفراغ المبادرة من مضمونها عبر دفع البطريرك "الراعي" إلى التراجع عنها، أو تعديلها، حيث اعتبر رئيس التيار الوطني الحر "جبران باسيل" أن هناك فرقًا بين "الحياد والتحييد"، وأن الحياد مرتبط بقرار خارجي. ولكن اللافت -في هذا الإطار- كان موقف الزعيم المسيحي القوي "سليمان فرنجية" المحسوب على قوى الثامن من آذار الذي اعتبر أنه لا يجوز "جعل المسيحيين رأس حربة للصراع في المنطقة، وإلا سيكون الحل على حسابنا" .
3- التوجه شرقاً: عبر عنه بشكل صريح أمين عام حزب الله "حسن نصرالله" في خطاب متلفز في 7 يوليو 2020، حيث قال: "إن الشركات الصينية حاضرة للاستثمار في لبنان، وإن على الحكومة اللبنانية التواصل معها"، كما أعلن "أن الحكومة الإيرانية مستعدة لبيع مشتقات نفطية للبنان وبالليرة اللبنانية"، كما دعا "نصرالله" إلى التوجه نحو الزراعة في أي منطقة متاحة، سواء في الريف أو المدن، وتبنّي النموذج الإيراني في الاقتصاد، معتبرًا أن "إيران صمدت 40 سنة تحت العقوبات، وفي لبنان بعض العقوبات والتهديد والتخويف تدفع بجزء من الناس إلى استعجال الاستسلام والخضوع" على حد تعبيره نصاً .
استياء دولي:
تمثلت الاستجابات الخارجية لتعقيدات المشهد السياسي الداخلي اللبناني في مرحلة ما قبل حدوث انفجار مرفأ بيروت في النقاط التالية:
1- تهديدات واشنطن: استدعى طرح "حسن نصرالله" فكرة التعاون النفطي مع إيران ردًّا حاسمًا من وزير الخارجية الأمريكية "مايك بومبيو" في 9 يوليو، والذي هدد بفرض عقوبات على لبنان إذا وقّع اتفاقًا مع طهران لاستيراد النفط، واضعًا هذا الإجراء -إن حدث- تحت خانة خرق العقوبات المفروضة على إيران، مشددًا: "إننا سنفعل كل ما نستطيع لنمنع إيران من تصدير نفطها إلى أي مكان، بما في ذلك إلى حزب الله" .
2- المطالبة بتنفيذ الإصلاحات: حيث توالت المواقف العربية والدولية التي ذكّرت لبنان بضرورة القيام بالإصلاحات المطلوبة، حيث شدّد وزير خارجية فرنسا "جان إيف لودريان" على المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم في يوليو 2020 خلال زيارته لبيروت، بأن عليهم أن يساعدوا أنفسهم كي يساعدهم المجتمع الدولي، كما طالب صندوق النقد الدولي بتوحيد أرقام الخسائر المتباينة بشدة بين خطة الحكومة وتقديرات مصرف لبنان، فيما شدد المسؤولون الكويتيون الذين التقاهم المبعوث الخاص للرئيس اللبناني على ضرورة التزام الحكومة اللبنانية بسياسة النأي بالنفس .
3- الضغط على حلفاء "حزب الله": حيث أوصت ورقة مقدمة من قبل لجنة الدراسات في الحزب الجمهوري في مجلس النواب الأمريكي في يونيو 2020 بتوسيع العقوبات، وعدم اقتصارها على شخصيات مؤيدة لحزب الله، وشمولها قادة لبنانيين متحالفين مع الحزب كرئيس التيار الوطني الحر "جبران باسيل" ، على اعتبار أن ممارسة الضغوط الغربية على الحليف المسيحي لحزب الله يمكن أن تثمر تباعدًا في الأجندات السياسية، وبالتالي إضعاف "حزب الله".
تداعيات محتملة:
من ردود الفعل الأولية الصادرة عن اللاعبين الدوليين والإقليميين المهتمين بالوضع اللبناني، يمكن اختصار تداعيات الانفجار المرشحة للتطور خلال الفترة القادمة فيما يلي:
1- اختراق العزلة الدولية: حيث تعاطف العديد من الدول مع المأساة التي أصابت العاصمة اللبنانية بيروت، وأعلنت عن تقديمها مساعدات إنسانية وطبية كدولة الكويت عبر إرسال طائرات من المعدات الطبية إلى لبنان، فعلى سبيل المثال أعلنت الإمارات تقديمها مساعدات إنسانية عاجلة للمتأثرين من انفجار مرفأ بيروت في لبنان، تتضمن أدوية ومعدات الطبية، إضافة إلى مواد ضرورية أخرى، كما أعلن الأردن عن استعداده لنقل مستشفى عسكري إلى بيروت، وجهزت هولندا فريقًا من 67 عاملًا إنسانيًّا بين أطباء وإطفائيين، كما أعلنت التشيك واليونان عن إرسال مسعفين، فيما جهزت فرنسا عدة أطنان من المعدات الطبية لإرسالها إلى بيروت، بالإضافة إلى مساهمات العديد من الدول الأخرى، وكان رئيس الحكومة اللبنانية "حسان دياب" في وقت سابق قد وجه نداء عاجلًا للمساعدة إلى جميع الدول الصديقة.
2- دعم القوى الخارجية: قررت السطات الفرنسية فتح تحقيق حول الانفجار في مرفأ بيروت، حيث يُعتبر القانون الجنائي الفرنسي صاحب صلاحية للنظر في مثل هذه القضايا خارج الحدود الفرنسية في حال وجود ضحايا من الجنسية الفرنسية، في المقابل عارض الرئيس اللبناني "ميشال عون" الدعوات لإجراء تحقيق دولي في أسباب الانفجار، وقال إن السلطات اللبنانية ستحقق بنفسها لتعرف ما إذا كان الانفجار مدبراً أم لا.
كما قام الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" بزيارة إلى بيروت في 6 أغسطس، وأعلن بعد الزيارة أنه سيتم إقامة مؤتمر للمانحين لمساعدة الداخل اللبناني، فيما قامت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بإرجاء موعد النطق بالحكم فيما يخص قضية اغتيال "رفيق الحريري" والذي كان مقررًا في 7 أغسطس إلى 18 من نفس الشهر.
3- تزايد حدة التوتر الداخلي: اعتبر رئيس الحكومة "حسان دياب" أنه من غير المقبول بقاء 2750 طنًّا من نيترات الأمونيوم منذ ست سنوات في عنابر المرفأ من دون الأخذ بالاحتياطات، ولذا فإنه تعهد بعدم السكوت، وبالقيام بتحقيق لمعرفة المسؤول عن هذا الإهمال. ولاحقًا أخذت الحكومة اللبنانية قرارًا بوضع المسؤولين الإداريين عن المرفأ تحت الإقامة الجبرية حتى الانتهاء من التحقيق. وتعزو الرواية الرسمية أسباب حدوث الانفجار إلى إهمال أدى إلى اشتعال النيران ولاحقًا إلى تفجر مخزون نيترات الأمونيوم، فيما يشكك آخرون بهذا السيناريو، ويعتبرون أن الرواية الرسمية غير مقنعة، وبأنه لا يمكن الوثوق بتحقيق من إجراء هذه السلطة التي أدى على الأقل استهتارها بالموضوع إلى حصول الكارثة، خصوصًا مع علامات استفهام حول تجاهل هذه السلطة عدة تقارير في عام ٢٠٢٠ أرسلتها بعض الأجهزة الأمنية إلى رئاسة الجمهورية والحكومة. وكان لافتًا -في هذا السياق- مطالبة رؤساء الحكومات السابقين بتشكيل لجنة تحقيق دولية أو عربية من قبل الأمم المتحدة أو جامعة الدول العربية لجلاء حقيقة الانفجار.
كما تصاعدت التظاهرات حيث بدأ المحتجون في التجمع في ساحة الشهداء مساء السبت، وحاول بعضهم الوصول إلى مبني البرلمان بوسط المدينة كما حاولوا اقتحام مقر وزارة الخارجية، وهو ما دفع قوات الأمن لإطلاق الغاز المسيل للدموع عليهم.
4- برنامج صواريخ "حزب الله": حيث تم تداول فيديو قديم نسبيًّا لحسن نصرالله بعد حدوث الانفجار يتحدث فيه بشكل تهديدي عن تخطيطه لاستهداف حاويات الأمونيا في حيفا، مما قد يتسبب بعشرات الآلاف من القتلى، كما جرى تناقل عدة تقارير عن الصحافة الألمانية أوردت فيها معلومات تربط بين ناشطين لحزب الله في ألمانيا وتخزينهم مادة نيترات الأمونيوم، كما جرى استرجاع المعلومات التي نُشرت سابقًا حول برامج تطوير وتعديل ترسانة صواريخ "حزب الله" محليًّا، وإعلان "حسن نصرالله" في نهاية 2018 عن امتلاكه سلاحًا كاسرًا للتوازن، وربط كل ذلك بالسيطرة غير المباشرة لحزب الله على مرافق النقل في الدولة اللبنانية كالمطار والمرفأ والمعابر الحدودية، خصوصًا مع ترجيح الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" فرضية أن انفجار بيروت ناتج عن هجوم بقنبلة من نوع ما.
5- تداعيات اقتصادية حادة: حدث الانفجار بالتزامن مع تفشي الموجة الثانية لكورونا في لبنان، والتي اعتُبرت أقسى من الأولى (حوالي 200 إصابة في اليوم) والتي بدأت بالاقتراب من تخطي القدرة الاستيعابية للقطاع الاستشفائي في لبنان، وقدر رئيس بلدية بيروت "جمال عيتاني" في حديث لوكالة "رويترز" حجم الخسائر الناتجة عن الانفجار بعدة مليارات من الدولارات، فيما حصرها محافظ مدينة بيروت بين 3 و5 مليارات دولار، واعتبر وزير الاقتصاد "راوول نعمة" أنه على الرغم من تدمير أهراءات القمح في مرفأ بيروت التي كانت تحتوي على 120 ألف طن من القمح، فإنه ليس هناك تخوف من انقطاع الطحين في الأشهر المقبلة على نقيض ما تخوفت منه منظمة الفاو في وقت سابق، حيث كانت قد أعلنت عن خشيتها من انقطاع هذه المادة الأولية على المدى القصير في لبنان.
ولا شك أن تعطيل مرفأ بيروت عن العمل من جراء الانفجار سيكون له وقع كبير على انتظام دخول المواد الغذائية إلى لبنان، حيث تُظهر أرقام الجمارك اللبنانية أن 70% من حجم الاستيراد في لبنان يمر عبر مرفأ بيروت في بلد يعاني أصلًا من تضخم في أسعار المواد الغذائية وصل إلى حد زيادة 160% منذ بداية الأزمة في أكتوبر 2019، وربما يجري التعويض عن ذلك بتفعيل حركة المطار على الرغم من أن النقل الجوي كلفته أعلى، وحيث تظهر المعلومات المتداولة أن حركة الطيران في مطار "رفيق الحريري" في بيروت لم تتوقف بعد حدوث الانفجار، كما يظهر موقع مطار بيروت على شبكة الإنترنت استمرار وصول الرحلات المبرمجة مسبقًا على الرغم من الأضرار التي لحقت به جراء الانفجار.
ختاماً سيسعي "حزب الله"، وهو المسيطر على السلطة في لبنان، من ضمن أولوياته تغييب أو إخفاء أي صلة أو مسؤولية -سواء مباشرة أو غير مباشرة- له بحادثة الانفجار، إلا أنه لن يفلح في منع تفاقم الشرخ الذي يفصل بين الشرائح الناقمة من الشعب اللبناني وبين الطبقة الحاكمة الحالية، ومن المتوقع عدم نجاحه في محاولة استغلال البعد الإنساني للكارثة من أجل فتح قنوات تواصل جديدة مع القوى الخارجية الصديقة تاريخيًّا للبنان، كما أن محاولات الاستغلال هذه لن تؤدي رغم حجم التعاطف الدولي الكبير مع الشعب اللبناني إلى تراخي محاولات ضبط سلوك "حزب الله" إقليميًّا ودوليًّا.