استثمرت روسيا سياسة الانكفاء الأمريكي عن منطقة الشرق الأوسط خلال إدارتي الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" (2009-2017) في تعزيز نفوذها في المنطقة، التي ظلت ساحةً تقليدية لنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية على مدار عقود خلت، لتصبح موسكو الفاعل الدولي المؤثر في عدد من الملفات الإقليمية بالغة الأهمية والتعقيد، لا سيما على صعيد الأزمة السورية ذات المحورية المركزية في صراعات الشرق الأوسط، الأمر الذي ألقى بظلاله على خريطة التحالفات والصراعات بالمنطقة خلال السنوات القليلة الماضية.
ومع تولي الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" السلطة رسميًّا في العشرين من يناير 2017، يثور تساؤل حول مستقبل الدور الروسي في المنطقة، وتداعياته على قضاياها الرئيسية، وخريطة تحالفاتها الصراعية خلال السنوات القادمة، لا سيما مع إعلان "ترامب" خلال حملته الانتخابية عن رغبته في إنهاء سنوات القطيعة في العلاقات الأمريكية–الروسية، والتعاون بين البلدين في العديد من الملفات والصراعات الإقليمية، والتي يأتي في مقدمتها محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
مرتكزات الدور
ثمة مرتكزان رئيسيان اعتمدتهما الاستراتيجية الروسية خلال سنوات حكم الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما"، للتمدد وبسط النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، تمثلا في التحالفات الصلبة، وتوافق الضرورة، اللذين رَسَمَا حركة السياسة الروسية في الإقليم في سياق أكثر اتساعًا تهدف من خلاله موسكو إلى خلق نظام دولي متعدد الأقطاب، لاستعادة دورها الدولي كقوة عظمى بعد سنوات من التهميش عقب انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن المنصرم.
أولا- التحالفات الصلبة: نجحت موسكو في بناء نمط من التحالفات الصلبة مع عددٍ من الفاعلين الإقليميين من ذوي الاستراتيجيات البعيدة عن فلك القطب الأمريكي وسياساته في الشرق الأوسط، تتمحور حول إيران ونظام الأسد في سوريا، إضافة إلى الميليشيات الشيعية المسلحة بالمنطقة، وعلى رأسها حزب الله اللبناني. ومن خلال تلك التحالفات استطاعت موسكو فرض وجودها الفاعل في عددٍ من السياقات الصراعية في الإقليم، خاصة في الأزمة السورية.
ثانيًا- توافق الضرورة: على الرغم من الخلافات والتباينات بين روسيا والصين، إلا أنهما استطاعتا تنحية خلافاتهما التاريخية جانبًا، وتحقيق درجة عالية من التقارب الذي لم يصل إلى حد التحالف، لكنه يتسق مع استحقاقات المرحلة، لتدشين إطار عمل مشترك ينهض على ما تمليه حاجة كلا الطرفين للآخر لإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، بما يخدم المصالح الحيوية المشتركة للبلدين، ومواجهة التهديدات الأمريكية والغربية بشكل عام.
وقد استثمرت روسيا تعاونها مع الصين في دعم رؤيتها الاستراتيجية في أزمات منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في الأزمة السورية. فقد نجح التوافق الروسي-الصيني عبر ممارسته النفوذ السياسي والجهود الدبلوماسية في استبعاد تدخل عسكري خارجي من قبل حلف شمال الأطلنطي (الناتو) في سوريا، ومن ثم الحفاظ على نظام الأسد، الحليف الاستراتيجي لروسيا في المنطقة، وكذلك كبح جماح القوى الغربية المناوئة لإيران على خلفية ملفها النووي المثير للجدل، والجنوح به نحو المسار التفاوضي بعيدًا عن استمرار مسار العقوبات واستراتيجية الحصار الاقتصادي.
ومن ثم، فقد تمكنت موسكو عبر توافق الضرورة مع بكين من خلخلة الانفراد الأمريكي-الغربي بمسار قوس الأزمات الصراعي في منطقة الشرق الأوسط، وأضحت الدولتان تمتلكان من الأوراق المهمة الكثيرَ للمناورة في تلك الأزمات، بما يدعم استراتيجيتهما الكلية ومصالحهما الحيوية في المنطقة.
مساحات تقاطع وتباعد
ثمة توافق بين الرئيسين الروسي "فلاديمير بوتين" والأمريكي "دونالد ترامب" فيما يتعلق بمعارضة صعود الإسلاميين إلى السلطة، بمن فيهم التيارات المعتدلة من وجهة نظر الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق "أوباما"، حيث تنزع إدارة "ترامب" باتجاه رفض أي محاولات إقليمية للتأقلم مع أي قوى من تيارات "الإسلام السياسي" بما يتطابق مع الرؤية الروسية "البوتينية" في هذا الصدد. كما أن هناك اعتزامًا مشتركًا بين الجانبين فيما يتعلق بمجابهة تمدد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، سواء في العراق أو في سوريا، أو حتى ببعض الامتدادات الإقليمية للتنظيم في مناطق أخرى مثل ليبيا.
وتُمثل الأزمة السورية ملف توافق لافتًا بين الرئيسين، لا سيما مع تأكيدات "ترامب" أن "تحالفًا مع روسيا وسوريا لهزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية" هو السياسة التي يفضلها للتعامل مع الأزمة السورية". ويتعزز التوافق الأمريكي-الروسي في الملف السوري مع وقف إدارة "ترامب" أي دعم عسكري لقوى المعارضة السورية، خلافًا لما كان عليه الوضع في ظل إدارة "أوباما".
وفي مقابل التوافق الأمريكي-الروسي في ملفات حكم تيار "الإسلام السياسي"، وبقاء نظام "الأسد"، وعدم تسليح المعارضة، ومحاربة تنظيم "داعش"؛ تبرز عدة ملفات شائكة تُمثل نقاط خلاف جوهرية بين رؤيتي القيادتين الروسية والأمريكية، لا سيما مع سعي أركان إدارة "ترامب" إلى إحياء الدور الأمريكي عالميًّا، وتجديده، بعدما أدى غيابه إلى صعود موسكو وتوسعها في جوارها المباشر، وتعزيز نفوذها دوليًّا الذي يتجلى في منطقة الشرق الأوسط.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية السابقة قد غضّت الطرف عن تصاعد التطرف الشيعي المدعوم من إيران إقليميًّا في إطار سعيها لإنجاز الاتفاق النووي مع طهران، الأمر الذي عزز من النفوذ الإيراني وحليفه الروسي في المنطقة؛ فإن رؤية "ترامب" ربما لا تفرق بين تطرف شيعي وآخر سني، فالجميع لديه يوضع في سلة "الإرهاب الإسلامي" بغض النظر عن الخلفية المذهبية أو الحركية، ما يعني صدامًا محتملا مع حلفاء موسكو في الشرق الأوسط، لا سيما الحليف الإيراني وأذرعه الشيعية المتمددة في دول الصراع بالإقليم.
حصاد متباين
في سياق كهذا، يبدو النظامُ السوري أحدَ أبرز حلفاء روسيا المستفيدين من توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة، لا سيما مع ما هو متوقع من أن تعمل موسكو وواشنطن يدًا بيد لمواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية" والمجموعات المنضوية تحت لواء تنظيم "القاعدة" في سوريا، الأمر الذي من شأنه أن يُساهم في تعزيز فرص بقاء "الأسد" وتمكين نظامه مستقبلا، خاصة في ظل استبعاد العمل العسكري لحسم الصراع في سوريا من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة.
وعلى العكس من ذلك، يبدو الحليف الإيراني مُهَدَّدًا بتوجهات "ترامب" المناوئة، حيث سبق وأعلن أنه سيعمل على إعادة فتح باب التفاوض حول الاتفاق النووي مع طهران لأنه يعتقد أن الاتفاق أعطى لإيران ما لا تستحق. وهو الأمر الذي يعني ضمنًا المساس بجميع الإجراءات والترتيبات التي طالما ارتكزت عليها إيران لبناء الثقة مع المجتمع الدولي فيما يتعلق بسياستها النووية، ما قد يدفعها نحو اتباع سياسة أكثر عدائية مع واشنطن، ولو على الصعيد الدبلوماسي التصريحاتي. وقد تُعيد إدارة الرئيس "ترامب" التلويح مجددًا بالخيار العسكري المحدود ضد منشآتها النووية، بما يؤثر على تغلغل إيران في عددٍ من الملفات الإقليمية، خاصةً في سوريا واليمن.
لكن كلا من إيران ونظام "الأسد" في سوريا قد يتضرران معًا بشدة من عداء "ترامب" الشامل لقوى الإرهاب والتطرف، والذي يضم في سلته الأذرع الإيرانية الشيعية المتورطة في صراعات المنطقة، وخاصة حزب الله اللبناني المنخرط في الأزمة السورية، وأنصار الله الحوثيين في اليمن، إضافةً إلى التنظيمات الشيعية النشطة في العراق، وذلك على عكس المرونة التي طالما أبداها الرئيس الأمريكي السابق "أوباما" إزاء قوى التطرف الشيعي، والتي صبت في مصلحة روسيا وحلفائها في الشرق الأوسط.
كما أن المحور الروسي-الإيراني ربما يكون على المحك حال وصول العلاقات الأمريكية-الإيرانية إلى طريق مسدود في وقت تحرص فيه روسيا على تضييق مساحات الخلاف مع الإدارة الأمريكية الجديدة، للاستفادة من مساحات التوافق بينهما لتعزيز استراتيجية موسكو التوسعية في الشرق الأوسط، والتي تعمل في سياق ما يُمكن وصفه بـ"التنافس الإزاحي" المتدرج؛ حيث تهدف روسيا في الأخير إلى إزاحة النفوذ الأمريكي في معاقله التقليدية بالمنطقة لإعادة تشكيل النظام الدولي على أسس جديدة.
سيناريوهات مستقبلية
وإذا كان دور موسكو الراهن في منطقة الشرق الأوسط قد اكتسب زخمًا جديدًا منذ نهاية عام 2015، مع إطلاق الرئيس "فلاديمير بوتين" استراتيجية روسيا العسكرية الجديدة، كإطار تجميعي لاستراتيجية الأمن الروسي التي صِيغت خلال حقبة الرئيس السابق "ديميتري ميدفيديف" عام 2009، ووثيقة التخطيط الاستراتيجي التي صيغت في عام 2014، والتي حولت العقيدة العسكرية الروسية من الدفاع إلى الهجوم؛ فإن ثمة رغبة روسية لتعزيز مكتسباتها الحالية في المنطقة والبناء عليها للحصول على مكاسب جديدة في ظل إدارة "ترامب".
وبناءً على ذلك تُصبح الإدارة الأمريكية الجديدة عاملًا حاسمًا فيما يتعلق بتحقيق الطموحات الروسية من عدمه، وفقًا لسيناريوهات حركتها الخارجية، لا سيما على صعيد الشرق الأوسط، والتي ستلقي بظلالها، سلبًا وإيجابًا، على السيناريوهات المتوقعة للدور الروسي في المنطقة، وهي على النحو التالي:
السيناريو الأول: الانكماش/الجمود، تنكفئ به الاستراتيجية الروسية على مكاسبها السابقة في الشرق الأوسط، دون أدنى فرصة لتعظيمها، فتحاول تجميد ما تم اكتسابه والعمل على عدم تقلصه أو انكماشه حتى إشعار آخر. ويترجح هذا السيناريو حال تراجع الرئيس "ترامب" عن رؤيته بشأن روسيا وملفات الشرق الأوسط خلال حملته الانتخابية بشكل كامل، والنكوص على عقبيه بتوتير العلاقات مع روسيا، والعمل على تقليص الوجود الروسي المتمدد في المنطقة.
السيناريو الثاني: التنافس المحدود، وفيه ربما تستمر الاستراتيجية الروسية على وضعها الفاعل الذي اكتسبته في المنطقة خلال السنوات الأخيرة من ولاية "أوباما"، وتنسيق الموقف مع الإدارة الأمريكية الجديدة حال أي مكتسبات أخرى تهدف إلى إنجازها. وهو سيناريو انعكاسي لانفتاح أمريكي محدود على روسيا، تتبادل فيه الدولتان تقديم تنازلات محددة لتخفيف حدة التوتر، والوصول إلى صيغة من التعاون المثمر بينهما، بما يعظم من نفوذ روسيا دوليًّا لكنه لا يرقى لطموحاتها لاستعادة مكانتها كقوة عظمى في نظام دولي متعدد الأقطاب.
السيناريو الثالث: التنافس الإزاحي، وهو محور الاستراتيجية الروسية. وبموجب هذا السيناريو تنجح موسكو في الوصول إلى تعاون كامل مع إدارة "ترامب"، وتصفية كافة الخلافات الجوهرية، والتأكيد على نقاط التماس المشتركة بين البلدين، وهو ما يعني نفوذًا روسيًّا غير محدود، قد يقود في الأخير إلى إعادة تشكيل النظام الدولي على أسس جديدة تضمن لروسيا مكانة تليق بطموحات موسكو كوريث للقطب السوفيتي الآفل. وهذا السيناريو لا يتحقق بغير انحياز كامل من إدارة "ترامب" للتطابق مع مجمل السياسات الروسية، إقليميًّا ودوليًّا، وهو أمر قد يبدو بعيد المنال على الصعيد العملي.
وأخيرًا، من الصعوبة بمكان ترجيح كفة أي من السيناريوهات سالفة البيان، لاعتبارات تتعلق بحداثة تولي إدارة "ترامب" مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، وإن كان السيناريو الثاني "التنافس المحدود" هو الأكثر واقعية، باعتباره يجمع بين جموح تصريحات "ترامب" خلال حملته الانتخابية وسياقات حركته المتوقعة بعد توليه المنصب في ظل تعقيدات عملية صنع القرار في الإدارة الأمريكية، لكن واقعية هذا السيناريو لا تعني استبعاد السيناريو الأول، والذي -قطعًا- ستسعى موسكو بكل السبل لتجنبه، والسيناريو الثالث، هدف موسكو الاستراتيجي الأبعد، والذي قد تتخذ روسيا من السيناريو الثاني سُلمًا لبلوغه والوصول إليه ولو على مدى زمني أطول.