أخبار المركز

ملء الفراغ :

لماذا تتعدد جولات وزير الخارجية الروسي إلى إفريقيا؟

11 يونيو، 2024


قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بجولة خارجية شملت عدداً من الدول الإفريقية (تشاد– غينيا– الكونغو برازفيل– بوركينا فاسو)، خلال الفترة من 2 إلى 6 يونيو 2024، وذلك في إطار تبني روسيا سياسة خارجية تقوم على تطوير نمط علاقاتها القائم مع الدول الإفريقية؛ وذلك بهدف تعزيز الدور والنفوذ الروسي في الدول الإفريقية، وبما يُسهم في الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في القارة الإفريقية.

مُتغيرات سياسية وأمنية:

جاءت زيارة وزير الخارجية الروسي لعدد من الدول الإفريقية في سياق عدد من المتغيرات السياسية والأمنية المهمة، سواء فيما يتعلق بما تشهده العلاقات الروسية الغربية من توترات سياسية متصاعدة، أم فيما يتعلق بالتطورات السياسية والأمنية التي تشهدها الدول الإفريقية بصفة عامة، وتلك التي شملتها الجولة بصفة خاصة، ومن أبرزها ما يلي:

1. تقارب روسي إفريقي: اكتسبت هذه الزيارة أهمية خاصة، نظراً لعدّة أسباب رئيسية؛ من أبرزها أنها الزيارة السادسة من نوعها لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لدول القارة الإفريقية خلال عامين، وأيضاً الزيارة الأولى من نوعها التي يقوم بها لافروف لدولة تشاد على الإطلاق، والأولى لدولة غينيا منذ آخر زيارة له في عام 2013، ما يعكس اهتماماً روسياً مُتصاعداً بتعزيز العلاقات مع الدول الإفريقية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية، وحرصاً روسياً على توظيف هذا التقارب المتسارع لإقامة علاقات شراكة استراتيجية مع هذه الدول.

2. تراجع النفوذ الأمريكي في إفريقيا: تزامنت هذه الزيارة مع تزايد مؤشرات تراجع النفوذ الأمريكي والغربي في القارة الإفريقية، ولعل أبرزها الانسحاب الأمريكي من بعض دول الساحل والصحراء خلال الفترة الأخيرة، وخاصة بعدما أعلنت كل من الولايات المتحدة والنيجر في منتصف شهر مايو 2024 عن اتفاقهما على بدء عمليات سحب القوات الأمريكية من النيجر، على أن تنتهي هذه العمليات بشكل كامل بحلول 15 سبتمبر 2024، وفي ذلك مؤشر مهم على التغير النوعي في طبيعة العلاقات الأمريكية الإفريقية، بعد أن أصبح الوجود الأمريكي في تلك الدول مرفوضاً على المستوييْن الرسمي والشعبي؛ وهو ما يعني الخصم من النفوذ الأمريكي في منطقة الساحل والصحراء؛ وهو ما سيترتب عليه التأثير سلباً في المصالح الأمريكية في القارة الإفريقية.

3. اضطرابات سياسية وأمنية: تزامنت الجولة الأخيرة لوزير الخارجية الروسي لافروف داخل القارة الإفريقية، مع ما تشهده بعض هذه الدول من أوضاع سياسية وأمنية واقتصادية غير مُستقرة؛ إذ لا تزال بوركينا فاسو تعاني أوضاعاً أمنية مضطربة في ظل تصاعد أنشطة تنظيم القاعدة الإرهابي هناك وقيامه بتنفيذ عدد كبير من العمليات الإرهابية خلال الفترة الأخيرة مُستهدفاً قوات الجيش وقوات مكافحة الإرهاب، وذلك بالتزامن مع استمرار مظاهر عدم الاستقرار السياسي أيضاً في بوركينا فاسو، وخاصة بعد الإعلان عن تمديد حكم المجلس العسكري هناك لمدة خمس سنوات بقيادة إبراهيم تراوري.

وعلى صعيد آخر لا تزال تشاد تعاني أوضاعاً سياسية وأمنية غير مستقرة، وذلك على الرغم من الإعلان عن فوز محمد إدريس ديبي برئاسة البلاد، وذلك بعد ثلاث سنوات من توليه السلطة كقائد للمجلس العسكري الانتقالي، في ظل تصاعد أنشطة بعض التنظيمات المسلحة والمتطرفة في البلاد، التي أصبحت في صدارة الترتيب الدولي بعد أفغانستان من حيث عدد العمليات الإرهابية وفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024، في حين تعاني كل من غينيا والكونغو برازافيل أوضاعاً اقتصادية مُتأزمة، وهنا يبرز الدور الروسي في إمكانية مُساعدة هذه الدول على تحسين أوضاعها الاقتصادية، وفي المقابل تمديد النفوذ والحصول على بعض المكاسب الاقتصادية.

تعزيز النفوذ:

حملت زيارة لافروف للدول الإفريقية المشار إليها، عدداً من الأهداف التي تسعى موسكو لتحقيقها، والمرتبطة في الأساس بتعزيز النفوذ الروسي وتمديده في معظم أنحاء القارة الإفريقية؛ وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1. إقامة علاقات شراكة استراتيجية: تهدف روسيا من خلال توافد مسؤوليها على الدول الإفريقية وعبر دبلوماسية الزيارات المكثفة لتلك الدول، إلى العمل على تطوير نمط العلاقات القائم ليصل إلى مرحلة التحالفات والشراكات الاستراتيجية، ولعل دعوة لافروف لنظرائه خلال هذه الزيارة لحضور مؤتمر وزراء الخارجية الأفارقة بمدينة سوتشي الروسية في شهر نوفمبر 2024، للتحضير للقمة الروسية الإفريقية القادمة، تُعد دليلاً على حرص موسكو على تطوير علاقاتها بالدول الإفريقية، بما يساعدها على الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في الدول الإفريقية التي استجابت بشكل مُتسارع لدعوات التقارب مع روسيا، آملةً في الحصول على الدعم الروسي في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، بما يساعد الأنظمة السياسية في تلك الدول على شرعنة بقائها في السلطة خلال السنوات المقبلة، ومواجهة مختلف الضغوط المفروضة عليها سواء من قبل المنظمات الإقليمية كالاتحاد الإفريقي و"الإيكواس" الرافضة لطرق تغيير السلطة في بعض هذه الدول (تشاد– بوركينا فاسو– غينيا...)، أم من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية وخاصة فرنسا، التي تعارض التقارب الروسي مع هذه الدول.

2. تعزيز التعاون العسكري: تهدف روسيا إلى توقيع المزيد من اتفاقيات التعاون العسكري والدفاعي مع الدول الإفريقية، بما في ذلك صفقات السلاح وإرسال الخبراء الروس لتدريب القوات المسلحة في تلك الدول، وخاصة فيما يتعلق بمواجهة الإرهاب المتنامي في منطقة الساحل والصحراء، وهو ما عكسته محادثات لافروف مع المسؤولين في الكونغو برازافيل؛ إذ تم الاتفاق على تطوير التعاون العسكري التقني، ومتابعة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في عام 2019 بين الدولتين بشأن إرسال مُتخصصين عسكريين روس إلى الكونغو لمساعدتها على تطوير مؤسساتها العسكرية والأمنية، كما تم الاتفاق على تعزيز التعاون المشترك بين روسيا وغينيا، وخاصة فيما يتعلق بتطوير قدرات غينيا العسكرية لمساعدتها على مواجهة التهديدات الأمنية المرتبطة بتصاعد الأنشطة الإرهابية، هذا بالإضافة إلى الاتفاق على استمرار التعاون العسكري الروسي مع تشاد وخاصة على مستوى توريد الأسلحة والمعدات العسكرية، في منافسة قوية مع فرنسا التي تربطها علاقات قوية مع تشاد حتى الآن، وذلك في إطار حرب النفوذ بين موسكو وباريس الدائرة في تشاد حالياً، خاصة وأن تشاد تُعد آخر معاقل الوجود الفرنسي في الوقت الحالي بعد طردها من مالي وبوركينا فاسو؛ إذ توجد تسع قواعد عسكرية فرنسية في تشاد.  

3. تعظيم المكاسب الاقتصادية: مما لا شك فيه أن زيارة لافروف لهذه الدول الإفريقية تهدف إلى تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين روسيا وهذه الدول؛ إذ تسعى روسيا إلى تقديم بعض المساعدات الاقتصادية للدول الإفريقية التي تعاني أوضاعاً اقتصادية متفاقمة، وقد يكون ذلك عن طريق عقد اتفاقيات لتعزيز التعاون الاقتصادي في بعض المجالات المهمة. 

فعلى سبيل المثال، تمتلك الكونغو برازافيل احتياطيات نفطية هائلة؛ إذ تحتل الترتيب السادس إفريقياً من حيث إنتاج النفط، كما تمتلك موارد طبيعية في حاجة إلى استثمارات ضخمة لتعظيم الاستفادة منها، إلا أنها تعاني فقراً شديداً وبلغ حجم الدين المحلي في عام 2021 حوالي 107% من الناتج المحلي الإجمالي. ومن جهة أخرى؛ تعمل روسيا على مساعدة دول الساحل والصحراء (تشاد– النيجر– بوركينا فاسو) على مواجهة تداعيات انقطاع علاقاتها مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "الإيكواس" التي فرضت عقوبات اقتصادية عليها بسبب الانقلابات العسكرية على السُّلط التي كانت قائمة في تلك الدول، وخلال زيارة لافروف لغينيا تم الاتفاق على تعزيز التعاون الاقتصادي بين روسيا وغينيا في مجال التنقيب، وذلك من خلال استثمارات شركة "روسال" التي تُعد أكبر مستثمر روسي بغينيا، وتقوم بتوفير الآلاف من فرص العمل لمواطني غينيا.

4. تعزيز النفوذ في ليبيا: تسعى روسيا إلى تعزيز دورها في الأزمة الليبية المُثارة، وذلك من خلال توظيف المبادرة التي طرحها رئيس الكونغو برازافيل، ساسو نغيسو، تحت مظلة الاتحاد الإفريقي تحت شعار "نداء برازافيل من أجل تسريع مسار السلم والمصالحة في ليبيا" والتي تضمنت دعوة الأطراف الليبية لعقد مؤتمر لتحقيق المصالحة الوطنية وصولاً إلى إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، وأيضاً الدعوة إلى انسحاب جميع العناصر المسلحة والمرتزقة الموجودين داخل ليبيا، وقد أعلن لافروف تأييد موسكو لهذه المبادرة؛ إذ ستقوم روسيا بتوظيف تقاربها الحالي مع الكونغو برازافيل؛ من أجل أداء دور أكثر فاعلية في الشأن الليبي خلال الفترة المقبلة؛ وذلك لمواجهة المساعي الأمريكية لتشكيل قوة عسكرية مُوحدة من الجماعات المسلحة في ليبيا؛ ومواجهة النفوذ الروسي المُتمركز في جنوب وشرق ليبيا، وإعلان موسكو عن تشكيل فيلق موسكو المكون من 20 ألف جندي والمتمركز في إفريقيا الوسطى الذي يتلقى تعليماته مباشرة من وزارة الدفاع الروسية؛ وهو ما يرجح تصاعد حدّة المنافسة الروسية الأمريكية في ليبيا خلال الفترة المقبلة.

5. مواجهة الإرهاب: تهدف جولة لافروف في تشاد وغينيا والكونغو برازافيل وبوركينا فاسو، في أحد جوانبها، إلى تعزيز التنسيق الأمني والاستخباري بغرض تعزيز قدرات هذه الدول على مواجهة الأنشطة الإرهابية المتنامية هناك والحد منها، وذلك بغرض تأمين الوجود الروسي في تلك الدول والحفاظ على مصالح روسيا الاستراتيجية في القارة الإفريقية، ومن ذلك التعاون؛ إعلان روسيا اشتراكها مع القوات المسلحة التشادية خلال الفترة الأخيرة في تحرير عدد من الجنود التشاديين الذين احتجزتهم إحدى الجماعات المسلحة المتطرفة المعروفة باسم "حركة أسود الصحراء والجبال"، وذلك في إطار التعاون العسكري بين موسكو وإنجامينا.

6. مُواجهة الضغوط الغربية: جاءت جولة لافروف لهذه الدول الإفريقية بهدف خلق توازنات جديدة مع الدول الإفريقية وخاصة في منطقة الساحل والصحراء وغرب ووسط إفريقيا، وذلك بغرض تعزيز نفوذ روسيا في تلك المناطق، مُستغلةً الفراغ الناتج عن تراجع النفوذ الأمريكي والغربي هناك؛ إذ نجحت موسكو في التمدد داخل الكونغو برازافيل، التي كانت دائرة نفوذ فرنسية بامتياز خلال السنوات الماضية، وأيضاً في دول منطقة الساحل والصحراء، ومنها تشاد، التي لا تزال لها علاقات جيدة مع الجانب الفرنسي؛ وهو ما ظهر في توجهات السياسة الخارجية لأنظمة الحكم الجديدة في تلك الدول، التي أصبحت تفضل التعامل مع روسيا ورفض استمرار التبعية للدول الغربية بمختلف صورها السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية.

كما أيدت توجهات الرأي العام داخل هذه الدول تعزيز العلاقات مع الجانب الروسي؛ إذ رفع المتظاهرون الأعلام الروسية وأيدوا قرارات الأنظمة الانتقالية بشأن علاقات دولهم مع الولايات المتحدة وفرنسا؛ الأمر الذي أتاح المجال واسعاً أمام روسيا لتقديم نفسها كبديل يمكن الوثوق فيه وإقامة تحالفات سياسية وعسكرية معه، وهو ما انعكس في تصويت الدول الإفريقية في مجلس الأمن لصالح روسيا في مواجهة العقوبات الغربية المفروضة عليها؛ ومن ثم فإن روسيا تحرص على ضمان الاستفادة من الكتلة التصويتية المهمة للدول الإفريقية في المحافل الدولية، ولاسيما في الأمم المتحدة.

وفي الختام، فإنه يمكن القول إن زيارة لافروف إلى القارة الإفريقية تعكس سياسة خارجية روسية براغماتية تسعى من خلالها موسكو لإيصال رسالة إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية، مُفادها قدرة الفاعل الروسي على ملء الفراغ الذي ترتب على تراجع النفوذ الغربي بصفة عامة في القارة الإفريقية، ومن المحتمل أن تنجح روسيا في التمدد داخل غينيا؛ ومن ثم الحصول على منفذ جديد على المحيط الأطلسي؛ ومن ثم تحقيق مزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية.

ومن جهة أخرى، تعكس التحركات الروسية المُكثّفة في القارة الإفريقية، مساعي روسيا للخروج من عزلتها الدولية المفروضة عليها بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية بسبب الحرب الأوكرانية؛ وهو ما يفسر الاتجاه الروسي لإقامة تحالفات جديدة مع أكبر عدد من الدول الإفريقية، لمساعدتها على الخروج من هذه العزلة عبر الحصول على هامش أكبر من الحركة الخارجية.

وفي المقابل، تنظر الدول الإفريقية إلى روسيا على أنها شريك يمكن التعويل عليه لتحقيق مصالح اقتصادية وأمنية على الصعيد الداخلي، والتخلص من التبعية السياسية والاقتصادية والأمنية للدول الغربية على الصعيد الخارجي؛ وهو ما يرجح أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التمدد الروسي في الدول الإفريقية، ومزيداً من الإقبال الإفريقي على الفاعل الروسي.