في خضم مراقبة العالم علامات الأزمة والتباطؤ الأكثر حدة المتوقع للاقتصاد الصيني، شهدت أسواق الصين تحولاً دراماتيكياً مع إعلان المكتب السياسي، أعلى هيئة لصنع القرار في الحزب الشيوعي، عن خطط لتبني سياسة نقدية "متساهلة بشكل معتدل أو مناسب" في عام 2025، وهو ما يُعد أول تحول من نوعه في السياسة النقدية للصين نحو التيسير منذ 14 عاماً، ويشير كذلك إلى احتمال خفض أسعار الفائدة ومتطلبات الاحتياطي الإلزامي للبنوك في المستقبل القريب.
تباطؤ معدلات النمو:
تواجه الصين حالياً تحدياً اقتصادياً مُعقداً، في ظل انهيار سوق الإسكان، وتباطؤ سوق الأوراق المالية، وتراجع نشاط المستهلكين. وقد أدى تراجع الثروات، بسبب الخسائر في العقارات والأسهم، إلى دفع الشركات والمستهلكين على حد سواء إلى التركيز على إصلاح أوضاعهم المالية بدلاً من الإنفاق أو الاستثمار، وهي علامات واضحة على ركود الميزانية العمومية للدولة. ونتيجة لهذا؛ أثبتت أدوات السياسة النقدية التقليدية، مثل خفض أسعار الفائدة أو خفض قيمة العملة، عدم فعاليتها إلى حد كبير في معالجة هذه التحديات.
ويقف صُناع السياسات في الصين عند منعطف حرج، حيث يتعين عليهم اتخاذ إجراءات حاسمة لإعادة دفع النمو الاقتصادي مُجدداً، بعد أن تباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين خلال الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2024، من 5.3% إلى 4.7% ثم إلى 4.6%، وهو ما أثار مخاوف من أن بكين لن تحقق هدفها السنوي للنمو الذي يبلغ نحو 5% في العام المقبل. فلم يعد الاقتصاد الصيني يتوسع بمعدل سنوي مزدوج الرقم، كما كان الحال في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ويعود ذلك إلى عدة عوامل، من بينها القضايا البنيوية، والتعافي البطيء بعد جائحة "كورونا"، والتوترات التجارية مع الغرب. كما كان للحملة واسعة النطاق التي شنها الرئيس شي جين بينغ على قطاعات التكنولوجيا والعقارات والتعليم الخاص في 2020 و2021، نفس القدر من التأثير في النمو الاقتصادي الصيني، فضلاً عن فرص العمل للعديد من الشباب.
تحولات السياسة النقدية:
على مدى السنوات الماضية، قدمت الحكومة الصينية بعض السياسات الداعمة للاقتصاد، لكنها امتنعت عن تنفيذ سياسات تحفيزية متساهلة؛ بسبب المخاوف من الآثار الجانبية المُحتملة. فقد شجعت حزمة التحفيز الضخمة التي قدمتها الحكومة بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، النمو الاقتصادي، لكنها أدت أيضاً إلى تغذية فقاعة العقارات، ودفعت ديون الحكومات المحلية إلى الارتفاع، وخفضت كفاءة الاستثمار.
وتغيرت حسابات الحكومة الصينية مع نهاية الربع الثالث من عام 2024، عندما أصبح من الواضح أن اقتصاد البلاد سوف يحتاج إلى مزيد من التيسير لرفع مسار نموه. ففي أواخر سبتمبر 2024، كشف محافظ بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) عن ثلاثة تدابير هي: خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي لدى البنوك، وخفض أسعار الفائدة، وإنشاء أدوات السياسة النقدية لدعم سوق الأسهم. وسبق أن اعتمدت بكين سياسة نقدية "متساهلة بشكل معتدل" بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، قبل أن تتحول إلى سياسة نقدية "حكيمة" في أواخر عام 2010.
ومن ثم تُمثل الصيغة الجديدة للسياسة النقدية أول تخفيف للموقف المالي في الصين منذ أواخر عام 2010، وفقاً للإعلانات الرسمية للدولة. وفي الوقت الراهن، أعلنت الصين عن استهداف سياسة نقدية "متساهلة بشكل معتدل" في عام 2025، وتعني تلك السياسة المتساهلة أن السلطات ستبدأ في طباعة المزيد من النقود، مع شراء السندات الحكومية على نطاق أوسع في العام المقبل.
إن التغيير في السياسة النقدية، الذي أُعلن عنه قبل مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي السنوي في الصين يومي 11 و12 ديسمبر الجاري، يأتي في لحظة حرجة. ففي مواجهة الرياح المعاكسة المتمثلة في سوق العقارات الهشة، والضغوط الانكماشية، وضعف الطلب الاستهلاكي؛ تعمل بكين على إعادة صياغة استراتيجياتها المالية والنقدية لضخ الحيوية في ثاني أكبر اقتصاد في العالم. واتضحت خطة تحفيز الاقتصاد الصيني عبر تسهيل السياسة النقدية في عدد من المبادرات التي شملت الآتي:
- ضخت الصين، في سبتمبر 2024، سيولة في النظام المصرفي بقيمة 2.7 تريليون يوان، لتشجيع الإقراض، وخفض أسعار الفائدة. وأعلنت عن إنفاق جديد على البنية الأساسية ومساعدات لمطوري العقارات المثقلين بالديون.
- كشفت الحكومة الصينية، في نوفمبر الماضي، عن دفعة إضافية بقيمة 10 تريليونات يوان، للمساعدة على تخفيف أزمة الديون.
- أجرى بنك الشعب الصيني تخفيضات كبيرة على نسبة الاحتياطي الإلزامي، التي تحدد مقدار الأموال التي يتعين على البنوك تخصيصها كاحتياطيات. وبدأ بنك الشعب الصيني، في أواخر سبتمبر الماضي، خفض العديد من أسعار الفائدة، في محاولة لدعم النمو المتباطئ. وجاءت هذه التحركات في أعقاب تحول بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي إلى دورة تخفيف؛ بخفض كبير بلغ 50 نقطة أساس في منتصف سبتمبر 2024.
- تم الإعلان عن تغييرات في نطاق المعروض النقدي، لتحسين الإحصاءات، ويعكس هذا الإجراء القوة الشرائية الفعلية في الاقتصاد.
مواجهة التحديات التنموية:
لن يكتمل أي تنبؤ لمعدلات نمو الاقتصاد الصيني دون الاعتراف بالتحديات التي يواجهها. ولا تزال التحولات الديمغرافية والشيخوخة السكانية، وديون الحكومات المحلية، ومخزونات العقارات المرتفعة، ومخاطر الانكماش، وانعدام الكفاءة البنيوية؛ تُشكل مصدر قلق. ففي حين كان التركيز إلى حد كبير على التدابير النقدية، فإن هناك حاجة متزايدة إلى تدخل مالي قوي لتنشيط الاستهلاك. وهنا يتعين على صُناع السياسات الصينية التغلب على ثلاثة تحديات رئيسية، هي كالتالي:
1- تثبيت استقرار قطاع العقارات، الذي يسهم بنحو 20% من نمو الناتج المحلي الإجمالي. فالسماح بمزيد من التعديل القائم على السوق في أسعار المساكن وإعادة هيكلة المطورين المتعثرين بسرعة، من شأنه أن يساعد على التخلص من فائض المخزونات، وتخفيف المخاوف من استمرار الأسعار في الانخفاض تدريجياً. وهنا لا بد من إلغاء القواعد التي تسمح للبنوك بتجنب الاعتراف بالقروض المتعثرة للمطورين.
2- تعديل أوضاع الميزانيات العمومية للحكومات المحلية، فقد دفع نقص الأموال السلطات المحلية في الآونة الأخيرة إلى خفض الإنفاق، مثل خفض رواتب المسؤولين، والتشبث بالإيرادات مثل ملاحقة الضرائب المتأخرة من الشركات وحتى احتجاز رواد الأعمال من القطاع الخاص من مناطق أخرى. وكل هذا يضر بمعدلات النمو.
والمشكلة الأساسية هنا أن مسؤوليات الإنفاق تتجاوز الآن الإيرادات المالية، التي لم تعد تُعزز من خلال مبيعات الأراضي وأدوات الاستثمار الحكومية المحلية. ويتعين على الحكومة المركزية أن تعمل بشكل عاجل على تحويل قدر كبير من الإيرادات العامة إلى السلطات المحلية. والأمر الأكثر أهمية هو أن الصين تحتاج إلى إعادة تشكيل توازن المسؤوليات المالية عبر مستويات الحكومة.
3- مواجهة الحرب التجارية المُتوقعة مع الولايات المتحدة، في ضوء تعهد الرئيس الأمريكي المُنتخب دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 60% على جميع الواردات من الصين خلال عامه الأول في منصبه. ونظراً لأن صادرات الصين إلى الولايات المتحدة تُمثل 3% من ناتجها المحلي الإجمالي، فإن مثل هذه الرسوم الجمركية، وحتى الأقل كثيراً؛ من شأنها أن تؤثر بشكل كبير في معدلات النمو عام 2025.
وخلال الفترة الماضية، فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية تدريجية على الواردات من الصين، وتم تحديد أعلى معدل للرسوم الجمركية عند 25%. وفي نوفمبر 2024، أعلن ترامب عن نيته فرض ضريبة إضافية بنسبة 10% على جميع السلع الصينية التي تدخل الولايات المتحدة.
وتشير عدة اعتبارات إلى أن تأثير الرسوم الجمركية المُقترحة هذه المرة قد يكون أعظم؛ إذ إن أحد الأسباب وراء ذلك هو أن ترامب يُفكر في فرض تعريفات جمركية أكبر وأكثر شمولاً من تلك التي فُرضت في ولايته الأولى. فخلال حملته الانتخابية عام 2024، تعهد ترامب بزيادة التعريفات الجمركية على جميع السلع الصينية إلى 60%، وأعلن منذ ذلك الحين أنه سيبدأ في رفع الرسوم الجمركية على الواردات من الصين بنسبة 10% في يوم تنصيبه. وعلى النقيض من فترة ترامب الأولى، يواجه الاقتصاد الصيني صعوبات، كذلك تظل الولايات المتحدة أكبر وجهة فردية للسلع الصينية بقيمة واردات تزيد عن 400 مليار دولار سنوياً، وسط توقعات بتأثير سلبي لتلك الرسوم الجمركية الأمريكية في نمو الصين بما يصل إلى 1%.
وثمة اعتبار آخر يتعلق بأن الصين تمكنت من التحايل على بعض التعريفات الجمركية القائمة من خلال إعادة توجيه البضائع المشحونة إلى الولايات المتحدة عبر منشآت في المكسيك وفيتنام، وهو ما قد يُمثل عامل قوة للصين وسط قدرتها على التحايل على الرسوم الجمركية الجديدة المُقترحة، حيث لا يزال بإمكان المُصدرين الصينيين التحول إلى أسواق جديدة وإنشاء مصانع خارجية. بيد أن ترامب تعهد بوقف هذا المسار، مُهدداً بزيادة الرسوم الجمركية على السلع القادمة من المكسيك بنسبة 25%، وفرض رسوم تتراوح بين 100% و200% على المركبات الكهربائية التي تنتجها الشركات الصينية في المكسيك، والتي يتم تصديرها إلى الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من إعلان الحكومة الصينية عن تدابير مالية لدعم اقتصادها؛ فإنه من غير المُرجح أن تتحمل بكين الضربات التجارية المُحتملة دون الرد بالمثل على واشنطن. وسنت الصين بالفعل قوانين شاملة منذ ولاية ترامب الأولى، تسمح لها بمواجهة التدابير التي تتخذها دول أخرى، وتشمل قوانين جديدة تسمح لها بإدراج شركات أجنبية على القائمة السوداء، وفرض عقوبات خاصة بها، وتقليص وصول الولايات المتحدة إلى سلاسل التوريد الحيوية؛ مما يزيد احتمالات تصعيد الحرب التجارية. ويُتوقع أن تكون المرحلة التالية من الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين أكثر ضرراً لكل منهما مقارنةً بالجولة الأولى. وإذا كان الأمر كذلك، فقد تتحول الأسواق العالمية إلى حالة من التقلب، مع إدراك المستثمرين أنه لن يستفيد أحد من حرب تجارية بين أكبر اقتصادين في العالم.\