لم تعد الحرب في الوقت الراهن مجرد حرب تقليدية واضحة المعالم والأدوات، وإنما باتت خليطاً من توظيف كافة الأدوات المتاحة، التقليدية وغير التقليدية، بحيث أضحى الملمح والهدف الجوهري هو "التفجير من الداخل" باعتباره الوسيلة الأمثل لهزيمة الخصوم، دون تحمل تكلفة كبيرة، على نحو يحقق نبوءة صن تزو، الجنرال الصيني والخبير العسكري، في كتابه "فن الحرب" "أن تخضع العدو دون قتال هو ذروة المهارة".
في هذا الاطار، صدر عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بالتعاون مع دار العربي للنشر والتوزيع، كتاب "حروب الجيل الخامس أساليب التفجير من الداخل على الساحة الدولية"، للدكتور شادي عبدالوهاب، رئيس التحرير التنفيذي لدورية اتجاهات الأحداث الصادرة عن المركز، ويهدف الكتاب لرصد وتحليل إسهامات المحللين العسكريين والاستراتيجيين لفهم ورصد واستشراف التحولات التي طرأت على أشكال الحروب، وهو ما انعكس في تطوير عدد من المفاهيم والمصطلحات، التي سعت لفهم التحولات الحادثة في الحروب، واستشراف مستقبلها، والتي تأتي في مقدمتها "حروب الجيل الخامس" (Fifth Generation Warfare).
ويتناول الفصل الأول من الكتاب توضيحاً لأجيال الحروب المختلفة من الأول وحتى الخامس، مع التركيز على الجيل الخامس من الحروب بالاستناد إلى عدد من المفاهيم ذات الصلة، مثل الحروب الهجينة، والمناطق الرمادية، ثم ينتقل الفصل الثاني لتوضيح الأشكال المختلفة من الحروب، وأبعادها الجديدة، مع بيان أهم الملامح المشتركة لبعض هذه الأشكال. ويسعى الفصل الثالث إلى توضيح أبرز الآليات التي يمكن أن تتبعها الدول لمواجهة هذا النمط الجديد من الحروب.
ويرى الكتاب أن حروب الجيل الخامس تعكس تراجع القدرة على التمييز بين ثنائية الحرب والسلام، أو الحروب التقليدية وغير التقليدية، أو الحروب النظامية وغير النظامية، أو الدول والفواعل المسلحة من دون الدول. فقد لجأت الدول إلى استخدام العديد من الوسائل، مثل الحروب الاقتصادية والسيبرانية والمعلوماتية والبيئية، وحروب الفضاء، علاوة على توظيف "الأسلحة ذاتية التشغيل"؛ فكلها أدوات قادت إلى تلاشي الحدود بين ما يُعد أرضاً للمعركة وما ليس أرضاً لها، وأضحت معامل الأبحاث والبورصات ووسائل الإعلام والمراكز الدينية والمؤسسات الاقتصادية والفضاء الإلكتروني وغيرها، بمنزلة ساحات للمعارك وإدارة الصراعات بين الدول وبضعها البعض، في وقت تصاعدت فيه أدوار الفاعلين المسلحين من غير الدول على الساحة العالمية بشكل غير مسبوق.
وخلص الكتاب إلى أن الصراعات والحروب الأهلية التي شهدتها المنطقة العربية في أعقاب "الثورات" العربية في عام 2011 هي في جانب منها انعكاس لحروب الجيل الخامس، فقد دفعت إلى دراسة تطور أشكال الحروب، حيث شهدت هذه الدول اضطرابات داخلية عصفت باستقرارها، وأدخلت بعضها في حروب داخلية وصراعات ممتدة، تورط فيها طيف واسع من الفاعلين، سواء من القوى الإقليمية أو الدولية ذات المصلحة، أو الفواعل المسلحة من دون الدول؛ الأمر الذي زاد من درجة تعقيد هذه الحروب، بالنظر إلى تعدد الفاعلين وتضارب مصالحهم، بالإضافة إلى انعكاسات الاضطرابات الداخلية لهذه الدول على جوارها المباشر، والذي تأثر سلباً بتدفق اللاجئين أو سعي التنظيمات الإرهابية لاستثمار هذه الفوضى للتمدد في دول أخرى.
ويرى الكتاب أن الملمح أو القاسم المشترك بين هذه الصراعات هو أنها أصابت مجتمعات تبدو قبل اندلاعها، تتمتع بدرجة من الاستقرار النسبي، بطريقة تجعل من غير المتصور أن تنفجر هذه المجتمعات بصورة مفاجئة في وجه حكوماتها، وتعمل على إسقاطها، بصورة تفاوتت بين الإخفاق - كما في الحالة السورية - والنجاح التام - كما في الحالة الليبية - وإن ظل القاسم المشترك بين الحالتين هو استمرار الاضطراب الداخلي، خاصة في الحالة الليبية، والتي انقسمت بين حكومتين في الشرق والغرب، بالإضافة إلى عدد لا نهائي من الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة، التي بسطت سيطرتها بحكم الأمر الواقع على مساحات من أراضي الدولة.