أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

مسارات بيروت:

إلى أين تتجه احتجاجات لبنان؟

20 أكتوبر، 2019


لم يكن الإعلان عن فرض رسومٍ على استخدام تطبيق "الواتساب" للمحادثة سوى الشرارة التي فجّرت موجة الاحتجاجات الأخيرة في لبنان؛ إذ إن حالة الاحتقان الشعبي في الشارع اللبناني قد تصاعدت تدريجيًّا على مدار فترة ممتدة نتيجة لتعثر مؤسسات الدولة اللبنانية في أداء وظائفها الأساسية، وتردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتزايد سياسات الاعتماد على نموذج الجباية الضريبية، وهو ما أنتج زخمًا احتجاجيًّا عابرًا للانتماءات الطائفية للمطالبة بالتغيير.

احتجاجات "الواتساب":

قامت الحكومة اللبنانية في إطار التحضير لمشروع موازنة عام 2020 بفرض رسوم ضريبية جديدة من أجل تحسين الواردات، من ضمنها إضافة رسم 6 دولارات شهريًّا على الاتصالات التي يجريها المشتركون عبر تطبيق الواتساب أو التطبيقات المشابهة بمعدل 20 سنتًا يوميًّا، وهو ما يؤمن لخزينة الدولة إيرادًا سنويًّا يقدر بحوالي 240 مليون دولار سنويًّا.

ويؤكد مقترِحو هذه الرسوم أن هناك تراجعًا في إيرادات قطاع الاتصالات الذي كان يُعتبر سابقًا "نفط لبنان" على حد تعبير رئيس البرلمان اللبناني "نبيه بري"، حيث أدى تحسن سرعة الإنترنت المتوفرة وفعالية شبكة 4G، إلى تفضيل معظم المشتركين إجراء اتصالاتهم اليومية عبر تطبيق الواتساب وليس عبر خدمات الشركات، مما أدى إلى تراجع واردات قطاع الاتصالات بنحو 30% حسب الأرقام التي صرح بها وزير الاتصالات اللبناني "محمد شقير" في يونيو 2019.

وأدى إعلانُ الحكومة اعتمادَ هذا التدبير عقب جلستها المنعقدة في 18 أكتوبر إلى احتجاج أعداد كبيرة من المواطنين اللبنانيين في مختلف مناطق العاصمة بيروت، معبرين عن رفضهم للإجراءات الضريبية الجديدة، في تحرك يُصنَّف بالأضخم بعد "ثورة الأرز" في ١٤ مارس 2005.

كما سُجّل خروجٌ كثيف للمتظاهرين في مدن كبيرة أخرى كطرابلس وصور والنبطية والبترون، وعمد المتظاهرون إلى قطع أكثر من طريق حيوي من بينها طريق مطار رفيق الحريري الدولي، وقدرت صحيفة "النهار" اللبنانية عدد المشاركين في مختلف التحركات في المناطق بمئات الآلاف.

وعلى الرغم من إعلان الحكومة عن تراجعها عن ضريبة الواتساب تحت ضغط الشارع بعد ساعات من بداية الحراك الشعبي؛ إلا أن الشعارات التي أطلقها المحتجون توسعت إلى درجة المطالبة "بإسقاط النظام" و"استقالة الحكومة" و"استقالة الرؤساء الثلاثة"، في دلالةٍ على كون طبيعة الاحتجاجات أعمق من مجرد الاعتراض على الإجراءات الضريبية، ولتعبّر عن حالة من الغضب والسخط على أداء الطبقة السياسية الحالية والدعوة لاستبدالها عبر المطالبة بحكومة تكنوقراط وإجراء انتخابات نيابية مبكرة.

وعلى إثر تزايد وتيرة الاحتجاجات، تم إلغاء اجتماع الحكومة المقرر في نهار الجمعة ١٩ أكتوبر، والاستعاضة عنه بكلمة متلفزة وجهها رئيس الحكومة "سعد الحريري" إلى اللبنانيين محددًا مهلة ٧٢ ساعة أمام شركائه الأساسيين في الحكومة للتشاور حول الاقتراحات المختلفة للخروج من الأزمة، والتعهد بعدم عرقلة هذه الخطوات، أو الذهاب في خيارات لن تكون بعيدة عن تقديم استقالة الحكومة، حيث صرح قائلًا: "أنا شخصيًّا، سأعطي نفسي وقتًا قصيرًا جدًّا، فإما أن يعطي شركاؤنا بالتسوية وبالحكومة جوابًا واضحًا وحاسمًا ونهائيًّا، يقنعني أنا، ويقنع اللبنانيين والمجتمع الدولي وكل من يعبّرون عن الغضب بالشارع اليوم، بأن هناك قرارًا من الجميع بالإصلاح، ووقف الهدر والفساد، أو يكون لي كلام آخر".

خريطة القوى المشارِكة:

خرج القسم الأكبر من المحتجين بشكل عفوي نحو الساحات العامة، وكان لافتًا مشاركة جزء من مناصري الأحزاب المنخرطة في السلطة من دون مراجعة قيادة أحزابهم أو التقيد بقراراتهم، كما كان لافتًا انتشار التظاهرات في المناطق التي تقع تحت نفوذ "حزب الله" وحركة "أمل" كالنبطية وصور وبعلبك، وقام المتظاهرون بطرد بعض الرموز السياسية التي أرادت ركوب الموجة بعد حضورها إلى ساحات الاعتصامات، حيث اعتبروهم مسئولين عن التدهور الاقتصادي الذي وصلت إليه لبنان، رافضين محاولات هذه الرموز تبييض صفحاتهم، حيث أصر المحتجون على رفع شعار "كلن يعني كلن" أي عدم استثناء أحد من الموجودين بالسلطة.

واستطاع منظمو هذه التحركات بدءًا من اليوم الثاني من انطلاق الاحتجاجات الحد من المظاهر المسيئة لتحركهم، كمنع إحراق الأخشاب والأثاث، ومنع المواجهات مع القوى الأمنية، كما تم وضع "مبادئ سلوك" على مداخل بعض الاعتصامات تؤكد ضرورة التحرك السلمي، وعدم طائفية التحرك، وعلى المواطنة بين المسلمين والمسيحيين، حيث شجعت هذه الأجواء المزيد من العائلات على النزول والمشاركة، بحيث تخطت أعداد المشاركين في اليوم الثالث -حسب وكالة رويترز- المليون ومائتي ألف على مستوى كل لبنان.

على مستوى آخر، دعت بعض الأحزاب المعارضة للمشاركة في الاحتجاجات -مثل حزب الكتائب- الذي صرح رئيسه "سامي الجميل" قائلًا: "إننا نؤيد التحرك، ولن نسيسه، وندعو أنصارنا للتحرك السلمي لتغيير السلطة الحالية، لأنها سلطة محاصصة ومتاجرة بحياة الناس". فيما طالب رئيس حزب القوات اللبنانية "سمير جعجع"، والممثل في الحكومة بــ4 وزراء، رئيس الحكومة "سعد الحريري" باستقالة حكومته، مشددًا على تقديره لمدى الجهود التي بذلها الرئيس "الحريري" في سبيل احتواء الأوضاع، "ولكن الأكثرية الوزارية، ويا للأسف، كانت في مكان آخر"، وذلك على حد تعبيره، كما أنه أعلن لاحقًا في مساء نهار السبت، في ١٩ أكتوبر 2019، عن طلبه من وزرائه تقديم استقالاتهم ومن مناصريه المشاركة في الحراك ولكن من دون حمل الأعلام الحزبية.

كما أعلن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي "وليد جنبلاط"، الممثل بالحكومة بوزيرين، عن وقوفه إلى جانب "سعد الحريري"، مشيرًا إلى أن استقالتهما ستكون معًا، ودعا أنصاره إلى "التحرك الهادئ السلمي ضد "العهد" الذي خرّب كل شيء، واستأثر بكل شيء"، معتبرًا أن "العهد" (فريق رئيس الجمهورية "ميشال عون") يُحاول "أن يرمي المسئولية على الغير، وهو الذي عطل كل المبادرات الإصلاحية الممكنة، وحرض عليها مستخدمًا كل الوسائل.

دوافع التظاهرات:

تتمثل أهم دوافع الاحتجاجات فيما يلي:

1- انعدام الثقة: حيث ترسخت قناعة لدى قطاع كبير من المواطنين بأن الهدف الحقيقي الذي يعمل "العهد" على تحقيقه ليس إيجاد حلول لمشاكلهم الحياتية والمعيشية، بل يقتصر فقط على تأمين خلافة رئيس الجمهورية الحالي "ميشال عون"، ودعم صهره ووزير الخارجية الحالي "جبران باسيل" للوصول للرئاسة على حد زعمهم، حيث اعتبر وزير الصناعة اللبناني "وائل أبو فاعور" أن إعلان "باسيل" مؤخرًا عن زيارة سوريا "ليس من أجل إعادة النازحين، بل لتتوسلوا الرئاسة، لأنه قيل لكم إن طريق الرئاسة يمر من دمشق"، وذلك على حد ما ذكره نصًّا.

2- تكلفة الإصلاحات الاقتصادية: تسعى الحكومة اللبنانية من خلال موازنة 2020 التي تعكف على تحضيرها إلى تأمين واردات جديدة لخزينة الدولة لخفض العجز والإيفاء بتعهداتها التي قطعتها للحصول على أموال مؤتمر سيدر الذي يشترط القائمون عليه ضرورة القيام بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد اللبناني، بيد أن هذه الإصلاحات عادةً ما يتحملها محدودو الدخل والطبقات المتوسطة، حيث تمثّلت الضرائب الجديدة في ضريبة للواتساب، وضريبة على القيمة المضافة والمحروقات، فيما يتم استثناء القطاع المصرفي الذي يحقق أرباحًا طائلة، مما ساهم في تأجيج الغضب الشعبي.

3- سياسات التمييز الوظيفي: تشير العديد من التحليلات إلى ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب في لبنان، ومما فاقم من غضب الشباب اللبناني ودفعه إلى المشاركة بكثافة في الاحتجاجات الحالية ممارسات السلطة الحالية التي تقوم على انتهاج سياسة زبائنية في التوظيف، حيث تعمد إلى حصر وظائف الدولة بمناصريها في مخالفة لقوانين التوظيف العام، كما يتم تعطيل نتائج مباريات مجلس الخدمة المدنية التي تتيح إلحاق الكفاءات بالوظائف العامة. وفي هذا السياق، اعتبر النائب "بلال عبدالله" أن "أولى خطوات الإصلاح للحكومة، وقف التوظيف العشوائي بشتى أنواعه خارج مجلس الخدمة المدنية، واحترام نتائج كل المباريات التي أجراها المجلس وفق القوانين والأنظمة، وإنصاف مئات الشابات والشباب الناجحين المؤمنين بالوطن خارج الطوائف والمذاهب والمحاصصة".

سيناريوهات محتملة:

يمكن القول إن هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة ستواجه الأوضاع في لبنان، وتتمثل فيما يلي:

1- نجاح مبادرة "الحريري": حيث يعكف رئيس الحكومة "سعد الحريري" على تكثيف لقاءاته مع القوى السياسية المشاركة في الحكومة من أجل إعداد ورقة اقتصادية يعرضها على اللبنانيين تحدد آليات الخروج من الأزمة قبل انقضاء مهلة الـ٧٢ ساعة التي حددها كفرصة أخيرة أمام شركائه، ويعترض إتمام هذا السيناريو عقبتان أساسيتان، أولاهما اتفاق مكونات الحكومة على تفاصيل هذه الورقة التي يفترض أن تحتوي على إجراءات خصخصة قطاعي الاتصالات والكهرباء، والعمل على إعداد موازنة من دون عجز بعد تدخل ومساعدة مصرف لبنان وجمعية المصارف، ورفع الضريبة المقررة على أرباح المصارف، وإنهاء الضرائب التي تمس ذوي الدخل المحدود. وتكمن العقبة الثانية في مدى اقتناع الشارع بهذه الورقة، ونجاحها في إقناعهم بإنهاء التظاهرات.

2- استمرار الحكومة الحالية: تحت حجة أن البديل لاستقالة الحكومة سيكون الفوضى العارمة والمزيد من الانهيار الاقتصادي، لأنه يستحيل تأليف حكومة جديدة لا تكون مشابهة للحالية، خاصةً أن تشكيل حكومة تكنوقراط أمر يصعب حدوثه في لبنان، كما أن إجراء انتخابات مبكرة سيكون مضيعة للوقت، لأنها ستنتج نفس موازين القوى الحالية، وهذا السيناريو يمكن أن يحدث لأن الأمين العام لحزب الله "حسن نصر الله" يؤيده بقوة، حيث اعتبر في خطاب له في 19 أكتوبر "أن الحكومة الحالية إذا عجزت عن حل المشاكل الحالية، فلن تستطيع أي حكومة جديدة حلها".

كما أنه وجّه رسالة دعم قوية لحلفائه في التيار الوطني الحر، معلنًا أنه "لا يمكن إسقاط العهد"، كما يؤيد هذا الطرح رئيس التيار الوطني الحر "جبران باسيل" الذي اعتبر أن هناك "من يركب موجة شعبية صادقة لحرفها عن مسارها لإسقاط رئيس الجمهورية والحكومة ومجلس النواب"، مشددًا على "منع الانهيار، وقيام الحكومة بعملية إنقاذ جريئة عبر إنجاز إصلاحات، وإقرار الموازنة في أيام معدودة".

وسيواجه استمرار الحكومة الحالية مشاكل كبيرة، من بينها استمرار التحركات الشعبية على اعتبار أنها لم تسمع صوت الشارع المطالب بتغيير جذري، بالإضافة إلى نشوء "معارضة برلمانية قوية"، خصوصًا بعد استقالة وزراء حزب القوات اللبنانية، وتوجه وزراء الحزب التقدمي الاشتراكي نحو الاستقالة، مما سيرفع من عدد النواب المعارضين إلى ما يقدر بحوالي 50 نائبًا.

3- استقالة الحكومة: ويتحقق هذا السيناريو في حالة اقتناع "سعد الحريري" برغبة شركائه في الحكومة بتسهيل مهمته، والتعاون لإجراء إصلاحات تستطيع امتصاص غضب الشارع، وهذا الطرح سيفتح الأوضاع في لبنان على واقع سياسي جديد مفتوح على كل الاحتمالات.