أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

استيعاب الخلافات:

نجاح الرئيس الفرنسي في التوصل لتفاهمات اقتصادية مع واشنطن

12 ديسمبر، 2022


اختتم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في 2 ديسمبر 2022، زيارته إلى الولايات المتحدة، والتي استغرقت ثلاثة أيام، في أول زيارة له خلال رئاسة جو بايدن، ناقش خلالها عدداً من القضايا والتحديات العالمية ذات الاهتمام المشترك بين البلدين.

أزمات سابقة في العلاقات:

جاءت هذ الزيارة بعد فترة طويلة من وصول العلاقة بين البلدين إلى أدنى مستوياتها، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- أزمة الغواصات الأسترالية: شهدت العلاقات بين بايدن وماكرون بداية متقلبة، إذ استدعت فرنسا لفترة وجيزة سفير بلادها لدى واشنطن العام الماضي بسبب غضبها من صفقة توصل إليها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لمساعدة أستراليا على امتلاك غواصات تعمل بالطاقة النووية، وهو الاتفاق الذي شاركت فيه بريطانيا أيضاً، وترتب عليه إلغاء أستراليا عقداً فرنسياً سابقاً لتوفير غواصات تقليدية، وهو ما أغضب باريس.

2- الحرب الروسية – الأوكرانية: شهدت الأشهر التسعة الماضية تواصلاً مكثفاً بين بايدن وماكرون مع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، وإن لم يمنع ذلك وجود خلافات بين الجانبين حول كيفية إنهاء القتال. ففي حين دعا ماكرون إلى استئناف محادثات السلام بين أوكرانيا وروسيا، ومواصلة الحوار مع موسكو، أكد بايدن أن هذا القرار لا يمكن أن تتخذه سوى كييف. 

وباختصار، بدا واضحاً أن ماكرون حريص على استعادة قنوات الاتصال مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهو ما وضح في دعوة ماكرون نظيره الأمريكي، من دون تسميته، إلى عدم التصعيد "لا بالألفاظ ولا بالأفعال" تجاه روسيا عندما وصف الرئيس الروسي بوتين بـ"مجرم حرب" قبل عدة أشهر. 

ملفات خلافية متعددة: 

ركزت الزيارة على عدة ملفات تتعلق بالعلاقات الثنائية، أو العلاقات بين ضفتي الأطلسي، وذلك على النحو التالي:

1- مواجهة الإجراءات الحمائية الأمريكية: تناولت زيارة ماكرون المخاوف الفرنسية والأوروبية من الإجراءات الأمريكية الأخيرة أبرزها "قانون خفض التضخم"، والذي تمحور حول المناخ والإنفاق الاجتماعي، كما تضمن استثمارات تزيد على أكثر من 430 مليار دولار من بينها 370 ملياراً لخفض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 40% بحلول 2030.

وتأخذ هذه الاستثمارات شكل خفض ضريبي للشركات التي تستثمر بالطاقة النظيفة، فضلاً عن دعم كبير للسيارات الكهربائية والبطاريات ومشاريع الطاقة المتجددة، طالما أن هذه المنتجات مصنوعة في الولايات المتحدة، وهو ما يعني على سبيل المثال دعم شركة "تسلا" الأمريكية وتفضيلها على شركة "بي إم دبليو" الألمانية، وهو ما يؤثر على عدد من الصناعات الأوروبية سلباً في الوقت الذي تتعامل فيه أوروبا مع تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا. لذا أثار هذا التشريع تحفظات الدول الأوروبية، التي ترى في عمليات الدعم المختلفة هذه إجراءات "تمييزية" تؤثر على شركات صناعة السيارات الأوروبية. 

وتوصل الجانبان إلى توافق حول هذه النقطة، فقد أشار بايدن خلال زيارة ماكرون إلى أنه قد يكون على استعداد لتعديل جوانب من تشريعاته الخاصة بالمناخ التي أثارت مخاوف فرنسا وحلفاء أوروبيين آخرين.

2- تباين الموقف من الصين: سعى ماكرون إلى التقارب البرجماتي مع الصين لتحقيق انفراجة في العلاقة الغربية – الصينية، بينما التزم بايدن بسياسة المنافسة مع بكين، كما حث زملاءه قادة الناتو على الوقوف في وجه الاستبداد الصيني والقوة العسكرية المتزايدة.

وعلى الرغم من هذه الاختلافات، فقد أكد الطرفان، في النهاية، على تعزيز شراكتهما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لتعزيز نظام دولي قائم على القواعد واحترام القانون الدولي، بما في ذلك حرية الملاحة. كما سيواصلون التنسيق بشأن المخاوف المتعلقة بتحدي الصين للنظام الدولي القائم على القواعد، بما في ذلك احترام حقوق الإنسان، مع التأكيد على الاستمرار في التعاون مع الصين بشأن القضايا العالمية الحاسمة مثل تغير المناخ.

وفي الواقع العملي، فقد سعت فرنسا إلى تعزيز التعاون العسكري مع الهند، ومحاولة استبدال الأسلحة الروسية التي تشتريها الهند من موسكو بأخرى فرنسية، وذلك لاعتبارات اقتصادية واضحة، بالإضافة إلى محاولة دفع الهند بعيداً عن روسيا، خاصة في ظل المساعي الغربية المستميتة لجر نيودلهي إلى تحالفات عسكرية ضد الصين، وهو الموقف الذي ترفضه الهند، حتى الآن.

3- استكشاف سبل تسوية الحرب الأوكرانية: ركزت النقاشات بين البلدين حول كيفية إنهاء الأعمال العسكرية وكيفية تقاسم عبء التأثيرات السلبية للأزمة الأوكرانية على الاقتصادات الغربية. كما جدد الزعيمان دعمهما المستمر للشعب الأوكراني، وأكدا ضرورة تزويد القوات الأوكرانية بالمساعدات المالية والعسكرية اللازمة. ولكن يبدو أن هناك فجوة كبيرة بين رغبة ماكرون في إنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية من خلال المفاوضات، ورغبة بايدن في دعم كييف حتى استعادة جميع الأراضي من سيطرة القوات الروسية.

وفي هذا السياق، دعا ماكرون الغرب إلى التفكير في كيفية معالجة حاجة موسكو إلى ضمانات أمنية إذا وافق الرئيس فلاديمير بوتين على إجراء مفاوضات لإنهاء الحرب في أوكرانيا، في حين أن واشنطن تصر على ضرورة تبني الموقف الأوكراني الذي يؤكد ضرورة انسحاب روسيا من جميع الأراضي الأوكرانية، غير أن الموقف الأمريكي طرأ عليه بعض التغير، وذلك من خلال تلميح رئيس الأركان الأمريكي، الجنرال مارك ميلي، مؤخراً ، إلى وجود فرصة محتملة للمفاوضات، فضلاً عن تململ بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي من فاتورة الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا.

4- قضايا الشرق الأوسط: تناولت الزيارة مجموعة من القضايا في الشرق الأوسط. فقد رحب الرئيسان بالانفراج التاريخي لاتفاقية الحدود البحرية الإسرائيلية – اللبنانية في أكتوبر 2022، كما رحبوا بإطلاق منتدى النقب، الذي تم تشكيله في ظل إدارة بايدن للدخول في حقبة جديدة من التعاون في المنطقة بين إسرائيل والدول الأخرى. 

وبالنسبة للعراق وسوريا، أكدا الالتزام بمكافحة الإرهاب، والعمل لإيجاد حل للصراع السوري. وفيما يتعلق بإيران، أعرب القادة عن احترامهم للاحتجاجات والمتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع منذ مقتل "مهسا أميني" بعد احتجازها بتهمة الحجاب غير اللائق، كما أكدوا ضرورة تسليط الضوء على التصعيد النووي الإيراني وأنشطتها المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط.

5- تعزيز التعاون بين البلدين: بحث الجانبان سبل تعزيز العلاقات بين البلدين في مجال الطاقة، إذ رحب الرئيسان بتعزيز التعاون في مجال الطاقة والمناخ، كما اتفقا على إنشاء مجموعة صغيرة للطاقة النووية، والتي تشمل أيضاً تعميق التعاون النووي المدني والمساهمة في سلسلة إمداد نووية موثوقة. وعلاوة على ذلك، اتفق الطرفان على تعميق التعاون في الأنشطة الفضائية الدفاعية، بما في ذلك التخطيط العسكري وتبادل المعلومات وتنسيق العمليات. 

دلالات متعددة:

عكست زيارة ماكرون الأخيرة دلالتين رمزية وسياسية، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

1- دلالات رمزية: أكدت زيارة ماكرون لواشنطن قوة العلاقة بين شطري الأطلسي، وإلى مركزية القارة الأوروبية في الاستراتيجية الأمريكية، خاصة أنها جاءت من جانب فرنسا، وليس ألمانيا أو بريطانيا، إذ إن باريس تتبنى توجهات أكثر استقلالية من واشنطن، مقارنة ببريطانيا أو ألمانيا. كما أن فرنسا تعد من أكثر الدول التي كانت تدعو إلى تعزيز الاستقلالية الأوروبية في مواجهة الولايات المتحدة، خاصة بعدما تراجع الدور الألماني، بعد تولي المستشار أولاف شولتز الحكم. أما بريطانيا، فقد تراجع دورها نسبياً، خاصة بعد البريكست، وإن ظلت لاعباً أمنياً لا غنى عنه بالنسبة للقارة الأوروبية. 

ولذلك ساهمت الزيارة في التركيز على ماكرون باعتباره الزعيم الأكثر وضوحاً للاتحاد الأوروبي، حيث جرى استقباله بمراسم زيارة الدولة مع إطلاق المدفعية وعزف النشيدين الوطنيين عند وصوله وعقد اجتماع في المكتب البيضاوي ثم عقد مؤتمر صحافي مشترك وتنظيم حفل عشاء رسمي، ليصبح أول رئيس يخصه بايدن بمثل هذا الاستقبال منذ تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة رغبة منه في تقوية العلاقات مع الشركاء التقليديين للولايات المتحدة.

2- دلالات سياسية: كشفت الزيارة على مركزية الدور الأمريكي في الشؤون الأمنية الأوروبية، خاصة مع تولي الناتو دعم أوكرانيا عسكرياً، ومحاولته توفير الحماية لدول شرق أوروبا، التي تستشعر الخوف من روسيا. كما أن الولايات المتحدة نجحت بعد عقود من الضغط على الأوروبيين لتعزيز إنفاقهم العسكري. وليس أدل على هذا النجاح، من تخطيط عدة دول أوروبية لشراء أسلحة أمريكية، وهو ما جاء على حساب الجهود الأوروبية لتعزيز التصنيع العسكري المشترك. 

وفي الختام، يلاحظ أن الهدف الرئيسي لزيارة ماكرون إلى واشنطن هو تعديل التشريع الأمريكي المتعلق بخفض التضخم، إذ أكد ماكرون أنه أخذ تطمينات من إدارة بايدن بأنه سوف يتم تعديل القانون. وفي حين أشارت، بعض التحليلات إلى أن بايدن قد يتردد في تعديل هذا التشريع الذي يعتبر إنجازاً كبيراً في ولايته لاسيما أنه انتزعه بعد معركة تخللتها مفاوضات محتدمة في مجلس الشيوخ، ناهيك عن أن هذه الإجراءات تحظى بشعبية واسعة، خصوصاً في بعض الولايات، حيث لصناعة السيارات وجود كبير، مثل أوهايو وميشغن، اللتين باتتا ولايتين رئيسيتين قد ترجحان كفة الانتخابات، فإن تحليلات أخرى أكدت احتمالية أن تجري الإدارة الأمريكية بعض التغييرات التنظيمية لتخفيف العبء على الأوروبيين، خاصة مع تصريح الرئيس بايدن بـ "إنه قد ينظر في بعض التعديلات على كيفية تنفيذ التشريع"، خاصة أن تعنته في هذا الإطار، قد يدفع الدول الأوروبية إلى بحث إصدار تشريعات وحزم دعم لصناعاتها الوطنية، وهو ما يعني عملياً اندلاع حرب تجارية بين الجانبين، وهي حرب ليس في صالح الطرفين خوضها، خاصة في ظل استمرار معانتهما من تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية.